أن يمر 75 سنة على تأسيس وكالة الأونروا دون عودة اللاجئين وتطبيق القرار الأممي رقم 194 لتاريخ 11/12/1948، يعدّ هذا وصمة عار في جبين الأمم المتحدة. ففي أربعينيات القرن الماضي مثلًا تدخلت عصبة الأمم المتحدة وأعادت مئات الآلاف من اللاجئين من جنوب القوقاز، وفي تسعينيات القرن الماضي وخلال 10 سنوات فقط تدخلت الأمم المتحدة واستطاعت أن تعيد أكثر من عشرة ملايين لاجئ إلى ديارهم الأصلية في رواندا وتيمور الشرقية وموزمبيق وغواتيمالا وكوسوفا غيرها.
ولكنها في مقابل ذلك تقف عاجزة أمام عودة اللاجئين الفلسطينيين بعد أكثر من سبعة عقود ونيف في تحدٍ صارخ لإرادة وصمود اللاجئ الفلسطيني الذي يرفض كافة مشاريع التوطين والتهجير أو حتى الابتعاد جغرافيًا عن مسقط رأس أجداده بانتظار العودة.
إذ تشير التقديرات بأنه لا يزال حوالي 48% من اللاجئين الفلسطينيين يعيشون في فلسطين التاريخية في الضفة الغربية وقطاع غزة وأراضي 48 (أكثر من نصف مليون فلسطيني مهجّر)، و40% لا يزال يعيشون حول فلسطين في لبنان وسوريا والأردن. وبهذا تعتبر قضية اللاجئين الفلسطينيين أقدم مشكلة لاجئين في العالم وأكبر مشكلة، فحوالي 70% من أبناء الشعب الفلسطيني، لاجئون.
وكالة مؤقتة
تأسست وكالة الأونروا “المؤقتة” – والتي لا تزال تحمل هذا المسمى حتى يومنا هذا – وفق القرار 302 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 8/12/1949 على أن تُغلق أبوابها بعد 12 شهرًا فقط من التأسيس، يجري خلالها تطبيق القرار الأممي رقم 194 الصادر عن الجمعية العامة بتاريخ 11/12/1948 والذي أكد على ثلاثة حقوق: (العودة، والتعويض، واستعادة الممتلكات).
تم توكيل المهمة إلى اللجنة التي انبثقت عن القرار وسميت بـ “لجنة التوفيق الدولية حول فلسطين” والتي تشكلت من كلٍّ من تركيا وفرنسا وأميركا، وللأهمية ووفقًا للبند الرابع من قرار إنشاء الأونروا، تم تعيين لجنة استشارية مكونة من 7 دول: (أميركا، بريطانيا، فرنسا، مصر، الأردن، سوريا وتركيا)، بهدف “تقديم النصح ومساعدة المفوض العام للأونروا في تنفيذ مهام ولاية الوكالة”.
بعد 75 سنة أصبح عدد أعضاء اللجنة الاستشارية 29 عضوًا، بالإضافة إلى 4 أعضاء مراقبين: (دولة فلسطين، والاتحاد الأوروبي، وجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي).
وعلى الرغم من تعطيل عمل “لجنة التوفيق” منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي، فإنها لا تزال موجودة في الأمم المتحدة حتى يومنا هذا، وتقدم تقريرها السنوي مطلع شهر سبتمبر/أيلول من كل عام، مع التأكيد على المهام التي انبثقت لأجلها، لكن ما يمنع إعادة إحيائها وتنفيذ مهامها موازينُ القوى في المطبخ السياسي الدولي في الأمم المتحدة، وممارسة سياسة الكيل بمكيالين والمعايير المزدوجة لصالح دولة الاحتلال.
إنهاء الأونروا لا يُسقط حق العودة
لطالما ارتبط وجود وكالة الأونروا بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وهو ما أكدت عليه ديباجة القرار 302 والفقرة 5 والفقرة 20 من القرار بأن عمل وكالة الأونروا يجب ألا يخل بتطبيق الفقرة 11 من القرار 194.
ابتداءً من الأول من مايو/ أيار من العام 1950 بدأت الأونروا فعليًا بتقديم خدماتها: (الصحة والإغاثة والتعليم) لما يقارب من 750 ألف لاجئ فلسطيني ليصبح العدد بعد 75 سنة 5.973.022 لاجئًا مسجلًا حسب التقرير السنوي للأونروا للعام 2023، يعيشون حاليًا في 58 مخيمًا، معترَفٍ بها جغرافيًا وديمغرافيًا من قبل الدول المضيفة والأونروا، بالإضافة إلى مئات التجمعات (19 مخيمًا في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، 8 مخيمات في قطاع غزة، 12 مخيمًا في لبنان، 9 مخيمات في سوريا و10 مخيمات في الأردن).
