في تحقيق صحفي نشرته غارديان، روت الكاتبة الكندية الإثيوبية عايدة إديماريام -التي تعمل محررة أولى بالصحيفة البريطانية نفسها- حكاية معاناة شاعر وأديب فلسطيني شاب رفقة أسرته الصغيرة في رحلة نزوح محفوفة بالمخاطر في خضم الحرب الإسرائيلية المدمرة على قطاع غزة.
تقول الكاتبة إنه في مثل هذا الوقت من العام الماضي، كان مصعب أبو توهة يقف في طابور بانتظار المرور عبر نقطة تفتيش نصبها الجيش الإسرائيلي. كان قد اتخذ القرار الصعب بإخبار والديه أنه وزوجته مرام سيغادران غزة مع أطفالهما الثلاثة الصغار، وكان هناك حاجز على الطريق إلى معبر رفح المؤدي إلى مصر.
كانت تلك هي المرة الأولى التي يواجه فيها جنودا إسرائيليين، الذين أمروه، عبر مكبر الصوت، بأن يخلع ملابسه، وعصبوا عينيه وثبَّتوا سوارا مرقَّما على معصمه قبل أن يسمحوا له بارتداء ثيابه بعد أن تعرض للشتم واللكم والركل، وأُجبر على ركوب شاحنة.
وكتب أبو توهة بعد شهر، مقالا في مجلة نيويوركر الأميركية حكى فيه أن جنديا إسرائيليا صوب بندقية من طراز “إم 16” إلى رأسه، وكان زميل له، خلف جهاز كمبيوتر، يوجه له أسئلة ويلتقط صورة له، في حين كانت هناك شارة أخرى مرقمة مثبتة على ذراعه اليسرى.
انتهت المحنة فجأة مثلما بدأت بعد أن قال له الجنود: “نحن آسفون على الخطأ. ستعود إلى منزلك”.
لكن الحقيقة أن زوجته مرام كانت قد اتصلت بأصدقائه في الخارج الذين مارسوا ضغوطا من أجل إطلاق سراحه.
ووفقا للغارديان، فإن أبو توهة (32 عاما) يتمتع بمكانة دولية، فهو شاعر حاز جوائز، ونشرت له صحف ومجلات في الولايات المتحدة، وحصل على زمالة هارفارد للباحثين المعرضين للخطر. كما أنه أسس مكتبة “إدوارد سعيد” العامة في غزة، وهي الأولى من نوعها باللغة الإنجليزية.
وفازت سلسلة مقالاته وتقاريره في مجلة نيويوركر بجائزة نادي الصحافة لما وراء البحار العام الماضي. وقد اتسمت كتاباته بلغة نثرية سهلة ومباشرة وحافلة بمشاهد لا تُنسى، موثقا فيها حياته وتجربته في الحرب الإسرائيلية بعد طوفان الأقصى.
اتسمت كتاباته بلغة نثرية سهلة ومباشرة وحافلة بمشاهد لا تُنسى، موثقا فيها لحياته وتجربته في الحرب الإسرائيلية بعد طوفان الأقصى
ومن بين ما كتبه في تلك المجلة الأميركية، مقال عن فراره من منزله في بيت لاهيا، شمال غزة، يصف فيه مشاهد قاسية من الحرب على القطاع الفلسطيني المحاصر، والمنازل التي استحالت بين ليلة وضحاها إلى ركام، ساردا قصص أبنائه وهم يرتعدون خوفا من صوت القنابل ومن الموت.
وكتب في ذلك المقال: “كنت أفكر في مئات أو آلاف الفلسطينيين، العديد منهم ربما أكثر موهبة مني، وقد جرى اعتقالهم من نقطة التفتيش. ولم يتمكن أصدقاؤهم من مساعدتهم”.
ولم يمض وقت طويل حتى قرأ في صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية عن بعض الذين ماتوا من مثل تلك المعاملة، في مركز الاعتقال نفسه في صحراء النقب جنوبي إسرائيل. كما اختفت المكتبة التي أسسها.
كان أبو توهة يقيم في غرفة بأحد فنادق سان فرانسيسكو عندما كانت تتحدث معه كاتبة هذا التحقيق، إديماريام، عبر مكالمة فيديو أثناء قيام بجولة زار خلالها العاصمة واشنطن ومدن نيويورك، وبوسطن، وكامبريدج، وبورتلاند، بغرض الترويج لديوانه “غابة الضجيج”.
