بدأ الجيش الإسرائيليّ، ليل الاثنين، عمليةً بريةً قال إنها “محدودةٌ” ضدّ حزب الله جنوب لبنان. العملية تم الإعلان عنها ـ قبل تنفيذها ـ بصلف غير مسبوق في المواجهات العسكرية، التي يتعين أن تتسم بالسرية عادةً؛ لضمان توفر شرط المباغتة، وما يترتب عليه من إرباك “العدو”، وشلّ قدرته على التّعافي من الفوضى المتوقعة بطبيعة الحال.
الإسرائيليون والأميركيون تحدثوا بـ”وقاحة” عن العملية، بل حددوا مكانها وزمانها وكأنّهم ذاهبون إلى نزهة وليس إلى الحرب!
الصخب الإعلامي والاحتفالي بالعملية، في كلّ من تل أبيب وواشنطن، كان مستفزًا ومهينًا في آن، وكأنّ نتنياهو قد حصل على “شهادة ضمان” بالنصر دون مقابل مؤلم. إنّها العُنجهية التي عادةً ما كان يبديها الإسرائيليون في حالات سابقة، انكسر فيها العرب لسبب أو لآخر.
لقد بدا المشهد في بعض تفاصيله باعتباره فرصةً لإعادة غسل سمعة نتنياهو التي ما انفكّ يتلاعب بها المقاتلون في غزة من جهة، وإعادة تدوير هيبة الجيش التي فقدها في غزة أيضًا من جهة أخرى.
لم يتعلم رئيس الوزراء الإسرائيلي من تراكم الخبرات والتجارب مع مناطق التماس الساخنة والمتوترة.. مع “طوق النار والدم”: الضفة الغربية وقطاع غزة ومع لبنان بطبيعة الحال. تقول جينا أبركرومبي- وينستانلي زميلة أولى غير مقيمة في مبادرة سكوكروفت للأمن في الشرق الأوسط: إن ما يمكننا أن نعتمد عليه جميعًا ـ كما ثبت بعد أعوام 1982، و1987، و2000، و2004، و2006، و2008، و2014، و2021، وسوف يثبت مرةً أخرى قريبًا ـ هو أن الجيش الإسرائيلي لن يكون قادرًا على الحفاظ على أمن البلاد، والواقع أنّ جوهر هذا الصراع هو رفض نتنياهو لحلّ الدولتين.
وسوف يبرز شبابٌ فلسطينيون ولبنانيون جددٌ عازمون على المقاومة ويحملون السلاح.. وتضيف: يتعين على القيادة الإسرائيلية أن تتمنى لشعبها الأفضل من مجرد التوقف عن العنف. إن الفوز ممكنٌ، ولكنه يأتي من خلال الدبلوماسية والتسوية الإقليمية.
بيدَ أنّ عمليات الرعب والصدمة التي باغت بها الإسرائيليون حزب الله، وهو في ذروة ثقته في ترسانته العسكرية ومنظومته الأمنية ومشروعه الأخلاقي كقوة إسناد لغزة، أزاحت كلّ المحاذير والخطوط الحمراء والمخاوف والحسابات، التي كانت حاضرةً دائمًا في التعاطي الإسرائيلي مع لبنان منذ عام 2006.
التوحّش الإسرائيلي على جنوب لبنان كان متوقعًا كحقيقة “لا ينتطح فيها عنزان”، فليس ثمة شك في أنّ اغتيال حسن نصر الله، يوم 27 سبتمبر/أيلول، اختصر شوطًا كان من المفترض أن يكون طويلًا نحو استعادة الرأي العام الإسرائيلي ثقته في رئيس وزرائه، التي تصدعت بشكل “فضائحي” بسبب طوفان الأقصى وما بعده، ما عزّز الرأي القائل بأنّ نجاح عملية الاغتيال تعدّ “انتصارًا شخصيًا” لبنيامين نتنياهو، أعلن عنه بنفسه بشكل احتفالي، معتبرًا التصفية مقدمةً لـ”تغيير ميزان القوى في المنطقة لسنوات قادمة”.
