كانت واحدة من كبرى الصدمات التي تعرضت لها خلال مسيرتي الصحفية هي تلك التي عايشتها أثناء الحرب الأهلية في سوريا. ما شهدته هناك ترك أثرًا عميقًا في داخلي لسنوات طويلة، ولا يزال هذا الأثر يطفو على السطح من حين لآخر ليهزني بقوة. مع سيطرة المعارضة على حلب وخروج المدينة من قبضة نظام الأسد في هذه الأيام، يبدو أن تلك الصدمة عادت لتطاردني من جديد.
أوَّل لقاء مع الأسد
كانت زيارتي الأولى لحلب برفقة رئيس الوزراء آنذاك، رجب طيب أردوغان، حيث كنت مستشارًا إعلاميًا ضمن الوفد المرافق. وكان ذلك أول لقاء لي مع بشار الأسد. ظهر الأسد حينها برفقة زوجته، ورحّب بالوفد ترحيبًا لافتًا بأسلوب غربي ونبرة وديّة.
عندما تجوّلت في أسواق حلب، وفي الجامع الأموي، وقلعة حلب، شعرت بأن المدينة ليست مختلفة كثيرًا عن غازي عنتاب في تركيا. هاتان المدينتان عاشتا أربعمائة عام في ظل دولة واحدة، تتشاركان الثقافة والتاريخ.
حلب، التي تبعد 45 دقيقة فقط عن غازي عنتاب، تُعدّ أصل ثقافتنا الغذائية ومطبخنا التقليدي.
لكن الزمن تبدّل، والعلاقات تغيرت، والصداقة تحوّلت. ذلك الأسد الذي كان ودودًا أصبح لاحقًا عدوًا لتركيا.
وبعد سنوات، عندما عدت إلى سوريا كصحفي خلال الحرب الأهلية، وجدت نفسي أمام مشاهد وتجارب لا يمكن نسيانها أبدًا.
المعارك داخل الجامع الأموي
في عام 2013، دخلت سوريا مرة أخرى كصحفي. لكن هذه المرة، وجدت نفسي في بلد مزقته الحرب الأهلية، وحوّلته إلى أطلال، وأغرقته في الفوضى. كان الطريق إلى حلب مليئًا بنقاط التفتيش، وكل نقطة كانت تحت سيطرة فصيل مختلف. لم تكن هناك سلطة موحدة، وكان المرور من كل نقطة يعني الانصياع لقوانين وأوامر الفصيل المسيطر. معظم تلك النقاط كانت تحت سيطرة فصائل معارضة للنظام، لكنها لم تكن على وفاق مع بعضها البعض.
رأيت فتيانًا يبلغون بالكاد 19 أو 20 عامًا، يحملون الكلاشينكوف ويتصرفون وكأنهم سادة المناطق “المحررة”. لم تمر فترة طويلة حتى أجبرتنا أصوات الرصاص على التوقف. اندلع اشتباك مسلح عند إحدى نقاط التفتيش بين فصيلين معارضين.
بعد انتهاء الاشتباك، واصلنا طريقنا نحو حلب التي كانت تشهد معارك طاحنة بين قوات النظام والمعارضين.
لم تكن حلب حينذاك هي نفسها المدينة التي رأيتها في السابق، فقد تحوّلت إلى أنقاض. أسواق حلب التاريخية التي اشتهرت عالميًا كانت قد دُمّرت. كانت الأسقف مثقوبة برصاص الطلقات، والجدران مليئة بآثار القصف والانفجارات.
لكن أكثر ما أثّر بي كان المشهد في نهاية السوق، داخل الجامع الأموي الكبير. كانت مئذنته الشهيرة قد انهارت تمامًا، وسقطت بشكل أفقي في ساحة المسجد. أصابت قذيفة قبته تاركة ثقبًا ضخمًا في أعلاها. بدا المسجد وكأنه انشطر إلى قسمين.
في الجهة المقابلة للقبلة، كان مقاتلو المعارضة قد أقاموا متاريسهم، بينما تمركز جنود النظام عند بوابة المسجد.
نعم، لم أخطئ في الوصف، كانوا يقاتلون بعضهم البعض داخل المسجد. كانت المتاريس مكوّنة من منصات المصاحف، والكتب، والسجاد، وحتى الحجارة التي سقطت من القبة. الصادم أكثر هو أن كلا الطرفين كان يصيح “الله أكبر” أثناء إطلاق النار.
كان هذا المشهد في الجامع الأموي بحلب أحد أكثر المشاهد التي رأيتها للحروب الطائفية عبر التاريخ إيلامًا.