وسيزور بعد ذلك مدن فينيكس، وبيركلي، ثم فرنسا فإسبانيا. يقول مصعب أبو توهة في حواره مع إديماريام: “كنت في مكتبة هارفارد قبل يومين. وكانت مكتظة بالكامل. حتى المساحات بين الرفوف غصت بالحضور. الكثير من الناس يأتون، كما تعلمين، للاستماع إلى أشعاري، ولكن، في الوقت نفسه، لسماع القصص التي أرويها عن الأشخاص الذين كتبت عنهم القصائد، وبعضهم ماتوا، وبعضهم سيموتون”.
وتمضي كاتبة التحقيق لتسلط الضوء على جوانب من شخصية الشاعر الشاب، فتقول إنه يبدو أصغر من عمره الحقيقي، مضيفة أن ابتسامته “المهذبة” تذكرها بابتسامة في نشرات الأخبار لضحية أحد الحوادث، أو أحد المارة.
وعندما ينهض ليسحب ستارة الغرفة ليحجب عنها أشعة شمس كاليفورنيا، تتذكر إديماريام أنها رأت على قلنسوته، عبارة مأخوذة من مجموعته الشعرية الأولى (أكتاف الوردة إلى أعلى) تقول: “لا تندهش أبدا.. أن ترى وردةً كتفها لأعلى بين أنقاض المنزل”.
يمتلئ شعره ونثره بتلك الأشياء الدنيوية الهشة -السجاد القديم، ورائحة الطعام، والشاي على “طاولة تحت شجرة البرتقال أو الجوافة”، وحقول الذرة التي يملكها صهره أحمد.
وعندما تسقط قنبلة على منزل أحد الجيران، في مجموعته الشعرية الأولى، الصادرة باللغة الإنجليزية قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، بعنوان “أشياء قد تجدها مخبّأة في أذني”، Things You May Find Hidden in my Ear، يُفاجأ الشاعر ناظما “لم أكن أعرف قط أن جيراني ما زال لديهم ذلك التلفاز الصغير.. وأن اللوحة القديمة ما زالت معلقة على جدرانهم.. وأن قطتهم لديها قطط صغيرة”.
وُلد مصعب في مخيم الشاطئ للاجئين، ولكن في عام 2000، في بداية الانتفاضة الثانية، انتقلت العائلة إلى بيت لاهيا، في شمال غزة. كان والداه “يزرعان أشجار الجوافة والليمون والبرتقال والخوخ والمانجو، والخضراوات. ويرى أن هذا الانتقال “من مكان ضيق جدا جدا إلى مساحة واسعة من الأرض” هو ما جعله شاعرا. فجأة “استطعت أن أرى الشمس بوضوح. استطعت رؤية الغيوم، والنباتات وهي تنمو”.
وبعد أن تزوج في عام 2015، كتب يقول: “بنيت شقتي فوق منزل والديَّ. استطعنا أنا وزوجتي رؤية الحدود مع إسرائيل من نافذة غرفة نومنا. وكان بوسع أطفالي رؤية أشجار الزيتون والليمون الخاصة بجيراننا”.
وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، استشهد 31 فردا من عائلة عمه -الجد وأبناؤه وأحفاده- في غارة جوية واحدة، ولم ينجُ سوى طفلين فقط مع أمهما.
بالنسبة لأبو توهة، الشعر فِعل معايشة، ورواية، ولحظات عاشها تحت القصف.
قبل أسبوعين، كانت مرام وأطفالها الثلاثة على متن قطار من نيويورك إلى مدينة سيراكيوز، حيث تقيم حاليا، عندما سمعوا بمقتل 25 فردا من عائلة عم زوجته. وهذا هو أحد الأسباب التي تجعله قلقا بسبب ابتعاده عن مرام وأولاده أثناء قيامه بجولة لترويج كتابه. وكما يقول فإنهم بحاجة لأن نكون معا عندما تأتيهم الأخبار عن ذويهم في غزة.
كتب في قصيدته (فلسطين من الألف إلى الياء): “حضر أهالي القتلى، ليس لاستلام شهادة، بل صورة لطفلهم”.
وبحسب تحقيق غارديان، فإن مصعب أبو توهة يعتقد الآن أنه لم يحظَ بطفولة حقيقية، ليست كتلك الطفولة التي يتصورها أولئك الذين يعيشون في أماكن أكثر أمانا. وكان هذا في النهاية سبب قراره هو ومرام بمغادرة غزة.
وتصدر كتابه الجديد عبارة اقتبسها من مقال تحت عنوان “الشعر ليس ترفا” للشاعرة الأميركية أودري لورد. وعندما سألته محررة الغارديان عمّا تعنيه تلك العبارة بالنسبة له، وتوقعت أن تكون إجابته على مثل هذا المنوال، لكن رده جاء على غير ما توقعت. فالشعر عنده فِعل معايشة، ورواية، ولحظات عاشها تحت القصف.