أكثرَ القادة الإسرائيليون من إطلاق توصيفات مختلفة لحرب طوفان الأقصى انطلاقًا من صدمة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول والتي اعتبرت الحدث الأشد إيلامًا منذ المحرقة النازية.
وهذا ما دفع هؤلاء القادة وعلى رأسهم، بنيامين نتنياهو، لاعتبار تسمية “حرب السيوف الحديدية” غير مناسبة لهذه الحرب، مفضلًا تسمية “حرب القيامة” أو “حرب الانبعاث”.
لكن الخلاف على التسميات لم يحجب، في الواقع، الآثار الكبيرة لهذه الحرب ليس فقط على مكانة إسرائيل إقليميًا ودوليًا، وإنما كذلك على عقيدتها الحربية. إذ ثبت للقادة العسكريين أن كل ما كانوا يخططون له ويعملون على تجسيده اصطدم بواقع مناقض وعنيد يدفع إلى إدخال تعديلات وتغييرات قد تكون جوهرية على جملة المفاهيم التي سادت حتى الآن.
فقد بنيت نظرية الحرب الإسرائيلية تاريخيًا على ما عرف بالضربة الاستباقية، ونقل المعركة إلى أرض العدو، وحسم الحرب في أقصر فترة زمنية، وبناء القوة العسكرية لمجابهة حرب على جبهتين وأكثر. لكن الحروب الأخيرة وأبرزها حرب طوفان الأقصى أظهرت معطيات جديدة بينت محدودية وفاء نظرية الحرب التاريخية بمتطلبات الواقع الجديد الذي تشكل حول المقاومة ومحور المقاومة.
وهذا ما دفع في العقد الأخير إلى تطوير نظرية “معارك ما بين الحربين”. وتعني هذه النظرية الاستعداد الدائم لإزالة مخاطر معادية بشكل متواصل لمنع تراكمها ولإبعاد شبح الحرب الكبيرة أطول فترة ممكنة.
وفي هذا السياق، انتقلت إسرائيل من الحروب الحاسمة مرة كل عقد تقريبًا “ضد دول” والتي كانت آخرها حرب لبنان 1982، إلى عمليات حربية ضد فصائل ودول المحور في فترات متقاربة. وتطلب هذا بناء قوة تستند أولًا إلى سيادة استخبارية متميزة، وإلى تفوق جوي وبحري عالي القدرة. وأرفقت ذلك بتوسيع نطاق الوحدات الخاصة عالية الكفاءة القادرة على تنفيذ عمليات في عمق أراضي العدو.
وفي هذه الأثناء صارت إيران الخطر رقم واحد في نظر إسرائيل، بما تمثله من قوة إقليمية داعمة لكل حركات المقاومة، وما تراكمه من قدرات نووية تقربها من امتلاك سلاح نووي ينهي احتكار الدولة العبرية لهذا السلاح في المنطقة. وهذا ما دفع نحو التركيز بشكل كلي على التفوق التكنولوجي وإبراز قدراته.
ولكن، وَفق المنظور الإسرائيلي، أفلحت إيران بدأب في بناء ما بات يشكل “طوقًا ناريًا” هامًا حول إسرائيل يعقد مهمة التصدي لآثاره. ولولا الدعم الأميركي السخي جدًا في مركبات التسليح والأدوات الاستخبارية والاستثمار في منظومات الدفاع الصاروخي، لكان مأزق إسرائيل أكبر.
حرب الجبهات السبعة
سيقال ويكتب الكثير حول وضع إسرائيل الإستراتيجي في ظل طوفان الأقصى، لكن يصعب حتى على الإسرائيليين الزعم أنه صار أفضل. فأغلب التحقيقات الإسرائيلية فيما جرى تشير إلى إخفاقات تكتيكية وإستراتيجية هائلة ليس هذا مكان بحثها. ولكن هذه الإخفاقات تتعلق باختصار بالغطرسة وجنون القوة والاستهانة بقدرات العدو، وتخيل ردع ليس متوفرًا ولا يقل أهمية عن كل تلك الثقة العمياء بالتكنولوجيا.
