أثار القرار الصهيوني المدعوم بتشريع سنّه الكنيست يوم 28 أكتوبر الماضي/ تشرين الأول، بحظر عمل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) استياءً كبيرًا في الأوساط السياسيّة والقانونية المعنية بالصراع العربي الصهيوني.
يمثل هذا القرار سابقة خطيرة، كونها أوّل مرة تسعى فيها دولة عضو في الأمم المتحدة لإلغاء اتفاقية مع هيئة أممية، في ظلّ سوابق تشير إلى تنازل المنظمة الدولية عن قراراتها بضغط من القوى الكبرى، كما حدث في 1991 عندما ألغت – بضغط أميركي – قرارًا سابقًا يساوي الصهيونية بالعنصرية كانت قد أصدرته عام 1975.
نشأت وكالة الأونروا عقب نكبة 1948، ووسعت نطاق عملها بعد حرب 1967 لتشمل الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة. وقد اضطرت الوكالة مؤخرًا لفصل 10 موظفين من طاقمها؛ لتجنب أزمة مع إسرائيل التي اتهمت الوكالة بدعم الإرهاب، وأن هؤلاء الموظفين العشرة شاركوا أو ساعدوا في عملية “طوفان الأقصى”.
إثر ذلك، سارعت 18 دولة بإيقاف تمويلها للوكالة، لكن 17 دولة منها عادت عن قرارها، بعد أن كشف التحقيق أن الاتهامات لم تكن صحيحة، وأن الأمر لم يعدُ واقعة فردية اتخذت الوكالة إجراء مناسبًا. ومع ذلك، مضت إسرائيل قُدمًا في منع المساعدات للاجئين من خلال التشريع الذي أقرّه الكنيست، مستمرة في نهج العقاب الجماعي.
لا يقتصر هدف القرار الصهيوني على الضغط على الفلسطينيين عبر حرمانهم من الخدمات الصحية والتعليمية والإنسانية التي تقدمها الأونروا، بل يتجاوز ذلك نحو إنهاء قضية اللاجئين برمتها، وخاصة القرار الأممي رقم 194 الصادر في 11 ديسمبر/ كانون الأول 1948 الذي ينصّ على حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وتعويضهم واستعادة ممتلكاتهم. وهو القرار الذي يمسّ حقوق أكثر من 900 ألف لاجئ فلسطيني.
تسعى إسرائيل بطريقتها هذه إلى إنهاء أزمة اللاجئين الفلسطينيين التي استفحلت بعد حرب يونيو/ حزيران 1967، ليصل عدد اللاجئين إلى أكثر من 6 ملايين لاجئ، موزعين حول العالم، أغلبهم في دول الطوق العربي.
لكن الناظر إلى خريطة مواقع عمل الأونروا يدرك للوهلة الأولى أن الهدف الإسرائيلي يستحيل تحقيقه، فالأونروا تعمل في جميع المخيمات الفلسطينية، التي يبلغ عددها 58، بينها 12 في لبنان، و9 في سوريا، و19 في الضفة الغربية والقدس الشرقية، و8 في قطاع غزة، و10 في الأردن.
في قطاع غزة وحده، يعيش 1.6 مليون لاجئ، وتدير الأونروا هناك 706 مدارس تضم حوالي 300 ألف طالب، و22 مركزًا صحيًا كبيرًا، ويعمل بها نحو 134 ألف موظف أممي.
إسرائيل لن تتمكن من البقاء طويلًا في قطاع غزة، ولو كانت قادرة على ذلك لنجح أرييل شارون في فعله. وجميع خططها التي وضعتها لليوم التالي لانتهاء الحرب، لا تشمل الاحتفاظ بغزة مرة أخرى، لأسباب لا تقتصر على تكلفة الاحتلال المادية والتبعات السياسية والإنسانية المترتبة عليه، بل لإدراكها أن المقاومة وحرب الاستنزاف ضد جيشها المنهك لن تتوقفا ما دام بقي هناك، وأن هناك تذمرًا بالفعل بين أفراده من البقاء هناك. ولذلك، لن يكون وقف عمل الأونروا (في غزة) إلا وضعًا مؤقتًا سيتم التراجع عنه فور خروج الجيش الإسرائيلي من هناك.
أما مخيمات لبنان والأردن وسوريا، فلن تشهد حظرًا لأنشطة الوكالة، لأن أيًا من هذه البلدان ليس ملزمًا بالقرار الإسرائيلي. وبهذا يتبقى 19 مخيمًا في الضفة الغربية والقدس الشرقية يقطنها 901 ألف لاجئ يمثلون 15.3% من الفلسطينيين المشمولين برعاية الأونروا، و32.9% من المخيمات التي تعمل فيها الوكالة الأممية. يقوم على رعاية سكان تلك المخيمات نحو 3.850 موظفًا أمميًا، وتدير الوكالة 96 مدرسة ترعى 46 ألف طالب، و43 مركزًا صحيًا.
بعبارة أخرى، فمن ضمن 706 منشآت تعليمية تديرها الوكالة، ستتوقف 13.6% منها، مما سيؤثر على 8.4% من الطلبة والطالبات الذين ترعاهم الوكالة. وفي القطاع الصحي، سيطال التوقف 30.7% من منشآت الوكالة البالغ عددها 140 منشأة.
بالنظر إلى الأوضاع في الضفة الغربية، قد لا يكون هناك بديل سوى تحويل الدعم العيني الذي تقدمه الوكالة إلى دعم نقدي، بمعنى أن تقوم الوكالة بتثمين قيمة خدماتها، وإيصال قيمتها بصورة ما إلى الأطراف المستفيدة، والتي ستكون بأمسّ الحاجة لهذا الدعم عندما تتوقف الخدمات الصحية والتعليمية التي تديرها الوكالة في السابع والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2025 بفعل القانون الإسرائيلي.
الأشهر القليلة القادمة ستثبت أن القرار الإسرائيلي كان خطأً فادحًا. فالشعوب الواقعة تحت الاحتلال لها حقوق مكفولة يتحملها المحتل بموجب المواثيق الدولية، وكانت الأونروا تخفف الكثير من تلك الأعباء عن إسرائيل كسلطة احتلال. لذلك، ربما يسنّ الكنيست الإسرائيلي قانونًا مضادًا إذا ما وصل إلى سدة الحكم حكومة أقل تطرفًا.
سيدرك الكيان الصهيوني بعد فترة أن سياساته هي ما يفرّخ العنف، وتخلق أجيالًا لا يخضعها الظلم، ولا يركعها أو يذلها، وستظل مصرّة على مواجهة الاحتلال بشتى الوسائل لتحقيق التحرير واستعادة حقوقها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.