بدأ الاحتلال عدوانه على لبنان تحت مسمى عملية “سهام الشمال”، بتصنيف عملياتي أقل حتى من حرب لبنان الثانية (يوليو/ تموز 2006)، التي أطلق عليها في حينها اسم “حرب”، بينما أطلق على هذه المعركة اسم “عملية”، نظرًا لأن أهدافها المعلنة لم تكن تستدعي جولة بحجم حرب، وإنما عملية عسكرية محدودة هدفها إعادة مستوطني الشمال إلى منازلهم فحسب.
فالاحتلال – بحسب تقديره لقوة حزب الله- لن يكون قادرًا بهذا الجيش المنهك على التورط في حرب مع تنظيم بحجم “غول” سيتسبب الاشتباك معه في وقوع آلاف القتلى من مستوطني مدن المركز الإسرائيلية، والتعرض لثلاثة آلاف صاروخ يوميًا تضرب تل أبيب وقيسارية وهرتسيليا، ومقتلة غير مسبوقة في صفوف جنوده المقاتلين قياسًا بمعارك بنت جبيل ووادي الحجير.
ولذلك وضع الاحتلال خطة متواضعة بقدر متدنٍّ من المخاطر ترتكز بشكل أساسي على احتكاك محدود بحزب الله على طول الحدود، وتوجيه ضربة وقائية ضده لا تتجاوز بلدات الحافة الأمامية.
اكتشف الاحتلال بعد الضربات الهائلة التي نفذها ضد الحزب، وبعد أيام من القتال امتنع فيها حزب الله عن توسيع دائرة النار، وعن استهداف تل أبيب حتى بعد اغتيال أمينه العام، وتهجير مليون مواطن لبناني من بلدات الجنوب في يوم واحد، وقتل أكثر من 500 إنسان منهم، أن خوفه من الوحش الكامن في الشمال التبسه شيء من المبالغة، فلجأ إلى تعديل أهداف الحرب ومسارها، وأصبح يطالب بما هو أكثر من ذلك بكثير.
نشبت الحرب، وشهدت مواقع الحافة الأمامية قتالًا ضاريًا، عانى على إثره جيش الاحتلال من التقدم في عمق منطقة العمليات، وبدا جليًا عدم قدرة الفرق العسكرية الست على الزج بآلياتها العسكرية في مناطق القتال، خشية من الصواريخ الموجهة والمسيرات، والاكتفاء بالوحدات الخاصة للسيطرة على المواقع، ومع هذه الصلابة الدفاعية، وإعادة تنظيم الحزب صفوفه بعد عشرة أيام من الارتباك، ومع دخول حيفا على خط القصف بشكل يومي، ودخول تل أبيب أحيانًا، عادت أهداف الكيان إلى التقلّص مجددًا، من تدمير حزب الله إلى تدمير قرى الحافة الجنوبية فقط!
حيث إنه وبقراءة سريعة لتصريحات قادة الكيان، وعلى رأسها تصريح غالانت الذي قال فيه: “سندمر الخط الأول من القرى في لبنان ولن نسمح بعودة حزب الله”، لاحظنا حجم الانكسار والتراجع في التصريحات من تحقيق أهداف إستراتيجية تتمثل في كسر حزب الله، ونزع سلاحه، وإنهائه كقوة سياسية مهيمنة، إلى مجرد الاكتفاء بتدمير قرى الحافة والأمامية.
في الخطاب الثالث له بعد اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، أعلنَ الشيخ نعيم قاسم عن توسيع المواجهة من الإسناد إلى مواجهة العدوان، والبدء بمرحلة جديدة أسماها إيلام الاحتلال، تلاها بعد أيام استهداف دقيق لغرفة نوم رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو في بيته في قيسارية بطائرة مسيرة، واستمرت بعدها الضربات بشكل متتابع، بمستوى شكل ضغطًا غير مسبوق على الجبهة الداخلية للكيان، حيث دخل مرة على إثر هذه الهجمات أربعة ملايين مستوطن إلى الملاجئ.
بدلًا من استثمار حالة الزخم الناري هذه، والصمود الكبير للأنساق الدفاعية، وافق حزب الله مستعجلًا – تحت وطأة الضغط العسكري- على اتفاق وقف الحرب، مما أثار كثيرًا من التساؤلات، منها، هل أخطأ حزب الله قراءة الموقف الإستراتيجي للحرب بشكل خاطئ، وتوّج هذا الخطأ بخطأ أكبر بذهابه لتوقيع اتفاق وقف الحرب، أم كان ذلك أفضل ما يمكن لحزب الله فعله بعد الخسائر القاسية التي مُني بها؟
هل قام حزب الله بكل ما يمكنه القيام به، وذهب إلى أفضل اتفاق يمكن تحصيله، ويحقق له الاحتفاظ بقوته العسكرية والسياسية، بدلًا من الاستمرار في معركة قاسية ستكلفه أضعاف ما خسره؟ وما هي آثار هذا الاتفاق في المنظور التكتيكي والإستراتيجي؟
بالنظر إلى ما حققته إسرائيل وخسرته في هذه الجولة الأشد شراسة في القتال مع لبنان منذ عام 1982، وإلى ما آلت له من اتفاق، وإلى وضعية المقاومة في مختلف الجبهات على الصعيد العملياتي والتفاوضي، يمكن القول إن انسحاب حزب الله من القتال، وذهابه إلى إبرام اتفاقٍ وحيدًا بمعزل عن بقية الجبهات، مخالفًا بذلك المسار الإستراتيجي الذي دشّنه السيد حسن نصر الله، فوّت حزب الله على نفسه، وعلى جبهات المقاومة فرصة كبيرة لتوجيه ضربة قوية للمشروع الصهيوني، في أهم معركة إستراتيجية في عمر الصراع العربي الإسرائيلي، خاصة أن جيش الكيان يعاني من حالة من الإنهاك الحاد في قواته النظامية، وكذلك في منظومة الاحتياط التي تعاني أزمة كبيرة ترخي بظلالها بشكل كبير على جبهته الداخلية، خاصة مع تفاقم أزمة تجنيد الحريديم.