وهذه الإخفاقات قادت عمليًا إلى إطالة أمد الحرب من ناحية، وزعزعة ثقة المجتمع الإسرائيلي بمنظومة القيم المدعاة من جانبه، وأيضًا بالقيادتين السياسية والعسكرية. وأبطلت فعليًا ذلك التفاهم حول التقاسم الوظيفيّ الذي ساد طوال تاريخ الدولة العبرية بين المؤسستَين السياسية والعسكرية، وخلقت شروخًا كبيرة بينهما.
ورغم الشعارات حول خضوع المستوى العسكري للمستوى السياسي في دولة ديمقراطية إلا أن العلاقة بين المؤسستين متداخلة، خصوصًا أن الجيش في إسرائيل يحتكر تقدير الأخطار الأمنية وطرق مواجهتها.
وفي مطلع هذا الشهر افتتح “مؤتمر إسرائيل للأعمال”، وتحدث فيه كل من الجنرال رون طال، القائد السابق للذراع البرية، والجنرال عاموس جلعاد رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السابق.
وبين ما قاله طال، “إن المعركة التي نخوضها في العام الأخير هي معركة على وجودنا كدولة يهودية، ديمقرطية وحرة في أرض إسرائيل. الأمر وجودي؛ لأن من يحاربنا لا يريد وجودنا هنا. ولم نكن نحسب أننا سندير حربًا تطول أكثر من عام من دون أن نعلم متى سوف تنتهي. هذا أمر لم يخطر ببال أي منا. عندما كنت في الجيش كانت عقيدتنا الأمنية تتحدث عن حسم في جبهتين بالتوازي، حينما كانت القوات البرية أكبر بكثير. لكننا دخلنا هذه الحرب في وقت لا يمكننا فيه أن نحسمها في جبهتين. لذلك ركزنا على جبهة غزة، وبعد ذلك انتقلنا إلى الجبهة الشمالية”.
محدودية القوة
أما جلعاد فأشار في كلمته إلى أن الخطر الإيراني كان أشد وضوحًا في التأكيد على أن مواجهته ليست ممكنة إن وقعت حصرًا على كاهل إسرائيل. واعتبر أن هذه في أفضل الأحوال مهمة أميركية إسرائيلية مشتركة.
وقال ردًا على الأصوات التي تطالب بضرب إيران بوصفها “رأس الأفعى” إنه “ليس بوسع إسرائيل الهجوم على إيران من دون الولايات المتحدة. وترامب يرغب في إغلاق النزاعات وإنهاء قضية الأسرى ولبنان. وهو لا يريد الانشغال بالإيرانيين، وكل ما يريده منهم هو ألا يمتلكوا سلاحًا نوويًا”.
وأضاف أن الإيرانيين أيضًا يرغبون في إبرام صفقة مع ترامب. إذ إن ساسة إيران الحاليين ذوو خلفية غربية، وينشئون تحالفات ينبغي لنا أن ننشئها. وفي العام المقبل ستبدأ النقاشات حول المساعدة متعددة السنوات. وستكون هذه نقاشات حادة، إذ إن ترامب لن يتحلى بالصبر. وإيران ليست مجرد مفاعل نووي، إنها منظومة شاملة، وهي بحاجة للولايات المتحدة والدول العربية. والأمر يبدأ بغزة، التي لأسباب سياسية، لم نتخذ قرارات بشأنها”.
وتفتح هذه النقطة باب الكلام عند جلعاد عن غزة الذي يعتقد أن حكومة نتنياهو الحالية عاجزة، رغم الإنجازات العسكرية، عن هزيمة حماس. قال: “إنني قلق من السياسة المتبعة. إذ ليس بوسعنا إزاحة حماس مدنيًا إذا لم نخلق بديلًا لها.
ومن أجل هزيمة حماس، ينبغي أن نوفر بديلًا مقبولًا لدى الدول العربية. فإدارة غزة عبر حكم عسكري أمر يفوق إمكاناتنا. إنها مسألة تتطلب مليارات الدولارات. وليس هناك شيء. الأمر الوحيد هناك هو الفيروسات”.
وهذا ما يستدعي في نظره إشراك الدول العربية “التي لن تأتي إذا لم تكن هناك السلطة الفلسطينية، بهذا الشكل أو ذاك، كما أوضح بايدن. والسلطة تعمل في الضفة الغربية وليس أمامنا سبيل آخر. إذ بتنا نتباعد عن مصر والسعودية.