ويعتقد نتنياهو أنّ الباب الآن لم يعد مواربًا وحسب، وإنما بات مشرعًا عن آخره لإضافة المزيد من “الإنجازات” العسكرية المزعومة، عوضًا عن “النكسات” التي يكتظ بها سجله السياسي والعسكري والعائلي، وذلك من خلال استباحة الجنوب اللبناني، الذي بات ـ كما يظنّ هو ـ أكثر هشاشةً وارتباكًا وفوضويةً عن ذي قبل، من خلال عملية برية “حذرة” يظفر من خلالها باتفاقية لوقف إطلاق النّار لا يعيد حزب الله ـ بعدها ـ قواته إلى الحدود ويتوقف إطلاق الصواريخ والقذائف.
وعندئذ قد تتمكن إسرائيل من سحب قواتها البرية، على أن يظلّ حزب الله موجودًا كقوة رئيسية في السياسة اللبنانية، ويعود “السلام الهشّ” مجددًا كما حدث بعد حرب إسرائيل وحزب الله في عام 2006.
وهذه هي الخطة الإسرائيلية المحتملة لما بعد الحرب. ويراهن نتنياهو على أنها أهم ورقة قد تؤمن له فرصة إعادة انتخابه مجددًا، وتأمين مستقبله السياسي، وتحصينه من السجن لاحقًا.
ربما يكون الغزو البريّ الذي حدث الليلة “سهلًا” من وجهة النظر التي تعتقد أن حزب الله، عند أكثر حالاته “ضعفًا”؛ بسبب تدمير شبكة اتصالاته في وقت سابق من شهر سبتمبر/ أيلول، بالهجوم المباغت والصادم ـ غير المسبوق في تاريخ المواجهات العسكرية ـ على أجهزة النداء اللاسلكي التابعة له، وبعد تصفية ثمانية من أكبر تسعة قادة عسكريين في الحزب، ونحو نصف مجلس قيادته، إن لم يكن أكثر من النصف بكثير، ناهيك عن أرفع مسؤول سياسي وله رمزيته ومنزلته المركزية والروحية الكبيرة (الراحل حسن نصر الله).
وعلى الرغم من الخطاب الأميركي المعلن بضرورة ولوج منطقة الدبلوماسية عوضًا عن الحلّ العسكري، فإنّ المقاربة التي نضجت في العقل الإستراتيجي الإسرائيلي ـ والأميركي بطبيعة الحال ـ تعزز نزعة التحول من السيطرة المنفردة على الجو إلى الاستيلاء “السّهل” على الأرض بعملية برية.
رأت تلك “المقاربة/النصيحة” أنّه لضمان استمرار ما اعتبرته “نصرًا تكتيكيا” فتّ ـ بالتأكيد ـ في عضد الحزب، يتعين على إسرائيل أن تتابع الأمر بطريقة أو بأخرى. فهي بحاجة إلى اغتنام فرصة ما وصفته بـ”الفوضى” التي يعيشها حزب الله؛ لتدمير أكبر قدر ممكن من المنظمة وترسانتها التي تضم 150 ألف صاروخ وقذيفة وطائرة بدون طيار.
بيد أنّ المقاربات، لا تخفي في توصياتها “فاتورة” العمل البري وتكلفته، فمن المؤكد أن حزب الله سيكون قادرًا على إلحاق خسائر فادحة بالقوات البرية الإسرائيلية حال دخولها جنوب لبنان بمنطق النزهة السهلة لا الحرب، لا سيما أنّ التقارير تشير إلى أن حزب الله يمتلك شبكة أنفاق واسعة النطاق في منطقة الحدود، فضلًا عن أنه منظمةٌ ضخمة، لديه ما يصل إلى 100 ألف مقاتل، رغم أن الاستخبارات الأميركية تعتقد أنّ عددهم ربما يكون أقرب إلى 40 ألفًا أو 50 ألف مقاتل، ومع ذلك فإن هذا العدد من المقاتلين يعتبر هائلًا.
ويضاف إلى ذلك، أنّ الحزب معنيٌ باستعادة هيبته في نظر الرأي العام اللبناني وترسيخ مصداقيته كقوة مقاتلة، وعدم المسّ بشرعية سلاحه لحماية لبنان من أي عدوان إسرائيليّ محتمل، وهي خطوةٌ قد تكون مرهقةً وشاقةً ولها تكلفتها في الحاضنة العربية المؤيدة للحزب، ولكن ليس من الصّعب تخطيها، خاصةً أنّ الحزب يتمتع بأدوات القدرة على إعادة تأسيس نفسه، فهو منظمةٌ كبرى وجزءٌ كبيرٌ من المشهد السياسي اللبناني. ويتمتع الائتلاف الذي يقوده بكتلة تضم أكثر من 60 مقعدًا في البرلمان اللبناني، وهي ليست أغلبية، ولكنها مهمةٌ رغم ذلك، ثم لا ننسى أن الحزب يقدم خدمات اجتماعية للسكان الفقراء في جنوب بيروت وجنوب لبنان.
