سيسجل تاريخ سوريا الحديث، أن عشرة أيام فقط، كانت كفيلة بهزّ عرش نظام استوى على الحكم لأكثر من خمسين عامًا، وأن عشرة أيام أخرى أعقبت “الانتقال”، كانت كفيلة بكشف ما بطن من التحديات و”الألغام” وما ظهر، وأن ارتدادات “الهزّة” ما زالت تضرب في طول الإقليم وعرضه، وأن خرائط جديدة للمواقف والمواقع والتحالفات، قد أخذت تتشكل أو تطل برأسها، وأن ذيول “الهزّة” الارتدادية، ستصيب السياسات والإستراتيجيات والعلاقات الدولية في الإقليم وحوله.. كيف لا، ونحن نتحدث عن سوريا، قلب المشرق العربي ومحوره.
حالة “انعدام اليقين” تهمين على السوريين بأطيافهم ومرجعياتهم المختلفة، لا تخفيها ولا تقلل من شأنها الاحتفالات بسقوط نظام الأسد الابن، والتي كانت أقرب للاستفتاء العفوي منها إلى أي شيء آخر.
والحالة ذاتها، تسيطر على العواصم المعنية في المنطقة والعالم، وتطغى على الاتصالات والتحركات السياسية والدبلوماسية، التي نشطت على نحو غير مسبوق، منذ صبيحة الثامن من ديسمبر/ كانول الأول.
وهي حالة، ليست محكومة فقط، أو ناجمة عن، سرعة التغيير وفجائيته، بل تغذيها كذلك، جملة الألغام المزروعة على طريق الانتقال في سوريا، والقلق المبثوث حيال فرص النجاح في “تفكيكها” وإبطال مفاعيلها.
فبعد أزيد من نصف قرن على سنوات “الركود الأسدي” في سوريا، نعرف اليوم، أكثر من أي وقت مضى، ثقل التركة التي خلفها نظام الأب والابن. وندرك معها، حجم التدخلات والمصالح الخارجية المتناقضة، وأحيانًا حد التصارع، على الأرض والجغرافيا السوريتين.
وسنكتفي في هذه المقالة، بالتوقف عند عددٍ من أخطر هذه الألغام، وسبر أغوار الفرص والتحديات، التي تواجه عملية تفكيكها وتطهير المشهد السوري من مخاطر انفجاراتها:
اللغم الأول:
هو العربدة الإسرائيلية المدفوعة بشهية توسعية – عدوانية، والمُستبطِنَة لأخطر المشاريع التقسيمية.. إسرائيل التي ودّعت “الشيطان الذي تعرفه”، لا تخفي حذرها وتحسبها من “الشياطين التي لا تعرفها”، كما يقول الناطقون باسم حكومة اليمين الأكثر تطرفًا.
إسرائيل لا “تتحوط” حين تقدم على التمدد في المنطقة العازلة وخارجها وصولًا إلى أعلى قمة في جبل الشيخ، ومشارف ريف دمشق، من “المجهول القادم” فحسب،. بل إنها وهي تشن أعنف الضربات الجوية في تاريخها، إنما تثأر من “الدولة السورية”، وتمارس أبشع عمليات “الإعاقة” لبقائها وتطورها اللاحقين.
وهي وإن زعمت بأنها تفعل ذلك في سياق استباقي – وقائي، وأن كل ما تقوم به من ترتيبات إنما يندرج في خانة “المؤقت”، فإن الخبرة العربية في الصراع مع هذا الكيان، تجزم بما لا يدع مجالًا للشك، بأن كل “مؤقت” في إسرائيل، هو “دائم”، ما لم تجبر على الرضوخ لخلاف ذلك.
إن إمعان النظر، فيما تقوله إسرائيل وتفعله وتنفذه بكل وحشية وهمجية، على الأرض ومن السماء، إنما يشفّ عن مستويَين في التفكير الإسرائيلي حيال سوريا:
- الأول: تكتيكي، ينطلق من نظرية القلعة والجدران وأحزمة الأمن والمناطق العازلة، وتجريد العدو من عناصر قوته واقتداره.