وقد عرّفت “الأونروا” المخيم بأنّه “عبارة عن رقعة أرض خصصتها السلطات المضيفة للأونروا من أجل توفير الإقامة للاجئي فلسطين، وإقامة المرافق التي تلبّي احتياجاتهم” وكذلك عرّفت اللاجئ الفلسطيني بأنه “الشخص الذي كان يقيم في فلسطين خلال الفترة من 1/6/1946 حتى 15/5/1948 والذي فقد بيته ومورد رزقه نتيجة حرب 1948”.
تُعد “الأونروا” أكبر وكالة تابعة للأمم المتحدة تعمل في المنطقة، حيث بلغ عدد موظفيها حتى العام 2023 حوالي 30 ألف موظف محلي، و150 موظفًا دوليًا في مناطق عملياتها الخمسة، ومكاتب الرئاسة، وهي تُعبر عن المسؤولية السياسية الدولية تجاه قضية اللاجئين الفلسطينيين، بخلاف المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التي تُعبّر عن المسؤولية الإنسانية تجاه جميع اللاجئين في العالم.
وفي مؤشّر على الأهمية السياسية والقانونية للوكالة تُجدد الجمعية العامة للأمم المتحدة تفويض عمل الأونروا كل ثلاث سنوات، وفي التجديد الأخير في العام 2023 حصلت الوكالة على 168 صوتًا، وتستمر الولاية الجديدة إلى العشرين من شهر يونيو/ حزيران 2026.
وتُعبر الدول الأعضاء عن الأسباب الموجبة للتجديد بأن الأونروا حاجة إنسانية ضرورية وملحة لملايين اللاجئين الفلسطينيين وعنصر أمان واستقرار في المنطقة. حتى إن العام 2024 تميز بحصد الأونروا عددًا من الجوائز لقاء دورها الإنساني المحوري تجاه اللاجئين الفلسطينيين، وعلى سبيل المثال لا الحصر: (جائزة قبرص للسلام، جائزة منتدى الدوحة، جائزة إغناسيو إلكوريا من حكومة إسبانيا) حتى إنه تم ترشيح الوكالة لجائزة نوبل للسلام.
يعتقد البعض بأن إنهاء عمل الأونروا سيُنهي حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة أو بأنه سيُسقط مسمى لاجئ من الأجندة السياسية الفلسطينية، فحق العودة هو حق فردي وجماعي ولا يسقط بتقادم الزمن، ومن الحقوق غير القابلة للتصرف، علاوة على أن هذا الحق محميٌّ بالقوانين والقرارات الدولية، سواء القرار 194 الذي جاء قبل تأسيس الأونروا بسنة كاملة، أو على مستوى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 المادة 13، التي تتحدث عن حق العودة لكل لاجئ إلى بلده ولو بعد حين، ومكفول بالمادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لتاريخ مارس/ آذار/1976، وكذلك مكفول بالمادة الخامسة من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري لتاريخ ديسمبر/ كانون الأول/ 1969، وهذا الحق مكفول قبل كل ما سبق بإرادة أكثر من 8 ملايين لاجئ فلسطيني.
التبرُّع الطوعي والأزمة المزمنة
عندما تأسست الأونروا كان التبرع المالي الطوعي من الدول مُبررًا على اعتبار أن الوكالة مؤقتة وستغلق أبوابها قريبًا مع عودة اللاجئين، أما وبعد مرور سبعة عقود ونيف ومع زيادة أعداد اللاجئين وحاجاتهم بات من الضرورة أن تتحول إلى ميزانية ثابتة من الأمم المتحدة أو على الأقل تكون قابلة للتنبؤ، بحيث لا تتأثر خطة تنفيذ البرامج.
فالدول لا تعتبر واجبها تقديم وجبات ساخنة، وما يحركها لتقديم حصص مالية لهذه الوكالة أو غيرها إنما هو تحقيق مصالحها. وفي المقابل فالأونروا ليست جمعية خيرية أو مؤسسة أهلية أو منظمة غير حكومية كي تقوم هي بنفسها بجمع المبالغ المطلوبة لتغطية خدماتها، فالمطلوب حمايتها والحفاظ عليها ودعمها من الأمم المتحدة نفسها التي أنشأتها.
في تناقض لافت تحصل الوكالة على تأييد ودعم معنوي وسياسي من الجمعية العامة، وجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي ومنظمات دولية، يقابله شحّ بل تراجع في التمويل، وهذا يؤثر على طبيعة الخدمات التي تقدمها الوكالة: (الصحة، والتعليم، والإغاثة، وأعمال البنى التحتية في المخيمات، وبرامج القروض والحماية)، ومع عدم ثبات الميزانية السنوية وإيفاء الدول بتعهداتها المالية، يُشكل هذا حالة إرباك لتنفيذ الخطط والبرامج وأحد المعوقات الرئيسية لاستمرارية عمل الوكالة وقطع شريان الحياة للاجئين.
