لا بعد ستة أشهر من واقعة بيرل هاربر استطاعت الولايات المتحدة الأميركية قلب موازين الردع ضد اليابان في معركة ميدواي، وإحباط خطة (سنترال باسيفك) الخاصة بالأدميرال ياماموتو، واليوم، وبعد قرابة عام كامل من الفشل الإستراتيجي لإسرائيل من يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول وحتى اليوم، تظن إسرائيل أنها تخوض معركة ميدواي الخاصة بها، في محاولة لإعادة الأمور إلى نصابها، واسترداد شيء من الهيبة والكرامة المُهدَرة.
افتتحت إسرائيل الحرب على لبنان بضربات مثلت الأسبوعَين الأشد وطأة في تاريخ حزب الله، سواء على صعيد الضربات الدقيقة لقادة الحزب، والتي أتت على غالبية قيادته العسكرية المؤسّسة، أو الضربات الأفقية التي طالت آلاف الكوادر والعاملين، أو عملية اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله، الأب الروحي للتنظيم، والقائد التاريخي له، ولفيف من القادة معه، والتي مثلت أكبر عملية اغتيال في تاريخ حزب الله.
كانت هذه الغارة هي الأشد عنفًا على لبنان منذ حرب يوليو/ تموز (حرب لبنان الثانية)، ولم تكتفِ إسرائيل بها، بل ذهبت إلى التصعيد بالضغط على الدولة اللبنانية عبر تهديد مطار بيروت، ثم ذهبت إلى مستوى أكثر قسوة ودموية عبر قصف مربعات سكنية بعد المطالبة بإخلائها، وعشرات الغارات الدقيقة التي أكمل الاحتلال بها عمليات اغتيال البنية القيادية للحزب.
تنتمي هذه العمليات إلى إستراتيجية محضّر لها منذ سنوات؛ لتوجيه ضربة لحزب الله – وليست عبارة عن رد فعل تكتيكي؛ نتيجة تصعيد حزب الله في معركة طوفان الأقصى – بحيث تهدف إلى تحقيق هدف مركزي للاحتلال يقضي بتغيير البنية القيادية للحزب، تكون نتيجته إفراز بيئة سياسية أقل عداء لإسرائيل، وتخلق واقعًا جديدًا ليس على صعيد حالة الاشتباك مع جبهة الشمال فحسب، بل على صعيد العداء بين الإقليم والمشروع الصهيوني.
اعتمد الكيان في تنفيذ هذه الإستراتيجية على إحاطة استخبارية شاملة قام ببنائها طيلة الأعوام الثمانية عشر الماضية، وساعده فيها حالة الانكشاف الأمني التي قاتل بها حزب الله في سوريا، واستمرار حالة عدم الاشتباك في جبهة الشمال، منذ حرب يوليو/تموز وحتى السابع من أكتوبر/تشرين الأول، مما خلق حالة من الترهل الأمني، والاسترخاء البنيوي في تشكيلات حزب الله العسكرية والأمنية والتنظيمية، مما أتاح للكيان ثغرات خطيرة استطاع أن يلج من خلالها لبناء بنك أهداف ثقيل، بل ثقيل جدًا، اتضحت نتائجه من الضربات المتتابعة التي نفذها.
عبر قراءة التصعيد الكبير الذي يجري من زاوية إستراتيجية وليس تكتيكية، يصبح من اللامنطقي اختزال ما تفعله إسرائيل في محاولتها فرض معادلة: (نازحو الشمال مقابل نازحي الجنوب) بحسب الهدف المعلن لديها، بل نحن نتحدث عن حرب شاملة على لبنان، لا يمثل الهدف المعلن فيها سوى هدف ذرائعي؛ لخدمة سياقات الهدف الإستراتيجي للحرب، وهو تغيير الواقع الأمني والسياسي لجبهة الشمال، بحيث يصبح العدو الرابض هناك مُقلّم المخالب، ولا يشكل خطرًا وجوديًا على إسرائيل، ولا يقدر على تنفيذ هجوم بحجم السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
تشكلت هذه القناعة بتوجيه الضربة بعد استعصاء الفعل العسكري في غزة عن تحقيق أهداف الحرب، حيث كانت إستراتيجية الاحتلال تقضي بأن القضاء السريع والممكن على حماس في غضون شهور، سيسقط مركبات ما يسمى بمحور المقاومة أو وحدة الساحات تباعًا مثل أحجار الدومينو.
لكن، ومع فشل هذه الإستراتيجية، والصمود اللامنطقي والمفاجئ لجبهة غزة، وتعزيزها بدور فاعل ومتطور من جبهات الإسناد، أصبح الكيان أمام مسارَين لا ثالث لهما، إما أن يقبل بالتوقيع على تسوية أو اتفاق مع الخصم الذي توعد لعام كامل أن يقضي عليه، ويكون بذلك قد حكم على نفسه بالهزيمة، أو أن يستمر في الحرب بطريقة مختلفة تقوّض موقف خصمه عسكريًا، وبالتالي سياسيًا.
