ليومَين متتاليَين تستقبل قطر اجتماعات استثنائية لضامني أستانا تركيا، وروسيا، وإيران، على هامش منتدى الدوحة بنسخته 22، الذي ينعقد في 7 و8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، وإضافة لقطر المضيفة حضر الاجتماعات مجموعة من الدول العربية، منها السعودية، والعراق، والأردن، ومصر، وشارك في بعض الاجتماعات المبعوث الأممي غير بيدرسون.
لقاء الضامنين في الملف السوري والدول العربية المعنية جاء مع تسارع خروج مناطق واسعة وأبرز المدن السورية عن سيطرة النظام، وصولًا إلى دخول قوات المعارضة العاصمة السورية لأول مرة في صباح اليوم التالي للاجتماع، والإعلان عن فرار بشار الأسد من دمشق إلى جهة غير معلومة.
إزاء هذا الوضع، فهل يمكن للمسار السياسي الذي انطلق في الدوحة أن يحقق لداعمي النظام ما خذلهم به الميدان في معظم الخريطة السورية؟
هل للمسارات السياسية فاعلية؟
هناك انطباع لدى السوريين عمومًا بأن الواقع على الميدان هو ما يفرض نفسه على طاولة الحوارات السياسية، ومع ذلك فإن للمسارات السياسية آثارًا ليست بالقليلة على خريطة النفوذ والسيطرة، خاصة أن مسار أستانا يختلف عن مسار جنيف، فضامنو أستانا هم فاعلون خارجيون يمتلكون تأثيرًا مباشرًا وكبيرًا على الفاعلين الداخليين، فضلًا عن وجود قوات مباشرة للضامنين من قواعد ونقاط عسكرية متنوّعة الاختصاصات والمهام.
منذ عام 2016 حتى عام 2019 كان الواقع الميداني قد أوصل الضامنين في أستانا إلى مذكرة تفاهم ترسم حدود مناطق سيطرة المعارضة وحدود مناطق سيطرة النظام وحدود مناطق سيطرة “قسد”، مع تفاصيل ترتبط بالطرق الدولية والدوريات المشتركة وغيرها من القضايا، وفي ذلك الوقت لم يلتزم النظام واقتحم بدعم من روسيا وإيران مناطق واسعة في ريف حماة الشمالي، وريف حلب الغربي، وفي ريف إدلب.
لكن بعد توقيع روسيا وتركيا اتفاق مارس/ آذار 2020 تغيرت النظرة إلى مسار أستانا، فرغم القصف الذي كان يحصل فإن المسار كان يفرض واقعًا على الأرض لم يتغير لسنوات، وكانت طاولة المفاوضات السياسية تفرض كلمتها على خريطة النفوذ والسيطرة.
هل انهارت التفاهمات الإقليمية والدولية بعد “ردع العدوان”؟
أتت عملية “ردع العدوان” العسكرية التي شنتها قوات المعارضة كنتيجة طبيعية لاختلاف موازين القوى، ليس فقط بين الفاعلين المحليين وأطراف الصراع على الأرض، بل حتى نتيجة اختلاف الظروف والقوة السياسية بين الفاعلين الخارجيين الداعمين.
على مستوى الفاعلين المحليين، فإن العقوبات قد ساهمت في تفكك النظام وإضعافه بشكل كبير، بينما كانت فصائل المعارضة في إدلب – مدفوعة بخشيتها على نفسها- تعمل على تطوير قدراتها الأمنية والعسكرية.
على مستوى الفاعلين الخارجيين الداعمين لم يعد حلفاء النظام – كما السابق- قادرين على توفير الدعم الكافي له، فضلًا عن الاستنزاف الذي طالهم، حيث روسيا غارقة في استنزاف حرب أوكرانيا وتنتظر صفقة هناك مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وإيران خارجة من تداعيات “طوفان الأقصى” على حلفائها وخاصة حزب الله في لبنان، بل إن المجموعات التابعة لطهران في سوريا كانت قد تعرضت للاستهداف المباشر الذي أثر عليها بشكل كبير.
