ظل الموقف الفرنسي في حالة جمود طيلة العدوان على غزة خلال السنة الماضية، على غرار معظم الدول الأوروبية التي انحازت كليًا لإسرائيل بدعوى الدفاع عن النفس، إلى حدود الهجوم الذي طال قوات “اليونيفيل” (UNIFIL) على الحدود اللبنانية.
وقد شكل ذلك بداية ظهور أصوات أوروبية جديدة معارضة للحرب، في مقدمتها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي أدت تصريحاته إلى ردود فعل رافضة لمضامينها على الجانب الإسرائيلي، حيث صرح وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبوع الماضي، بإمكانية التوجه للقضاء الفرنسي ضد الرئيس الفرنسي.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل حدث تغير جوهري في مواقف فرنسا بعد العدوان على لبنان، أم إن تصريحاته ظرفية وتحكمها دوافع تقتصر على الوضع اللبناني والمصالح الفرنسية بلبنان؟ وإلى أي مدى يمكن أن يؤثر الموقف الفرنسي إيجابًا من أجل إيقاف العدوان؟
يصعب في واقع الأمر النظر إلى تصريحات الرئيس الفرنسي بكثير من الأمل والاستبشار، أي اعتبارها تجسيدًا لتغير جوهري في الموقف الفرنسي من الحرب الجارية، من الانحياز المطلق إلى النقد العلني لإسرائيل.
وما يؤشر على ذلك أنه لو حصل تغير في الموقف الفرنسي، فإن ذلك ستكون له نتائج مباشرة أو غير مباشرة على الحرب، سواء داخل المنتظم الدولي، وفي مجلس الأمن الذي تحتفظ فيه فرنسا بمقعد ضمن الخمسة المؤثرين في القرارات الدولية، أو في أروقة الاتحاد الأوروبي. لذلك، فإن تصريحات ماكرون وحركيته السياسية بخصوص لبنان تخضعان لجملة من الدوافع، منها:
أولًا: دوافع تخص الوضع الاعتباري والتاريخي للبنان لدى فرنسا في الشرق الأوسط، والحضور الفرنسي الدائم لدى لفيف من النخبة والطبقة السياسية بلبنان، إذ تعتبر فرنسا فاعلًا رئيسيًا داخل المشهد السياسي اللبناني.
ولهذا الحضور؛ الذي ضمر في السنوات الأخيرة وبقي في مستوى رمزي مع مكونات بذاتها، أبعاد تاريخية وثقافية ترتبط بالحقبة الاستعمارية، بل إلى ما قبل ذلك منذ القرن التاسع عشر زمن الحقبة العثمانية. وقد لعبت الإرساليات التعليمية والدينية والثقافية دورًا بارزًا في النصف الأخير من القرن التاسع عشر.
كما أن التعددية الثقافية والدينية والإثنية التي يتسم بها عدد من مجتمعات الجنوب، كانت – وما زالت – مطية للتدخل المبكر في شؤونها واقتسام النفوذ بها زمن الحقبة الاستعمارية. منذ ذلك الحين، لم تتخلص فرنسا من نزعتها الكولونيالية التي اتخذت لها مداخل متعددة في علاقتها بلبنان.
وقد عرف الحضور الفرنسي تراجعًا قويًا في عدد من مستعمراتها القديمة، سواء في أفريقيا، أو في غيرها من الدول التي كانت تعتبر امتدادًا سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا وعسكريًا للمصالح الفرنسية، بل بلغ الأمر إلى الانسحاب الكلي من بعضها، ليفسح المجال أمام قوى إقليمية ودولية أخرى.
يصعب في واقع الأمر النظر إلى تصريحات الرئيس الفرنسي بكثير من الأمل والاستبشار، أي اعتبارها تجسيدًا لتغير جوهري في الموقف الفرنسي من الحرب الجارية
نستذكر هذه النماذج من نقاط الاشتباك التي تخص المصالح الفرنسية في عدد من الدول، والتي أدى فيها تغير المزاج العام ضد فرنسا مع صعود قوى وطنية وإقليمية جديدة إلى غياب الدور الفرنسي عن التأثير في إيجاد حلول للأزمات الإقليمية والدولية؛ فهي قوى ارتبط صعودها وسلوكها في عدد من القضايا بامتداداتها الاستعمارية، ومن ثم فإن استحضار النماذج الأخرى يجعلنا نفسر التحرك الفرنسي في لبنان من منطلق الهواجس والمخاوف التي تسيطر على العقل السياسي الفرنسي، أي إمكانية خسارة لبنان في سياق مشتبك، وهي خسارة ستنضاف إلى باقي الخسائر التي تحصيها فرنسا تباعًا في عدد من الدول.