وجدت إسرائيل نفسها بعد قرابة عام من الحرب متورطة في معركة لا تستطيع كتابة خاتمة لها، تقوم فيها إستراتيجية بناها خصمها على قدمين راسختين؛ الأولى هي الاستنزاف، والثانية هي جبهات الإسناد، مما يشي بخطر داهم، وجد الكيان أن عليه التعامل معه بشكل سريع وحرج، وإلا فهو يخسر إذا بقي في الحرب، وإذا خرج منها.
هذ الأمر يتطلب منا إعادة صياغة تصوراتنا عن المعركة في الشمال، بحيث نضعها في سياقها المنطقي، وهي أنها حربٌ لا تصعيد، وأنها جبهة مفتوحة كمنطقة جهد حربي رئيسي ولم تعد جبهة إسناد، وهذا التصور يعني أننا أمام معركة كبيرة لا تقل ضراوة عن معركة غزة، وأن حدة القتال، ووتيرة النيران، وزخمها قد تؤدي إلى تحويل جنوب لبنان والضاحية الجنوبية إلى ركام، الأمر الذي يفرض منطقًا صارمًا على حزب الله، يقضي بالانخراط في المعركة بذات الزخم الذي دخلت به إسرائيل، واستهداف عمق الكيان بلا أسقف وبلا حدود، وهو يمتلك القدرة على ذلك.
كيف سيرد حزب الله؟
علّه من المهم عدم التورط في قراءة تأخر حزب الله في الذهاب للتصعيد في سياق (الصبر أو ابتلاع الضربات)، أو حتى قراءته في سياق الانهيار الشامل للمنظومة، بحيث أصبحت غير قادرة على الرد، وإنما هي صدمة، صدمة كبيرة وثقيلة، ومن الطبيعي أن تلقي بظلالها على ذهنية الحزب، وشبكات القيادة واتخاذ القرار لديه، وأن تستغرق قيادته وقتًا حتى تستعيد قوتها ورشدها، وتعيد تأمين قيادتها وفق المعطيات الجديدة.
يجب أن نتذكر دومًا أن هذه أثقل الضربات وطأة في تاريخ حزب الله، وأنها من أهم عمليات الاغتيال في تاريخ إسرائيل، وأن عدة أيام على أقصى التقديرات هي فترة طبيعية تلزم حزب الله لالتقاط أنفاسه والمضي قدمًا، وهو قادر على ذلك، ولنا في الأيام الأربعة الأولى من حرب يوليو/ تموز عبرة.
يحتاج حزب الله بطبيعة الحال وقتًا كافيًا لاستيعاب التروما، المتمثلة في حالة النزوح الكبيرة، واستهدافات بنيته القيادية وغارات الجنوب، والتقاط أنفاسه بعد اغتيال زعيمه وأبيه الروحي، والاستفاقة من الصدمة الكبيرة التي مُني بها، ومحاولة ترميم بنيته الأمنية بشكل طارئ وعاجل؛ لاستدراك الخلل الأمني الكبير الذي تنزف منه كل هذه الخسائر، قبل أن ينتقل إلى مستوى أعلى من التصعيد.
كذلك من المهم إدراك أن البنية التنظيمية والاجتماعية التي راكمها حزب الله، والأيديولوجيا التي يتحلى بها، وكذلك علاقاته الإقليمية تجعله قادرًا على تجاوز هذه الضربة، والتحول من موقع متلقي الضربات إلى الفعل والإيذاء.
من هنا فإن التصعيد أصبح حتميًا، وليس ثمة مكان لاستيعاب أو ابتلاع ما يجري؛ لأن التحوّط والحذر وابتلاع الضربات لتجنب الحرب أوقع ضررًا أكبر من القدرة على احتماله، وهذا الرد المرتقب، والذي من المرجح أن يكون عبارةً عن تصعيدٍ غير مسقوف، وانخراطٍ مباشرٍ وعنيفٍ لحزب الله في الحرب، والذي من شأنه أن يضع إستراتيجيًا العدو أمام خطر ليس بالهيّن، خاصة وأنها ترتكز على توهّم تحقيق النصر السريع والحاسم.
وهنا تصبح الهواجس والمحاذير التي لطالما حذر منها منظرو الكيان وقادة المؤسسة العسكرية والأمنية من تحول ساحات الاشتباك التكتيكي إلى ساحات اشتباك إستراتيجية واقعًا، مما يعني عصفًا بأهداف الحرب، وبدء معركة جديدة بعد عام من الإنهاك والاستنزاف، في أسوأ توقيت حرب تكون إسرائيل قد دخلته في تاريخها، الأمر الذي قد تكون نتيجته قلبًا للموازين، من ضربة قاصمة لحماس وحزب الله، إلى ضربة وجودية للمشروع الصهيوني.
انتشت إسرائيل بعد هذين الأسبوعين الداميَين كما لم تنتشِ منذ بداية الطوفان، حتى ظنّت أنها نسيت معنى النشوة والفرح، ومكمن النشوة هذه ظنّها أنها حققت نصرًا سريعًا حاسمًا بتكلفة صفرية تقريبًا، وأنها استطاعت تذوق معنى النصر بعد أن مُنيت بعام كامل من الهزائم، لكن مشكلة هذا النصر أنه مؤقت، وزائف، وطفولي، ولا معنى له، بل تقول الحقيقة إن توهّم النصر في لحظة الحرب مهلك تمامًا، مثل توهّم الهزيمة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.