- أما الثاني: فإستراتيجي ويتصل بمستقبل الدولة والكيان والمكونات، وهنا نعود مرة أخرى، إلى جدعون ساعر، الذي أخرج من أرشيف الحركة الصهيونية المبكر، مشاريع التفتيت والتقسيم، على أسس طائفية ومذهبية وإثنية. ولا وظيفة لذلك، سوى تحويل كيانه إلى “أكبر أقلية” في المشرق العربي، وتسويق وتسويغ مشروع “يهودية الدولة”.
“حلف الأقليات” الذي لا يني قادة تل أبيب يروجون له، يشهد شروعًا من دون إبطاء، في تقديم الدعم والإسناد لكيانية “درزية” تشكل منطقة عازلة لإسرائيل عن “الأكثرية العربية السنّية” شمالًا، ودعم كيان كردي انفصالي شمالي البلاد.
يطلق أثرُ الدومينو – Domino Effect – تفكيكًا وتقسيمًا لأربع دول كبرى في المنطقة، جميعها في خانة الدول المعادية (أو غير الصديقة) لإسرائيل، وهي إلى جانب سوريا، كلٌّ من تركيا والعراق وإيران، وربما غيرها.
والحديث عن مثل هذه المخططات، لا يأتي من باب التكهنات المتطيّرة أو الاتهامات المعلّبة، لهذا الكيان، بل هي تلخيص لما يدور في الأذهان الشريرة لقادته، والذي نطقت به ألسنتهم خلال الأسابيع الثلاثة الماضية.
هذا التحدي الإسرائيلي، إن لم يجرِ تطويقه وإبطال مفاعليه، سيطلق ديناميات جديدة في سوريا الجديدة، ستفضي بدورها إلى تبديل في أولويات “أجندة الانتقال”، وسيُدخل تغييرًا في التحالفات والاصطفافات المحلية والإقليمية، وسيفتح أبواب سوريا مجددًا، لتدخلات خارجية، سواء من أطراف مخلصة في مشروعها “المقاوم” للهيمنة الإسرائيلية، أو حتى تلك المُتغطية بها، لتحقيق مآرب جيوسياسية.
اللغم الثاني:
المسألة الكردية، التي تختلف مقاربتها، باختلاف الأطراف التي تقاربها، فهي من منظور تركي، تندرج في سياق “الحرب على الإرهاب”، بالنظر لوجود منظمة الـ”بي كا كا” ونفوذها غير الخافي على قوات سوريا الديمقراطية.
وهي من منظور أنقرة ودمشق وبغداد وطهران، مندرجة في سياق الحرب على “النزعات الانفصالية” وضرورات الحفاظ على وحدة وسلامة أراضي الدولة السورية، خشية انتقال عدوى الانفصال والتفكيك لبقية أضلاع المربع الإقليمي المحيط بقضية الكرد.
وهي من وجهة النظر الأميركية، سلاح ذو حدين، ينفع في ابتزاز دمشق بصرف النظر عن هوية النظام القائم فيها، ولا يضر في مواجهة تركيا إن هي غرّدت بعيدًا عن السرب.
أما تل أبيب، فهي ترى في “أكراد المنطقة”، مشروع حليف مجرّب، وحلمها بإقامة “إسرائيل ثانية” في قلب المربع الإقليمي المذكور، بات سرًا ذائعًا، مع أننا نبرأ بكثير من القوى والفعاليات الكردية عن “التساوق” و”الاتساق” مع هذا المشروع التقسيمي، ونؤشر بأصابع الاتهام والإدانة، لبعضها الآخر، الذي أظهر في غير محطة، استعدادًا لـ”التخادم” مع المشروع الصهيوني.