وبصيغة مباشرة، إن تصريحات الرئيس الفرنسي وما حدث ليست تعبيرًا عن تغير في الموقف الفرنسي، وإنما للإبقاء على حضورها في لبنان، وما يخصه في سياق النزاع الإقليمي، وفي السياق الراهن والمنحى الذي أخذه العدوان والعناصر الفاعلة فيه. وحتى لو تغير الموقف الفرنسي كليًا من الحرب؛ وهو أمر مستبعد لعدة أسباب، فإن ذلك لن يؤثر على الأحداث الجارية، بل يمكنها في أفضل الظروف والأحوال أن تبقى وسيطًا.
ولعل السؤال الذي يطرح: لماذا يُستبعد تغير كلي في الموقف الفرنسي من الحرب الجارية؟ لأن الإرادة المهيمنة في العدوان الجاري الآن، ترتبط بالإرادة الأميركية أساسًا، وإستراتيجيتها في الشرق الأوسط، التي تنبني على إنهاء أو إضعاف شامل للقوى المناهضة لإدماج إسرائيل في محيطها الإقليمي العربي.
ومن جانب آخر، نزعة اليمين المتطرف في إسرائيل المشبع بروح الانتقام، مما يبقي على الدول الأوروبية في وضعية التابع والدور الثانوي غير المؤثر، وفي مقدمتها فرنسا.
ثانيًا: دوافع تخص الروح النقدية العامة السائدة لدى الطبقة السياسية في فرنسا تجاه الحرب، تلك الروح المساندة للحق الفلسطيني والمناهضة للحرب، انتقلت من اليسار – الذي حصل على المرتبة الأولى في آخر انتخابات؛ وإن لم يكن قد حصل على تكليف للحكومة – إلى ما يمكن أن نصطلح عليه “بالدوغوليين”، أو بعض النخبة التي تنتسب إلى نفس التيار.
وقد كان موقف دومينيك دو فيلبان وزير الخارجية الفرنسي ورئيس الحكومة في عهد جاك شيراك مثالًا لانعكاسات الحرب على المخيال السياسي الفرنسي، لا سيما لدى النخبة التي تنظر لفرنسا باعتبارها قوة ينبغي أن تحافظ على استقلالها عن الولايات المتحدة الأميركية. ولعل هذا يذكرنا بموقف فرنسا من الحرب على العراق سنة 2003، وبكلمة دومينيك دو فيلبان نفسه بمجلس الأمن آنذاك.
هذا التوجه داخل فرنسا، وإن لم تكن له مشاركة وازنة في المشهد السياسي، يعتبر من امتدادات نخبة الجمهورية الخامسة في فرنسا وقيمها، مما يمنحه سلطة رمزية في النقد والنقاش السياسي ذي الصبغة العقلانية. يظهر في اللحظة الراهنة من العدوان على غزة ولبنان من خلال إسهامه الفعال في صناعة الرأي العام داخل فرنسا بخصوص الاختيارات الكبرى، والمواقف التي ينبغي أن تعبر عن فرنسا باعتبارها امتدادًا لقيم التنوير وإحدى القوى التي أسهمت في صياغة الملامح العامة لفلسفة حقوق الإنسان والحريات عقب الحرب العالمية الثانية.
لقد كانت مشاهد الخراب في غزة كفيلة باتساع دائرة النقد في المشهد السياسي الفرنسي، الذي فقد فيه الرئيس الفرنسي الأغلبية لصالح زعيم اليسار ميلونشون، الذي تزعم حركة رائدة لمناهضة العدوان والحرب، والتذكير المستمر بالتزامن مع الانتخابات الأوروبية بالأزمة الحقوقية والأخلاقية والإنسانية الناجمة عنها. مما يعني أن العدوان والحرب الجارية تنعكس بشكل مباشر على المناخ السياسي والثقافي الغربي، وهو ما يفرض ديناميات مضادة، وهنا يمكن فهم سلوك الرئيس الفرنسي.
إن اتساع دائرة النقد للموقف الفرنسي الرسمي من العدوان على غزة ولبنان في مختلف الأوساط السياسية والثقافية، ومواقف لفيف واسع من النخبة السياسية التي تدعو علنًا إلى دور فرنسي فاعل؛ لإيقاف النزيف والانتصار للحياة الإنسانية، وقبله حركة الاحتجاج التي قادها اليسار بقيادة ميلونشون داخل البرلمان وفي الشارع الفرنسي، قد مارست الكثير من الضغط على الرئيس الفرنسي.