استلام الصور المروعة في الدوحة
قضيت عدة أيام في حلب محاصرًا بين المساجد التي دُمرت بالقصف، والرصاص الذي يطلقه القناصة فوق رؤوسنا، وسط شوارع تحولت إلى ساحات للمعارك. بعد عودتي إلى تركيا، تلقيت اتصالًا غير متوقع. كان ضابط من الجيش السوري قد تمكن من الهروب من البلاد، حاملًا معه صورًا التقطها لآلاف الأشخاص الذين قُتلوا تحت التعذيب في سجون نظام الأسد. كانت الصور توثيقًا صادمًا لجرائم ضد الإنسانية.
كان الهدف هو أن تُستخدم هذه الصور كدليل أمام المحكمة الجنائية الدولية، لإثبات التهم ضد الأسد بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية.
سافرت إلى الدوحة، حيث التقيت بفريق يضم خبراء قانونيين، وأطباء شرعيين، وتقنيين. كما حضر ممثلو وسائل إعلام دولية مثل “CNN International”، و”الغارديان”، إضافة إلى وكالة الأناضول و”TRT”. بصفتي مديرًا عامًا لوكالة الأناضول، كان من المقرر أن أستلم هذه الصور رسميًا قبل نشرها عالميًا. عندما رأيت الصور لأول مرة، أُصبت بصدمة عميقة. كانت الصور تعرض جثثًا لأشخاص قتلوا بطرق وحشية: جوعًا، أو خنقًا بأسلاك البناء، أو تحت التعذيب.
كانت الأجساد تحمل أرقامًا مكتوبة على جباهها وصدورها. هذه الأرقام كانت تُستخدم لتوثيق القتلى، وإرسال تقارير إلى كبار المسؤولين في النظام. الضحايا كانوا من المعتقلين الذين اعتبرهم النظام معارضين.
عندما نشرنا الصور، أثارت ضجة عالمية كبيرة حتى إننا نظمنا معرضًا لها داخل الأمم المتحدة. ومع ذلك، ورغم الجهود القانونية الدولية، لم يُقدَّم الأسد للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. لكنني شخصيًا دفعت ثمن تلك الصور نفسيًا. بعد نشرها، لم أستطع النوم عشر ليالٍ ولم أتناول الطعام.
سوريا.. ساحة الامتحان المؤلمة
سوريا ليست مجرد أرض شهدت أفظع مشاهد الحرب الأهلية، بل هي مسرحٌ لمجازر وحشية، وميدانٌ لصراع طائفي ترك أثره العميق على ملايين البشر وعشرات الدول.
في سوريا، بلغ الصراع بين الشيعة والسنة ذروته، وامتدت تداعياته لتشعل نقاشات حادة وانقسامات في معظم الدول الإسلامية. تجاوزت قسوة بشار الأسد ووحشيته الحدود المعهودة، وأصبح طغيانه نموذجًا لا يُقارن بطغيان أي دكتاتور آخر.
أتذكر اللحظات التي شهدت فيها سقوط حلب، حيث رأيت مئات الآلاف يُجبرون على ترك منازلهم وأرضهم. في ريف إدلب، شاهدت بأم عيني معاناة أولئك الذين أُخرجوا من بيوتهم قهرًا، ليعيشوا في خيام من القماش والأكياس البلاستيكية، غارقين في الوحل، ومحرومين من أبسط مقومات الحياة.
رغم هذه المعاناة، لا يزال كثير منهم يأمل بالعودة. حلم العودة إلى حلب واسترجاع منازلهم وأراضيهم، مازال يعيش في أعماقهم، منتظرين بفارغ الصبر أن تتحسن الأوضاع وتُتاح لهم الفرصة لذلك. عيونهم تغمرها الدموع، لكن قلوبهم يملؤها الأمل.
حان الوقت لحياة أفضل
في دوامة لا تنتهي من الصراعات، حيث أصبحت “الحرب الأبدية” بين المذاهب الإسلامية واقعًا مؤلمًا، يلوح الآن أمل لإنهاء هذا النزاع المقيت. يجب على المعارضة، التي عانت من التهجير والتعذيب والظلم، ألا تقع في خطأ تكرار تلك الجرائم ضد مؤيدي النظام أو الشيعة أو النصيريين. ذلك النوع من الحروب لا يجلب نصرًا حقيقيًا ولا غلبة لأي طرف. لا يوجد صراع أشد جهلًا وعبثية من الحرب المذهبية.
اليوم، أمام المعارضة والدول الداعمة لها فرصة ذهبية لبناء حياة جديدة في حلب، دون تكرار مآسي الماضي.
البوادر الأولية، سواء من خلال التصريحات أو الخطوات الأولية، تحمل إشارات إيجابية. نسأل الله أن يتمكن الشعب السوري هذه المرة من تحقيق السلام والاستقرار، لعلنا نحن أيضًا نتمكن من تجاوز صدماتنا ونبدأ صفحة جديدة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.