غيّرت عملية “ردع العدوان” من خرائط النفوذ والسيطرة بشكل كبير جدًا، وعمليًا فإن التفاهمات والاتفاقيات التي وقعتها مسارات أستانا واجتماعات سوتشي قد انتهت، لكن لم يعلن أي طرف من أطراف أستانا أن المسار قد انهار أو انتهى، بل مع التطور الميداني كان الاتفاق بين الضامنين للاجتماع على هامش مؤتمر الدوحة وبصيغة أستانا.
ماذا يناقش المجتمعون؟
لا تقتصر اجتماعات الدوحة على ضامني أستانا فقط، بل تضم دولًا عربية ذات صلة ومصلحة، فما يحصل في سوريا الآن هو جزء من أمن المنطقة واستقرارها.
ربما تسبق الوقائع الميدانية المتسارعة في سوريا تصريحات السياسيين ومواقفهم، لكنّ المجتمعين في الدوحة لا تقتصر حواراتهم ومفاوضاتهم على وضع الأسد ومصيره، فالمشهد في سوريا لن يكون أقل تعقيدًا وخطورة في المستقبل حتى مع سقوط النظام.
وإذا كان مصير النظام مهمًا لموسكو وطهران باعتباره ضامنًا لمصالحهما في سوريا، فقد شهدت الأيام الماضية تحولًا في موقف كل منهما مع تطور الأحداث، ورأينا كيف توقفت إيران مثلًا عن وصف المعارضة في إعلامها بأنها “إرهابية”.
أعادت الأحداث المتسارعة في سوريا خلط الأوراق على مستوى الفاعلين الإقليميين والدوليين، ويحتاج هؤلاء إلى إعادة رسم تفاهمات جديدة ومقنعة وتتوافق مع مصالحهم وفقًا للوزن السياسي والعسكري الذي يتمتعون به اليوم، وسيمتد نقاشهم بعد أن انهار النظام إلى مناقشة بدائله، إضافة إلى كثير من القضايا السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية بل الاجتماعية، وفق ما يرتسم عليه المشهد الميداني الجديد.
النتائج المتوقعة لاجتماعات الدوحة؟
وهنا ينبغي التأكيد على أن اختلاف الرؤى بين المجتمعين في الدوحة لا يقتصر على ضامني أستانا فقط، فقد كانت الدول العربية خلال الفترة الماضية تسعى جاهدة لضمان أمن المنطقة واستقرارها، بعد أكثر من عقد من العواصف المختلفة، وقلقهم كبير من أن تزداد الفوضى وتتوسع بعد سقوط الأسد، ولكل منهم رؤية في الحل.
وصل ضامنو أستانا الثلاثة التركي والروسي والإيراني، إلى الدوحة بأجندات مختلفة، لا مشترك بينها سوى إرادة أنقرة وموسكو أن يستمر النقاش والتفاهم بينهما حول كثير من قضايا المنطقة عبر طاولة المفاوضات. الأمر الذي قد لا ترغبان مستقبلًا أن تشارك فيه إيران خاصة إذا ما انحسر نفوذها في سوريا، وقد بدأ ذلك فعلًا.
يتوقع أن تؤسس اجتماعات الدوحة إلى نوع جديد من التفاهمات بين موسكو وأنقرة وإن بنفس المسار، تمهيدًا لتفاوض أكبر بينهما عندما يعود ترامب إلى البيت الأبيض وتظهر ملامح سياساته في المنطقة.
لا يتوقع أن يكون يومان من الاجتماعات كافيَين للخروج بحلول لتعقيدات الساحة السورية، لذلك غالبًا ما يكون إقرار الثوابت التقليدية هو نتيجة هذه الجولة، أعني بذلك الاتفاق على الحفاظ على السيادة، ووحدة الأراضي وسلامتها، ومكافحة الإرهاب، ودعم الحل السياسي، وتعزيز فرص وقف إطلاق النار وحماية المدنيين.
وخروجًا من الخلافات في التفاصيل سيعود المجتمعون إلى خريطة الحل القديمة في القرار الأممي رقم 2254، والتي تتضمن بدء عملية سياسية انتقالية، وإعداد دستور جديد للبلاد، وإجراء انتخابات، لكن ذلك سيحتاج اجتماعات طويلة تناقش التفاصيل، ويكمن الشيطان في التفاصيل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.