حالة استثنائية شكلها المخرج المصري يسري نصر الله في السينما، بقدرته على التقاط جوهر المجتمع المصري عبر لغة سينمائية، يمكن وصفها بالواقعية السحرية التي منحت أعماله حالة من التفرد، لم يكتف بالعمل ضمن الإطار التقليدي للسينما التجارية، بل صنع أفلامه وكأنها دعوة للتفكير العميق في قضايا شائكة وهامة، تجاوزت الحدود في كثير من الأحيان فشارك في فعاليات على مستوى العالم، كما أثارت أفلامه الكثير من التساؤلات حول الهوية والقيم وحقائق الحياة اليومية.
السينما حلم الطفولة
المخرج الحائز مؤخرا على جائزة الإنجاز الإبداعي عن مسيرته في مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الـ45، ولد في الـ26 من يوليو/تموز 1952 في اليوم نفسه الذي خرج فيه الملك فاروق في مصر عقب ثورة يوليو، وهو التغيير الذي صاحب حياته منذ البداية فيحكي في كتاب “سينما يسري نصر الله.. حكايات ترغب في احتضان العالم” الصادر عن المهرجان، أن عائلته اعتادت في يوم ميلاده أن تسأل ماذا سيفعل بهم جمال عبد الناصر هذه المرة؟.
كان فيلمه الأول “سرقات صيفية” مستوحى من الطفولة حول تجمع العائلة للاستماع لخطاب عبد الناصر، حتى إنه كتب في موضوع إنشاء مدرسي عن الإصلاح الزراعي ولكنه رسب بعد أن كتب ما يستمع له في المنزل، مما عرضه للضرب من الأم التي خافت أن يتم إلقاء القبض عليهم.
انجذب نصر الله بالسينما في السادسة من عمره، حين ذهب للمرة الأولى إلى السينما لمشاهدة فيلم مع والده وشقيقته، وهو فيلم “رحلة إلى مركز الأرض” وفي هذه اللحظة عرف أن السينما هي أكثر ما يحبه في العالم، وبدأ يسأل عن هوية صانع الفيلم حتى إنه كان يسجل في دفاتره المدرسية شعار “سينما سكوب” إخراج يسري نصر الله، وكان ينتظر أسبوعيا الذهاب إلى السينما.
شكلت تجربة أخرى جزءا من طفولته، عندما شاهد إعلانا ترويجيا لفيلم “نفوس معقدة” لهيتشكوك، الذي كان مخصصا للكبار فقط. ظل لسنوات يتخيل أحداث الفيلم، مما جعل علاقته بالسينما ترتبط بما يحلم برؤيته، ليصبح الخيال بوابته لعالم السينما.
شخصيات مؤثرة
في طفولته، تأثر يسري نصر الله بالمخرج الكبير شادي عبد السلام، الذي كان يسكن في الطابق الأول من نفس البناية بحي الزمالك العريق. شكلت هذه العلاقة نافذة أولى لتحقيق حلمه السينمائي. يروي يسري في كتابه أن وجود شادي عبد السلام أضفى سحرا خاصا على حياته، حيث كان يسارع بالركض نحوه ليستقل سيارته حتى نهاية الشارع، مستمتعا بأحاديثه عن السينما. لم تقتصر العلاقة على الأحاديث فقط، بل أجرى يسري حوارات مع شادي نُشرت في مجلة مدرسته الألمانية، كما كتب مقالا مطولا عن فيلم “المومياء”، أرفقه بصور ورسومات حصل عليها من شادي.
لاحقا، أصبح يسري يزور مكتب شادي عبد السلام بانتظام، حيث تعرف على رموز سينمائية بارزة مثل رأفت الميهي، داود عبد السيد، وعاطف الطيب.
أما دراسته الأكاديمية، فقد التحق يسري بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، إذ لم يكن معهد السينما في ذلك الوقت يقبل الطلاب إلا بعد حصولهم على مؤهل جامعي. وبعد عام التحق بالمعهد، لكنه سرعان ما قدم استقالته، متمردا على قيود شعر بأنها تحدّ من خياله السينمائي. عاد بعدها لإكمال دراسته في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.