ثمّة ما يشي بأن فرصة التوصل لحل سياسي للمسألة الكردية في سوريا، ما زالت قائمة، بل وتعاظمت بعد الإطاحة بنظام الأسد، الذي طالما اشتكى حلفاؤه الروس من “تعنته” البالغ حد التنكر لحقوق هذا المكون الرئيس من مكونات الشعب السوري، بل وتحميله المسؤولية عن إفشال جهود وساطة قاموا بها على خط القامشلي – دمشق. ونقول ثمة فرصة أفضل لتفكيك هذا اللغم، بالاستناد إلى تطورات متسارعة و”نوعية” طرأت على ضفتي الحدود بين تركيا وسوريا.
في تركيا، استبقت أنقرة التغيير في سوريا، بإطلاق مبادرة تصالحية مع أكرادها، ومن ضمنهم حزب العمال الكردستاني. والمقترحات التي تقدم بها دولت بهتشلي، حليف أردوغان، للمصالحة عبر دعوة عبدالله أوجلان لمخاطبة نوابه في البرلمان التركي، بعد إلقاء السلاح، والنزول عن جبال قنديل، أظهرت ميلًا لاستئناف ما انقطع من مصالحات تعثرت في انتخابات 2015.
أية انفراجة في المسألة الكردية داخل تركيا، ستقود حتمًا لانفراجات مماثلة بين أكراد سوريا وأنقرة، التي تلعب اليوم، دورًا متعاظمًا في الملف السوري، حتى لا نقول، إنها باتت المايسترو الذي يقود أوركسترا المشهد السوري الجديد.
وفي سوريا، تدرك “قسد” أن النظام السوري الجديد، جاد فيما يقوله لجهة توحيد الأرض والمؤسسات السورية، بما فيها توحيد الأذرع والمليشيات المسلحة، ودائمًا تحت شعار: دولة واحدة، شعب واحد، وسلاح واحد، وأن لا سلاح خارج سلاح الدولة.
وتدرك “قسد” كذلك، أن العالم برمته، ينتظر مجيء إدارة أميركية جديدة، ليست سوريا في صدارة أولوياتها. وهي بخلاف إدارة بايدن، لا تكّن ودًّا خاصًا لأكراد الإقليم وطموحاتهم القومية، وأن “مناكفة” روسيا في سوريا، ليس بالأمر الذي توليه أهمية خاصة، بخلاف الإدارة التي سبقتها. وإن جُلّ ما ترغب إدارة ترامب في رؤيته، هو أن تصبح سوريا خالية من النفوذ الإيراني، وأن تكف عن ممارسة دورها كـ”محطة ترانزيت” لتصنيع ونقل السلاح إلى حزب الله.
تدرك قسد أن ترامب وفريقه، هم الأقل اعتناءً من بين الإدارات الأميركية المتعاقبة، بقضايا حقوق الإنسان وتقرير المصير، ولا شك أن قادتها يستذكرون اليوم، العبارة المنسوبة للرئيس المصري الراحل محمد حسني مبارك، والتي استمعوا إليها مرارًا وتكرارًا: “المتغطي بأميركا عريان”.
لا يعني ذلك للحظة واحدة، أن “قسد” و”وحدات الحماية” سترفعان الراية البيضاء غدًا أو بعد غدٍ، كما لا يعني أيضًا، أن الكرد سيتخلون عن طموحاتهم وأحلامهم القومية، لكن المؤكد أن التطورات الجديدة في سوريا، ستدفعهم دفعًا، للهبوط بسقف توقعاتهم، وربما “الهبوط الآمن عن قمة الشجرة”.
في مطلق الأحوال، يتعين أن يكون كرد سوريا، حاضرين بحجمهم، من دون مبالغة أو تقزيم، على مائدة صياغة دستور سوريا الجديد. وأن تأخذ سوريا الجديدة، بما هو واقعي من طموحاتهم وأحلامهم، وأن يضعوا وحدة الأرض والشعب والدولة، في مقدمة حساباتهم، مع مراعاة التنوع وحقوق المكونات والكيانات، وفقًا لما هو متعارف عليه، في أفضل التجارب العالمية.