ومن ثم، فإن الحركية السياسية الأخيرة لإيمانويل ماكرون بخصوص لبنان، قد تمت تحت وقع ضغط داخلي مكثف إزاء الصور التي ينقلها الإعلام لإعدام الحياة بغزة ولبنان. وهذا لا يخص فرنسا لوحدها، بل إن مواقف عدد من الساسة في الدول الأوروبية قد وجدوا أنفسهم محاصرين بين الصرخات الإنسانية المؤلمة التي تنقلها الصور والإعلام الجديد، وبين النزوع اللاأخلاقي لتبرير القتل والخراب، لذلك فالمواقف المعلنة من قصر الإليزيه تستهدف الداخل الفرنسي في جانب منها.
يمكن القول هنا بكلمة، إن الرئيس الفرنسي بقدر ما يسعى للحفاظ على المصالح الفرنسية في لبنان والدور الفرنسي باعتباره طرفًا متدخلًا إلى جانب قوى إقليمية ودولية أخرى، فإنه كذلك يعمل من هذا التحرك على مشاركة رمزية ضمن النقاش العام الذي يجري داخل فرنسا بخصوص العدوان، أي لامتصاص ارتدادات حركة النقد ودينامياته التي تتسع يومًا بعد يوم إزاء الانتكاسة الأخلاقية للدعم اللامشروط والانحياز المطلق لإسرائيل.
لم تكن المذابح المتكررة التي طالت المدنيين وخربت مظاهر الحياة كافية ليحدث تغير جذري في الموقف الفرنسي لصالح الحق الفلسطيني وشرعية مناهضة الاحتلال
بالنظر للأسباب السابقة بخصوص الموقف الفرنسي، فإن الدور الفرنسي لن يتجاوز مستوى الوسيط بين إيران ولبنان من جهة، والولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل من جهة أخرى، وقد ظهر ذلك في التعبير عن التزام لبنان بتطبيق القرار 1701، كما تجلى في التواصل مع إيران، وهو ما أدى إلى رد فعل لبناني حيال حديث إيران باسم لبنان.
لكن بعيدًا عن الجدل المثار بشأن تدخل الفاعلين في الإقليم، فإن مستقبل التفاوض من أجل إيجاد مخرج سياسي للحرب التي تخوضها إسرائيل في لبنان، والتي تم الإعلان أن أفقها الزمني قد يتجاوز الأسبوعين، ستكون فرنسا فاعلة فيه بشكل ما، وهذا ما يجعل لبنان يختلف عن غزة.
إن فاعلية فرنسا، وإن كانت بمستوى وسيط غير مؤثر، تمثل تحركًا سياسيًا في المجمل يخضع لحسابات المصالح الفرنسية في لبنان والمنطقة، ولا توجهه مخلفات العدوان الذي دمر قرى بكاملها، بالإضافة إلى الضاحية الجنوبية. كما سيكون انشغالها السياسي مرتبطًا بوضعية وحجم التأثير السياسي للقوى الفاعلة والمشتبكة مع إسرائيل، وفي مقدمتها ضمان نزع مخالب حزب الله اللبناني في الجنوب وإبعاده عن الحدود، بالإضافة إلى مخلفات أخرى قد يشهدها الوضع السياسي في لبنان.
ختامًا: لم تكن المذابح المتكررة التي طالت المدنيين وخربت مظاهر الحياة كافية ليحدث تغير جذري في الموقف الفرنسي لصالح الحق الفلسطيني، وشرعية مناهضة الاحتلال كما تنص على ذلك المواثيق والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان، التي كان للعقل الفلسفي والسياسي الفرنسي إسهام فعال في بلورتها، سواء في سياقات التشكل الأولى مع فلسفة العقد الاجتماعي والأنوار، أو في موازين القوة التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية، والتي احتفظت فيها فرنسا بحضور فاعل في المنظومة الدولية، أو من خلال الثقل الذي تمثله داخل الاتحاد الأوروبي.
لذلك، فإن الدور الذي يحاول الرئيس الفرنسي الاضطلاع به لا يحمل تأثيرًا نوعيًا على مسار الحرب والعدوان، إذ تحكمه هواجس فرنسية خالصة، كما أنه لا يحيد عن المتطلبات الأميركية والإسرائيلية من أجل خلق مساحات وسطى للتفاوض.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.