مع الأيام الاولى لسقوط النظام السوري في ديسمبر/كانون الأول 2024، تراجعت عمليات تهريب المخدرات إلى الأردن بشكل ملحوظ، إلا أنها ما لبثت أن عادت بوتيرة أسرع مع بداية العام الحالي، إذ أعلنت السلطات الأردنية عن إحباط محاولتين لتهريب مواد مخدرة، تخللها اشتباكات مسلحة بين قوات حرس الحدود، مما أدى إلى مقتل مهربين وإصابة أحد أفراد الجيش الأردني.
ويبدو أن شبكات التهريب التي كانت ترتبط بشكل مباشر مع النظام المخلوع، وتعمل تحت إشراف مباشر أو برعاية غير معلنة، استغلت الفوضى الناتجة عن سقوطه لتُعيد تنظيم نفسها، وليتبين أن ما حدث لم يكن اختفاء التهريب، بل تحولا في شكله، مما يعزز الاعتقاد أن النظام المخلوع كان الأداة السياسية وحجر الزاوية في ترسيخ تجارة المخدرات كجزء من معادلة الحرب والسيطرة في المنطقة.
الفراغ الأمني.. بؤرة انتعاش
ما بين نظام سقط وآخر يعيد ترتيب أوراقه، استغلت مجموعات تهريب المخدرات والسلاح الفرصة لاستئناف نشاطها، كما يرى الباحث في الشأن السوري، صلاح ملكاوي، حيث يشير إلى أن منطقة التهريب، التي كانت تحت رعاية النظام السوري السابق في الجنوب السوري، تشهد الآن حالة من الفراغ الأمني، جعل من مدينة السويداء، جنوبي سوريا، نقطة تجمع ومقصدا لتهريب المخدرات.
ويقول ملكاوي، في حديثه للجزيرة نت، إن المهربين يتوافدون إلى السويداء من عدة محافظات سورية، أبرزها حمص، والضمير (ريف دمشق الشرقي)، والغوطة، ودرعا، والقنيطرة، بعد أن كانت تقتصر هذه الأنشطة على بعض عشائر السويداء.
ويشكل بدء فصل الشتاء عاملا رئيسيا لاستمرار عمليات التهريب، إذ يعد موسما رئيسيا لهذه الأنشطة، وتستغل المجموعات الظروف الجوية القاسية التي تقلل من فعالية المراقبة الحدودية، مثل الضباب والطقس العاصف الذي يصعّب الرصد الجوي والبري، وفق حديثه.
في المقابل، يتفق الخبراء، الذين التقتهم الجزيرة نت، على أن فصل الصيف يعد موسما للتخزين والتحضير، حيث تقوم شبكات التهريب بتأمين كميات كبيرة من المخدرات في مخابئ سرية وتطوير أساليب تهريب جديدة استعدادا لموسم الشتاء. وهذا التوزيع الموسمي للنشاطات يعكس التخطيط الدقيق لهذه الجماعات التي تستغل الظروف الطبيعية لتوسيع أعمالها.
ويرى ملكاوي أن المشكلة الرئيسية، التي تواجه المهربين بعد سقوط النظام، هي نقص المواد الخام التي كان يؤمنها لهم، مما أثر في قدرتهم الإنتاجية بشكل ملحوظ. بالإضافة إلى ذلك، يواجهون صعوبات متزايدة في تشغيل خطوط الإنتاج، وفي نقل المخدرات والأسلحة من المستودعات إلى المناطق الحدودية المحاذية للأردن، نتيجة التغيرات الميدانية.
ورغم هذه التحديات، فإن خبرتهم الطويلة في هذا المجال أتاحت لهم التكيف بسرعة مع الظروف المتغيرة، مما جعلهم قادرين على تطوير أساليب مبتكرة لضمان استمرار نشاطهم، رغم غياب عنصر الحماية والمتمثل في النظام السوري، وفق تعبيره.
انهيار عنصر التسييس
على مدى السنوات الماضية، ظهرت أدلة متزايدة تشير إلى تورط النظام السوري السابق في تهريب المخدرات، حيث كان يُتهم بتسهيل هذه الأنشطة خدمة لمصالح أفراد مرتبطين بالنظام.
ونظرت المحاكم الأردنية في عشرات القضايا تكشف عن تورط أفراد النظام السوري السابق في تهريب المخدرات والتنسيق مع المهربين، وتتضمن أسماء أبناء لعشائر تعود أصولها لمدينة السويداء، وتثبت تعاطيهم للمواد المخدرة أثناء عمليات التهريب.