والأهم من كل هذا وذاك، “فك الارتباط” بين حقوق الكرد ومستقبلهم في سوريا، وما يعتمل في دول الجوار، العربي والإقليمي، من تفاعلات وتطورات.
المهمة ليست سهلة، وتشابكات الملف الكردي، تلقي بتحديات جسام على الحكم الجديد في سوريا. يتعين الشروع في تفكيك تلك التشابكات بالحوار مع مختلف الكيانات الكردية السورية، وبالتعاون مع الدول المجاورة، بالذات تركيا والعراق.
اللغم الثالث:
وربما يكون هذا اللغم هو الأول من حيث الأهمية. وأعني به تحدي بناء توافقات وطنية سورية جامعة، حول الانتقال وقواعده ومراحله وأطرافه وأهدافه. قوى الثورة وفصائل المعارضة، تتحدّر من خلفيات وتجارب ومرجعيات، متعارضة وأحيانًا متصادمة. والفسيفساء السورية بحاجة إلى “لاصق” يبقيها قطعة واحدة. وإسقاط أي جزء منها، ستكون له عواقبه غير المحمودة.
سوريا لا تحكم بطائفة أو دين أو مذهب معين.. سوريا المتنوعة، تُحكم بنظام مدني ديمقراطي، يجد فيه الجميع مكانًا لهم، وحصة فيه. بخلاف ذلك، تكون قد عادت لزمن الإقصاء والتهميش، والحكم “الأقلوي”.
وسوريا اليوم، تواجه تحدي عدم الانجرار لإغواء “الأكثرية” وهيمنتها، طائفية كانت أم مذهبية. فالاستقرار والسلم الأهليان، يتحققان فقط، عندما تحترم الأكثرية حقوق الأقليات. وتلكم مهمة الفريق الوطني الذي سينجز مشروع دستور جديد لسوريا، والذي يتعين أن يكون جامعًا وشاملًا، لا يترك مكونًا أو كيانًا خلفه، وأن يخضع هذا الدستور لاستفتاء، أو أن يقر من قبل جمعية وطنية تأسيسية منتخبة.
ثمة أطراف متربصة، داخلية وخارجية، تتحين الفشل وتترصده. وثمة أطراف ترى الفوضى في سوريا وتقسيمها، مصلحة عليا لها. وثمة أطراف حاربت “الإسلام السياسي” لعقود خلت، ولم تلقِ سلاحها بعد، ولديها من “الخبرات” والقدرات، في محاربة هذه الأطراف، ما أثبت نجاعته في دول وتجارب أخرى عديدة. ثمة من يريد الإمساك بسوريا من يدها المجروحة:(إنعاش الاقتصاد وإعادة الإعمار)؛ لتحقيق مآرب أخرى، ليس “التطبيع” المجاني مع إسرائيل سوى واحدٍ منها.
لكن في المقابل، ثمة قاعدة اجتماعية – شعبية قوية للتغير وللنظام الجديد، وثمة حواضن عربية وإقليمية قوية تدفع باتجاه إنجاح تجربة الانتقال، وثمة مخاوف من تداعيات الفشل وارتداداته لدى أطراف محلية وعربية أخرى، تدفعها لابتلاع قلقها وتحسّباتها، ومد يد العون والتعاون مع النظام الجديد في دمشق، وإن من باب “أهون الشرَّين”.
ثمة تحديات جسيمة، تقابلها فرص عظيمة لإعادة بناء سوريا وردّها إلى موقعها ومكانتها، وتمكينها من استعادة دورها المتميز.. ثمة رياح شديدة ومتعاكسة، تهبّ على سوريا اليوم، وبيد النخب الحاكمة الجديدة، أن تفسح الطريق أمام الفرص، وإبطال الألغام في حفرها. كان الله في عون سوريا والسوريين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.