الحقبة السوداء
شكلت الفترة الأولى للرئيس الأميركي دونالد ترامب التحدي الأبرز لاستمرارية عمل الوكالة، إذ قطع عنها التمويل الأميركي البالغ 360 مليون دولار سنويًا (تُشكل حوالي ثلث الميزانية السنوية)، كما تعرضت لحملات تشويه منظمة تكاملت مع دعوات دولة الاحتلال الإسرائيلي لشطب الوكالة بدعوى أنها “معادية للسامية” و”تحرض على الإرهاب”، لكن الوكالة استطاعت أن تنجو بفضل جهود مفوضها العام السابق بيير كرينبول الذي أطلق حملة “الكرامة لا تقدر بثمن” .
أثناء وجودها في القدس المحتلة بتاريخ 11/6/2017 طلب نتنياهو من سفيرة أميركا لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي، العمل على تفكيك وكالة الأونروا، ونقل خدماتها للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين (UNHCR)، وبتاريخ 8/1/2018 نشرت صحيفة “يسرائيل هيوم” العبرية تصريحات لنتنياهو بأن “وكالة الأونروا منظمة تتسبب بإدامة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وإدامة حق العودة الذي يهدف إلى إزالة إسرائيل، ولهذه الأسباب يجب إغلاقها”، وأن “على الإدارة الأميركية أن تقلص بالتدريج دعم الأونروا عبر تحويل الأموال إلى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين”.
وقالت الصحيفة إن نتنياهو “يوافق على الانتقادات الحادة التي وجهها الرئيس ترامب إلى الأونروا”، وأن “الأونروا المنظمة المنفصلة قد أُنشئت قبل 70 عامًا فقط للاجئين الفلسطينيين في حين أن المفوضية العليا قائمة لجميع اللاجئين الآخرين في العالم، الأمر الذي أدى إلى وضع يتلقى فيه أحفاد اللاجئين الفلسطينيين غير اللاجئين دعم الأونروا، وخلال 70 عامًا إضافية سيكون هناك أحفاد لهؤلاء الأحفاد، ولذا يجب إنهاء هذا الوضع”، وفي 29/7/2018، تم الإعلان عن مشروع أميركي يحدد عدد اللاجئين الفلسطينيين بـ 40 ألفًا فقط، وهم من تبقى ممن عاصروا النكبة في العام 1948، ولكن كما قلنا لم ينجح ذلك في القضاء على الأونروا.
بعد طوفان الأقصى اتخذ الاحتلال خطوات شرسة تجاه الأونروا، ربما أبرزها مزاعم بارتباط موظفين عاملين فيها مع حركة “حماس” وبأنهم قد شاركوا في عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، تسببت تلك المزاعم بتعليق 18 دولة تمويلها للوكالة، ولكن 17 من تلك الدول تراجعت عن قطع التمويل بعد أن تبين أن الأغلبية الساحقة من التهم كيدية، وتحدثت الإدارة الأميركية عن استئناف التمويل للوكالة في آذار/ مارس 2025.
عمل الاحتلال على تدمير أكثر من 190 من منشآت الوكالة في غزة وقتل 247 من موظفيها، وتسبب في نقص عدد موظفيها في غزة من 13 ألف موظف إلى ما يقارب من الخمسة آلاف بحكم الأمر الواقع.
ستكون الأونروا مع تحدٍّ جديد شديد الخطورة عندما يتسلم الرئيس الأميركي دونالد ترامب مهام منصبه مجددًا في العشرين من شهريناير/ كانون الثاني 2025، والذي يتواكب مع إقرار الكنيست الإسرائيلي قانونين في 28/10/2024 يحظران عمل الأونروا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويدخلان حيز التنفيذ في 30/01/2025، ضاربة عرض الحائط بتصريحات رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة فيليمون يانغ الذي اعتبر هذين القانونين، “انتهاكًا لميثاق الأمم المتحدة والقرارات الدولية” مؤكدًا أن أي هجوم على الوكالة “يُشكل هجومًا على المجموعة الدولية التي اعتمدت قرار 302 عام 1949 بغالبية كبيرة دون اعتراض”.
إزاء التحديات السابقة، وفي ظل انصياع المفوض العام للأونروا فيليب لازاريني للضغوط الإسرائيلية وآخرها إصداره قرارًا بنقل الموظفين الدوليين العاملين في الأونروا من مقرها في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية إلى مراكز عمل أخرى، سنكون أمام مرحلة أكثر عدوانية وأشد خطورة على استمرارية عمل الوكالة، ليس فقط في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، وإنما في بقية الأقاليم التي تعمل فيها الوكالة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.