ويرى الباحث في النزاعات الدولية حسن محمود جابر أن شبكات تهريب المخدرات تطورت عبر مراحل متعددة، فقبل عام 2011، كانت غير مرتبطة بالسياسة، واقتصرت نشاطاتها على حالات فردية لأغراض تجارية بحتة. لكن بعد ذلك، بدأ النظام باستخدام المخدرات كأداة سياسية، حيث تم توزيعها بالقرب من مواقع الاحتجاجات لإضفاء طابع تخريبي على المحتجين.
ومع تصاعد العمل العسكري بين النظام السابق والجيش الحر، لجأ النظام وأفراده إلى تعاطي المواد المخدرة لتعزيز قدرتهم على القتال وتحفيزهم في ساحات المعارك، وفق حديثه.
ويؤكد جابر، في حديثه للجزيرة نت، أن النقلة النوعية في ملف المخدرات كان في العام 2018 بعد أن تبلورت ملامح شبكات تهريب المخدرات المنظمة، وأصبحت ذات طابع سياسي، بقيادة النظام السوري وأجهزته السابقة، وعلى وجه الخصوص الفرقة الرابعة وبعض الأجهزة الفرعية.
وبسقوط النظام السوري، يقول جابر إن عنصر التسييس الممنهج والتداخل السياسي والاقتصادي والأمني مع شبكات التهريب قد سقط. وذلك، لا يعني القضاء الكامل على شبكات التهريب، حيث ستستمر بعض الممارسات التي يقوم بها أفراد من الجنوب السوري بشكل مستقل عن النظام، كونها تملك الخبرة الكافية.
في حين يرى الخبير العسكري، أيمن الروسان، أنه ليس من السهل انتهاء عمليات التهريب، إلا أن استمرارها بعد سقوط النظام بفترة قصيرة يؤكد وجود مخابئ سرية ومصانع لم يتم الكشف عنها حتى الآن، فكما توجد فلول للنظام السابق، هناك أيضا فلول للمهربين.
شبكات التهريب
تتم عمليات تهريب المخدرات من سوريا إلى الأردن عبر وسيلتين رئيسيتين. الأولى تعتمد على النمط التقليدي باستخدام معبر جابر-نصيب الحدودي، حيث تُخَبَّأ المخدرات داخل شاحنات النقل.
أما الوسيلة الثانية، فتتمثل في التسلل البري عبر الشريط الحدودي من قبل أفراد العصابات باستخدام عربات نقل، أو من خلال اشتباكات مباشرة مع الجيش الأردني.
بالإضافة إلى ذلك، تُستخدم الطائرات المسيرة أو المقذوفات الجوية، حيث تشير سجلات الأردن بين أغسطس/آب 2023 ويوليو/تموز 2024 إلى إسقاط وضبط أكثر من 15 طائرة مسيرة محملة بالمخدرات وبعضها بالأسلحة، بحمولة تتراوح بين كيلوغرامين و35 كيلو غراما، وفق ما ورد في كتاب “حرب الشمال” الصادر في ديسمبر/كانون الأول 2024.
وتُدار هذه الأنشطة عبر شبكات تهريب فرعية وليس كهيكل موحد، إذ تشير المعلومات الواردة في الكتاب إلى وجود نحو 150 شبكة تهريب نشطة في الجنوب السوري، حيث يتراوح عدد أفراد كل شبكة بين 20 و150 عنصرا، وتتوزع أدوار هذه العناصر بين حَمَالة ينقلون المواد المخدرة ومسلحين يتولون مواجهة قوات حرس الحدود.
وتشير الأرقام الرسمية الصادرة عن الجيش الأردني إلى ارتفاع وتيرة عمليات التهريب على مدى السنوات الماضية، إذ أحبط الجيش الأردني أكثر من 1700 محاولة تسلل بهدف التهريب في الفترة ما بين 2020 وحتى منتصف 2023 محاولة، وهو ما يعني وجود 485 محاولة في السنة الواحدة.
وتشير التقديرات الواردة في الكتاب إلى أن العدد الإجمالي لعناصر شبكات التهريب في الجنوب السوري يبلغ بضعة آلاف، معظمهم من سكان المنطقة.
ويتجه جزء كبير منهم إلى هذا النشاط نتيجة الفقر وتردي أوضاعهم المعيشية، بينما تتألف القيادات غالبا من أفراد ذوي أسبقيات جرمية، وتُعد منطقتا الحماد والشعاب، المحاذيتان للحدود الأردنية، من أبرز المناطق التي تشهد نشاطا مكثفا في عمليات التهريب.