لكنه اعتبر لاحقا أن يوسف شاهين هو المدرسة التي تعلم من خلالها السينما ومعنى الإخراج فقال عنه: “يوسف شاهين علمني أن أبحث عن الحقيقة حتى لو كانت غير مريحة.. لكنني أردت أن أخلق طريقي الخاص، طريقا يمتزج فيه حب الواقع والسحر”.
عمل نصر الله في البداية مع شاهين مُنقح سيناريو في “وداعا بونابرت”، قبل أن يعمل مساعدا للإخراج في “إسكندرية كمان وكمان”، وعلى الرغم من تأثره بشاهين لكنه اختار أن يكون له مسارات خاصة ومختلفة وأفلام تحمل بصمته.
أطفال فلسطين.. حكايات لم تُروَ بعد
لم يكن فيلم “باب الشمس” المحطة الوحيدة التي سعى فيها المخرج صاحب الـ72 عامًا لتوثيق ما يحدث في فلسطين، إذ تجسد اهتمامه بالقضية الفلسطينية منذ بداياته المهنية. في عام 1978، لبّى دعوة صديقته الفلسطينية ريما سالم، التي كانت تعيش في القاهرة، للسفر إلى بيروت بهدف إنتاج فيلم عن الأطفال الفلسطينيين بمناسبة “عام الطفل”.
وعدته ريما بالحصول على تمويل من منظمة التحرير الفلسطينية، وهناك انخرط في تجربة فريدة، حيث عمل لفترة كمعلم في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، يدرس الأطفال الرياضيات واللغة الإنجليزية. خلال تلك الفترة، اقترب بشكل وثيق من عالمهم، محاولا نقل قصصهم عبر فيلم عن أطفال مخيم تل الزعتر، إلا إن المشروع لم يكتمل.
في تلك الفترة، كان يسري نصر الله يعمل أيضًا ناقدا سينمائيا في إحدى المجلات المرموقة، يكتب عن أفلامه المفضلة، التي شملت أعمال فيليني، وودي آلان، يوسف شاهين، ومحمد خان. هذا المسار قاده للتعرف على الكاتب إلياس خوري، الذي ألف رواية “باب الشمس”، والتي أصبحت لاحقا أساس فيلمه المميز المكون من جزأين: “باب الشمس: العودة” و”باب الشمس: الرحيل والعودة”.
عن تجربته مع القضية الفلسطينية، يقول نصر الله: “أردت تقديم الفلسطينيين ليس كرموز سياسية فقط، بل كبشر لهم حياتهم، أحلامهم وآلامهم. سعيت لخلق صورة إنسانية تتجاوز مجرد نقل الأخبار والأحداث”.
قضايا جدلية
في سينما نصر الله قدم مواضيع جدلية وعبر من خلال أفلامه عن حقائق حياتية وطرح أسئلة تثير العقل، وطرح من خلالها قضايا إنسانية كبرى، منذ أول أفلامه “سرقات صيفية” عام 1988، مرورا بـ”مرسيدس” 1993 و”صبيان وبنات” 1995 و”المدينة” 2000 و”جنينة الأسماك” 2008 وبعدها بعام قدم “احكي يا شهرزاد” و”بعد الموقعة” وآخر تجاربه في السينما “الماء والخضرة والوجه الحسن”، قبل أن يشارك في تجارب درامية وهى “نمرة اثنين” و”منورة بأهلها”.
ففي فيلم “المدينة” تناول حلم الهجرة لدى الشباب من خلال رؤية تجمع القسوة والأمل، وفي “مرسيدس” قدم بطلا يحمل نوعا من الهوس المجتمعي بالسلطة والمال ليعبر عن طبقات مصر المتداخلة، وفي “احكي يا شهرزاد” سلط الضوء على القضايا النسائية وكيف تتعامل النساء مع القهر المجتمعي بطرق مختلفة.
وشاركت أفلام يسري نصر الله في مهرجانات عالمية أبرزها مهرجان كان السينمائي ومهرجان برلين، كما نالت أعماله تقديرا واسعا من حيث تأثيرها الذي جعله أحد أهم الصناع في السينما المصرية رغم قلة أعماله التي لم تتجاوز الـ14 عملا، لكنه تمتع بمكانة كبيرة بسينماه التي عبرت عن قضايا الهوية والحرية والإنسانية.