من شأن الانتصار الساحق الذي حققه دونالد ترامب والحزب الجمهوري أن يؤدي إلى تغييرات كبرى في مجالات سياسية مهمة، من الهجرة، إلى أوكرانيا، لكن أهميته تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، لأنها تمثل رفضا حاسما من قبل الناخبين الأميركيين لليبرالية والطريقة الخاصة التي تطور بها فهم “المجتمع الحر” منذ ثمانينيات القرن الـ20.
بهذه المقدمة افتتح المفكر الأميركي ذو الأصل الياباني فرانسيس فوكوياما مقالا في صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، قال فيه إن ترامب عندما انتُخِب لأول مرة عام 2016، كان من السهل الاعتقاد بأن هذا الحدث شاذ، لأنه ترشح ضد خصم ضعيف لم يأخذه على محمل الجد، وفي كل الأحوال لم يفز بالتصويت الشعبي، ثم فاز الرئيس جو بايدن بعد 4 سنوات، فبدا وكأن الأمور عادت إلى طبيعتها بعد فترة رئاسية كارثية استمرت فترة واحدة.
لكن بعد تصويت يوم الثلاثاء، يبدو الآن أن رئاسة بايدن هي “الحالة الشاذة”، وأن ترامب يدشن حقبة جديدة في السياسة الأميركية وربما العالمية، لأن الأميركيين صوتوا وهم على علم تام بمن هو ترامب وبما يمثله.
مرحلة جديدة
واستعاد الجمهوريون مجلس الشيوخ ومتمسكون بمجلس النواب، وهم بالتالي بهيمنتهم الحالية على المحكمة العليا أيضا، يحتفظون بجميع مؤسسات الحكم الرئيسية.
وتعليقا على الطبيعة الأساسية لهذه المرحلة الجديدة من التاريخ الأميركي، أبدى فوكوياما رأيه في الليبرالية الكلاسيكية التي يعتبرها عقيدة مبنية على احترام الكرامة المتساوية للأفراد من خلال حكم القانون الذي يحمي حقوقهم، وقدرة الدولة على التدخل في هذه الحقوق، وقال إنها تعرضت لتشويهين كبيرين في العقود الأخيرة.
التشويه الأول كان صعود “الليبرالية الجديدة”، التي تقدس الأسواق وتقلل من قدرة الحكومات على حماية المتضررين من التغيير الاقتصادي.
والتشويه الثاني صعود سياسات الهوية أو ما قد يطلق عليه “الليبرالية المستيقظة”، واستخدام سلطة الدولة بشكل متزايد، ليس في خدمة العدالة، بل لتعزيز نتائج اجتماعية محددة لمجموعات خاصة.
تهديد
وقد أدى صعود هذه المفاهيم المشوهة لليبرالية -حسب فوكوياما- إلى تحول كبير في الأساس الاجتماعي للسلطة السياسية، مما أشعر الطبقة العاملة أن الأحزاب السياسية اليسارية لم تعد تدافع عن مصالحها، وبدأت في التصويت لأحزاب اليمين، وبالتالي انتصر الجمهوريون بأصوات الناخبين من الطبقة العاملة البيضاء.
وأشار فوكوياما إلى أن ترامب لا يريد فقط دحر الليبرالية الجديدة والليبرالية المستيقظة، بل إنه يشكل تهديدا على الليبرالية الكلاسيكية نفسها في عدد من القضايا، بالتالي لن تكون رئاسته الجديدة شبيهة بولايته الأولى، والسؤال الحقيقي الآن ليس عن خبث نواياه، بل عن قدرته على تنفيذ ما يهدد به بالفعل.
ومن الخطأ -حسب الكاتب- عدم أخذ العديد من الناخبين خطاب ترامب على محمل الجد، وكذلك زعم الجمهوريين أن الضوابط والتوازنات في النظام الأميركي ستمنعه من القيام بأسوأ ما لديه، لأن ترامب حمائي معلن، وقد اقترح فرض تعريفات جمركية عالية على جميع السلع المنتجة في الخارج، مما سيخلف آثارا سلبية على التضخم والإنتاجية والعمالة، ويؤدي إلى تعطيل سلاسل التوريد، ويوفر الفرصة لمستويات عالية من الفساد والمحسوبية، ويستدعي ردودا انتقامية هائلة من جانب بلدان أخرى.
انتقام
وفيما يتصل بالهجرة، لم يعد ترامب يريد إغلاق الحدود، بل ترحيل أكبر عدد من المهاجرين غير النظاميين، مما سيخلف آثارا مدمرة على عدد من الصناعات التي تعتمد على العمالة المهاجرة، كما أنه سوف يشكل تحديا هائلا من الناحية الأخلاقية.
وفيما يتعلق بسيادة القانون، ركز ترامب خلال هذه الحملة بشكل فردي على السعي للانتقام من الظلم الذي يعتقد أنه عانى منه على أيدي منتقديه.
وقد تعهد باستخدام نظام العدالة لملاحقة الجميع من ليز تشيني وجو بايدن إلى رئيس هيئة الأركان المشتركة السابق مارك ميلي وباراك أوباما، كما يريد إسكات وسائل الإعلام من خلال سحب تراخيصها أو فرض عقوبات عليها.
السياسة الخارجية
يؤكد فوكوياما أن بعض التغييرات الأكثر أهمية ستتم في السياسة الخارجية وفي طبيعة النظام الدولي، وستكون أوكرانيا الخاسر الأكبر على الإطلاق، لأن ترامب يمكن أن يجبرها على التسوية بشروط روسيا من خلال حجب الأسلحة، كما فعل مجلس النواب الجمهوري لمدة 6 أشهر في الشتاء الماضي.
وهدد ترامب بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي (ناتو) وحتى لو لم يفعل، فإنه يمكن أن يضعف الحلف بشكل خطير من خلال عدم متابعة ضمان الدفاع المتبادل للمادة 5.
إذ لا يوجد أبطال أوروبيون يمكنهم أن يحلوا محل أميركا في زعامة الحلف، وبالتالي فإن قدرته المستقبلية على الوقوف في وجه روسيا والصين موضع شك كبير. خاصة أن فوز ترامب سوف يلهم شعبويين أوروبيين آخرين مثل حزب “بديل لأجل ألمانيا” و”التجمع الوطني” في فرنسا.
وليس حلفاء وأصدقاء الولايات المتحدة في شرق آسيا في وضع أفضل -حسب فوكوياما، لأن ترامب رغم حديثه بقوة عن الصين، معجب بشكل كبير بشي جين بينغ القوي.
الشرق الأوسط الاستثناء
وقد يكون على استعداد لإبرام صفقة معه بشأن تايوان، ولكن الشرق الأوسط قد يكون الاستثناء الوحيد، حيث يرجح أن يدعم ترامب حروب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في قطاع غزة ولبنان وإيران.
وخلص فوكوياما إلى أنه سيتم تفسير اتساع النصر الجمهوري، الممتد من الرئاسة إلى مجلس الشيوخ وربما إلى مجلس النواب أيضا، على أنه تفويض سياسي قوي يؤكد هذه الأفكار ويسمح لترامب بالتصرف كما يحلو له، والأمل في بقاء بعض الحواجز المؤسسية في مكانها عندما يتولى منصبه.