ويؤكد ملكاوي أن هناك تجارا داخل الأردن ينتظرون شحنات التهريب القادمة من سوريا، حيث يتورط بعض سكان القرى الشمالية القريبة من الحدود في شبكات تهريب المخدرات، مدفوعين بظروف معيشية صعبة مثل الفقر وتدني مستوى الخدمات. وتُسهم الروابط العشائرية في تسهيل عمليات التهريب بشكل كبير.
ويرتبط دور تجار الداخل الأردني بنقل شحنات المخدرات باتجاه الحدود السعودية، التي تشكل وجهة رئيسية لهذه الأنشطة، وفق ملكاوي.
ويعزو كتاب حرب الشمال غياب الاشتباكات المسلحة مع المهربين على الحدود الأردنية-السعودية إلى اختلاف طبيعة المهربين من حيث العدد والتسليح والاستعداد للاشتباك، بالإضافة إلى طول الحدود بين الجانبين، مما يجعل التعامل معهم مختلفاً عن المهربين على الحدود الأردنية-السورية.
غياب التنسيق
يتفق الخبراء -الذين تحدثنا معهم- على أن غياب اتفاق بين الإدارة السورية الجديدة واللواء الثامن، الذي يسيطر على مناطق واسعة في الجنوب السوري، يشكل عقبة كبيرة تؤثر سلبا على جهود مكافحة تهريب المخدرات.
ويعد اللواء الثامن، الذي يتمتع بنفوذ عسكري وأمني كبير في تلك المناطق، لاعبا محوريا في ضبط الأمن وتأمين الحدود. ومع غياب التنسيق والتفاهم بين الطرفين، أتيحت فرصة أوسع لشبكات التهريب للتحرك واستغلال الفراغ الأمني لتنفيذ عملياتها، وفق الخبراء.
ويقول جابر إن ضبابية إمكانية التعاون بين الطرفين يؤخر إنشاء حملات أمنية واضحة ومنظمة لمحاربة تهريب المخدرات، واللواء الثامن وحده غير قادر على مواجهة شبكات تهريب المخدرات النشطة، والتي تتمتع بخبرة كبيرة في التهريب، وتمتلك مخازن وتقنيات متطورة تعزز قدرتها على مواصلة أنشطتها.
ويرى جابر أن الإدارة السورية الجديدة تنظر إلى ملف المخدرات كقضية ضرورية، لكنه لا يحتل صدارة أولوياتها في الوقت الراهن.
ويتفق مع هذا الرأي الروسان في حديثه للجزيرة نت، حيث يشير إلى أن الإدارة السورية الجديدة منشغلة بمعالجة الملفات الداخلية وإصلاح الفوضى التي خلفها النظام السابق في المؤسسات السورية، والتي تحتاج إلى إعادة بناء وهيكلة شاملة.
ويقول الباحث ملكاوي إن غياب التنسيق بين الأطراف المعنية شكّل عبئا على الأردن، حيث اضطر إلى اتخاذ دور مضاعف لحماية حدوده، مما قد يؤدي إلى تغيير قواعد الاشتباك وجعلها أكثر شدة، خاصة بعد إصابة ضابط في الجيش الأردني في يناير/كانون الثاني الحالي.
وكان في منتصف 2023، قد شُن ضربات لمواقع في الجنوب السوري، بوساطة طائرات حربية يعتقد أنها أردنية ضد أهداف في منطقة اللجاة بين محافظتي درعا والسويداء جنوبي سوريا تضم تجار مواد مخدرة.
وفي العام نفسه، شنت طائرات حربية -يرجح أنها أردنية- غارات جوية جنوبي سوريا، استهدفت “مخابئ” لمهربي مخدرات ردا على عملية تهريب “كبيرة” كانت قادمة من سوريا.
إلى جانب الجهود العسكرية، تبنى الأردن أيضا نهجا دبلوماسيا مع النظام السوري السابق، ولا يزال يناقش الملف مع الإدارة السورية الجديدة، حيث تم الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة لمكافحة تهريب المخدرات والأسلحة.
ويرى الخبراء أن اتخاذ خطوات عسكرية ليس أمرا مستبعدا إذا استمرت المجموعات في تحدي الأردن، إذ يمكن أن ينفذ عمليات استباقية، وهو ما يمكن تبريره بموجب القانون الدولي الذي يسمح بهذا النوع من التدخل لحماية الأمن القومي.
في الختام، يظل تهريب المخدرات أحد التحديات الكبيرة التي تواجه المنطقة حتى بعد سقوط النظام السوري السابق، حيث شهد هذا النشاط تحولا ملحوظا. وعلى ما يبدو، غاب الطابع السياسي الذي كان يميز هذه العمليات في السابق ليحل محله الطموح التجاري والربح.