وواضح من هذا الكلام أن الحرية التي كانت تتمتع بها إسرائيل قبل حرب طوفان الأقصى تشهد تقييدات لم يسبق لها مثيل. فالحرب أثبتت محدودية الردع الذي كان قائمًا على أساس حجم ما تمتلكه إسرائيل من قوة.
وإذا كانت عاجزة، حتى بعد 14 شهرًا من القتال عن حسم الحرب في غزة، وأنها اضطرت للتوصل إلى اتفاق وقف نار في لبنان أثار انتقادات داخلية أكثر مما لقي قبولًا، فإنها في ورطة حقيقية إن وسعت نطاق الحرب إلى ما هو أكثر من ذلك.
صحيح أن سلاح الجو الإسرائيلي أغار على ميناء الحديدة في اليمن، لكن الغارة أثبتت محدودية القوة. فإذا كانت لديها القدرة على تنفيذ عشرات أو مئات الغارات يوميًا في غزة أو لبنان، فالأمر ليس كذلك في اليمن. إذ لم تنفذ إلا غارة يتيمة، فيما استمر القصف الصاروخي اليمني على إسرائيل. بل إنه رغم تهديدات إسرائيل للفصائل العراقية، فإنها لم تنفذ تهديداتها لما في ذلك من صعوبة، وتركت الأمر فيها وفي اليمن للقصف الأميركي والبريطاني.
وقد ازداد تعقيد الموقف مؤخرًا جراء الأحداث في سوريا، حيث تولدت معطيات جديدة لم تكن متوقعة. ولم يعد كافيًا إطلاق التهديدات للنظام السوري بل صارت التهديدات توجه إلى مجموعة من القوى النشطة هناك.
وهذا تطلب الإعلان عن نوايا لاحتلال مناطق سورية بهدف تشكيل حزام أمني يمنع اقتراب أي قوات من هضبة الجولان السورية المحتلة. وطبيعي أن هذا يزيد مخاطر اشتعال جبهة جديدة كانت باردة لسنوات طويلة. وإذا كان وقف النار سيسري في لبنان تحت إشراف أميركي، فإن احتمال انفجار الوضع على الحدود السورية ليس مستبعدًا.
وفي كل حال تجد إسرائيل اليوم نفسها في وضع غير مسبوق. فبعد أن كانت تتباهى بقدرتها على تأمين مصالحها ومصالح أميركا والغرب في المنطقة من دون حاجة لمعونة أو حضور جنود أميركيين، اضطرت في هذه الحرب، أكثر بكثير حتى من حرب الخليج، للاستعانة بقوات أميركية وصلت على جناح السرعة لتنقل مئات آلاف من أطنان المعدات والذخائر. واستعانت في دفاعها الجوي لاعتراض الصواريخ بقوات أميركية وبريطانية وفرنسية وألمانية، وحتى قوات عربية متعددة.
وطبيعي أن يلقي هذا بظلاله ليس على الواقع الإقليمي والسياسة المطلوبة، وإنما أيضًا على نظرية الحرب والعقيدة القتالية الإسرائيلية. فالمحيط العربي لم يعد كله معاديًا لإسرائيل وبات منقسمًا على نفسه.
ولذلك صار جزء من العقيدة القتالية الاستناد إلى تحالفات إقليمية ضمن إطار المنظومة الغربية. وبديهي أن تجربة الحرب وإثباتها لمحدودية قوة وردع إسرائيل يستدعيان من إسرائيل التواضع في عرض قوتها ونفسها. فإن كانت إسرائيل في الماضي قوة عظمى إقليمية توصف بأنها “ميني إمبريالية” فإنها اليوم قوة تحتاج إلى آخرين كي تصمد في واقع متعرج.
ويمكن القول إن تبعات الحرب وتكاليفها والأثقال الاقتصادية الهائلة ستجد ترجمتها في ميزانية الدولة العبرية لأعوام كثيرة قادمة. فهي اليوم بحاجة ليس فقط لتغيير جزء من قوتها التي تآكلت في الحرب وإنما لإعادة تشكيل قوتها بناء على عِبر ونتائج هذه الحرب.
وكثيرون يؤمنون بأن ما أغدقته أميركا على إسرائيل في عهد بايدن لن يتكرر في عهد ترامب الراغب في تنصّل أميركا من كثير من أعباء الحماية لحلفائها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.