ومن بين التكهنات التي أغرت بالعملية البرية، تأويل ما يظهره الحزب من “حكمة” ومواقف “منضبطة”، أو ما يوصف بـ”الصبر البارد” بعيدًا عن التهور والانفعال، بأنه يتجنب الانخراط في مزيد من القتال مع إسرائيل في هذه المرحلة بالذات ـ إذا كان بوسعه تجنبه ـ وذلك قبل استعادة عافيته، وإعادة بناء هيكلة قيادته البديلة من جديد، لا سيما أنّ الحزب حتى بعد الهجمات الإسرائيلية الأخيرة، لم يطلق آلاف الصواريخ والقذائف والطائرات بدون طيار يوميًا على إسرائيل، وهو ما يعتقد بأنه قادرٌ على القيام به.
وفي السياق، ثمة مخاوف بدأت تشوشر تدريجيًا على ما اعتبره الإسرائيليون “نصرًا مذهلًا”. فقد تواترت تقارير أميركية تشير إلى أنّ نصر الله كان يمثّل عقلانيًا منخرطًا في لعبة الجغرافيا السياسية، وعلى الرغم من الخطاب الناري حول الانتقام من العدوان على المدنيين في غزة، فإنه لم يشن هجومًا كبيرًا ضد إسرائيل، ولم يستخدم الصواريخ الأكثر تطورًا في ترسانته التي تضمّ عشرات الألوف من الصواريخ متوسطة وبعيدة المدى.
تستند هذه المخاوف إلى أن أسلاف نصر الله قد نشؤوا وسط الاضطرابات والصدمة التي أحدثها غزو إسرائيل للبنان في عام 1982، فبعد اغتيال إسرائيل عباس الموسوي وزوجته وابنه، لم تكن تلك التصفية إلا تأكيدًا على التزام حزب الله بمهمته. وسار نصر الله على خطى الموسوي، حيث نمت الجماعة تحت قيادته من حيث التجنيد والترسانة والانتشار داخل لبنان وخارجه.
المقاربات المستشرفة لمستقبل حزب الله بعد نصر الله وقيادته العسكرية والسياسية تستند إلى أن شرعية الحزب تتأسس على الصراع مع إسرائيل، وما دام هذا الصراع مستمرًا ـ وخاصة في ظل الخسائر الفادحة التي تكبدها المدنيون في غزة والجنوب اللبناني ـ فإنّ المجال مفتوحٌ أمام نسخة من حزب الله “أكثر تشددًا” من حقبته مع الراحل “المعتدل” حسن نصر الله.
الضبابية وغياب الشفافية في تل أبيب بشأن اليوم التالي لاغتيال نصر الله، والتي صاحبت تبجحات المغامرة العسكرية البرية، قد تورط ـ حال خروجها عن السيطرة ـ الولايات المتحدة الأميركية المشغولة بانتخابات نوفمبر/تشرين الثاني القادم في أزمات إضافية لا ترغب فيها بمنطقة الشرق الأوسط. هذا جعل الرئيس الأميركي جو بايدن والقيادة الأميركية يقدمان نصائح وصفت في وسائل إعلام أميركية محلية بـ”الممتازة” للحكومة الإسرائيلية: “لا يوجد حلٌ عسكري طويل الأمد لهذا الصراع، ولا بد أن يكون هناك يوم بعد ذلك، جدير بالثقة”.
صحيح أن نتنياهو، الذي بدأ بالفعل في التعافي في استطلاعات الرأي مع كلّ هجوم على حزب الله، سوف يتعزز موقفه أكثر، ولكن عشرات الآلاف من الإسرائيليين النازحين في شمال إسرائيل قد لا يعودون إلى ديارهم في أيّ وقت قريب. فما زالت ترسانة حزب الله راسخةً، وسوف يكون ردّ اللاعبين الجدد في اليمن والعراق محبطًا للآمال الإسرائيلية. وربما تسفر إستراتيجية إسرائيل في الاغتيالات المستهدفة والغزو البري لجنوب لبنان عن عناوين رئيسية مثيرة للإعجاب، ولكنها لم تسفر بعد عن نتائج مثيرة للإعجاب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.