وقد ذكر ذلك رئيس وزراء الاحتلال صراحة في خطابه إبان وقف إطلاق النار، حيث أسند وقف الحرب إلى أحد الأسباب المركزية، بقوله: “إعطاء قواتنا قسطًا من الراحة وتجديد مخزون الأسلحة”.
وقد عنى بذلك أن وقف القتال في الشمال سيسمح للكيان بإعادة تعبئة مخازن الأسلحة الخاصة به وترميم الأدوات القتالية الدفاعية والهجومية، ومنح قواته النظامية والاحتياطية فرصة التقاط الأنفاس وإعادة التنظيم والانتعاش بعد أربعة عشر شهرًا كاملة من الحشد والتعبئة والقتال.
فضلًا عن تحرير شحنات أسلحة مجمّدة في الولايات المتحدة، كالقنابل الثقيلة والأدوات الهندسية الثقيلة، وهو ما سيمنحه درجة أعلى من التحضير والجاهزية، كما أن ذلك سيحرر الكيان – بطبيعة الحال- من قدر لا بأس به من الضغط المتشكل عليه من أزمة الحريديم، والتي تعتبر أهم الأزمات الداخلية في دولة الكيان، والتي تهدد – بسبب تفاقمها في هذه الحرب- بأزمة سياسية واجتماعية حادة.
بجانب تفويت هذه الفرصة، فقد فوّت حزب الله على نفسه فرصة تحقيق صورة نصر تشبه تلك التي حققها في حرب يوليو/ تموز 2006، واختار الخروج العاجل من هذه الحرب بصورة الجريح، حاملًا خسارة ثقيلة في صفوف قادته وجنده وبنيته التحتية وهيبته الداخلية، بدلًا من الرهان على منح المعركة المدى الزمني الطبيعي لها، وتوريط جيش الاحتلال المنهك بمزيد من المعارك القاسية في الجنوب، والتي كان من المرجح أنها ستمنحه صورة نصر تحفظ له حالة الردع مع الكيان، وحضورًا داخليًا مهيبًا كالمعتاد، بمعنى أن ما استمده حزب الله من صور انتصارات بنت جبيل ووادي الحجير كان قوة دافعة طيلة العقدين السابقين.
لم يمنح نفسه الفرصة للرهان على تحقيق شيء يشبه ذلك في هذه الحرب، فلم يراهن مثلًا على تحقيق إنجاز ميداني يضيف لرصيده نقاط قوة تمثل عاملًا قادرًا على إحداث تغيير في معادلة الحرب، مثل أسر جنود إسرائيليين، بل حتى لم يذهب لتنفيذ ضربة ختامية ثقيلة على عمق الكيان تبقى شاهدًا ودليلًا على قوة حزب الله، والأكثر من ذلك أنه لم يسعَ للمطالبة بوقف إطلاق نار – ولو إنسانيًا – في غزة لعدة أيام، بالتزامن مع إعلان وقف إطلاق النار في لبنان، وخرج الاحتلال من الحرب بصورة الجيش الذي وصلت قواته إلى نهر الليطاني.
كما أن الفصل الذي تحقق في الجبهات، من شأنه أن يلقي بظلاله السلبية على وضعية المقاومة (إستراتيجيًا) كذلك، حيث شكّل ضربة كبيرة في نظرية وحدة الساحات – التي مثلت معركة طوفان الأقصى الاختبار الحقيقي الأول لها – مما سيترك ندبة عميقة في بنيوية محور المقاومة، وسيثير كثيرًا من التساؤلات المتعلقة بجدوى هذه النظرية.
ولعل هذا يحيلنا إلى ما قاله السيد حسن نصر الله حول ما سببه فصل الجبهة المصرية عن الجبهة السورية في حرب أكتوبر/ تشرين الأول من تضييع لفرصة إستراتيجية في الصراع العربي الإسرائيلي، حيث قال: “هذه الوحدة التي تحققت في حرب تشرين كادت أن تصنع نصرًا تاريخيًا حاسمًا، لولا تفرد الرئيس أنور السادات بوقف إطلاق النار، وبقاء الجبهة السورية وحيدة هو الذي ضيّع هذه الفرصة التاريخية”.
اعتبر مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان هذا الاتفاق بمثابة إنجاز كبير للسياسة الأميركية في المنطقة، حيث قال: “إننا استطعنا بهذا الاتفاق تجنب انخراط الولايات المتحدة الأميركية في حرب إقليمية في الشرق الأوسط”، هذه الخسارة أضاعت على المقاومة فرصة تاريخية قلّ أن تتكرر.
أخيرًا، لا يتسنى لأي فلسطيني إلا أن يشكر لبنان، شعبًا ومقاومة، وقادة ومقاتلين، على ما بذلوا من تضحيات جسام، ناءت بحملها جيوش العرب وشعوبها، وما هذه إلا توضيحات مستحقّة للمآلات التكتيكية والإستراتيجية لاتفاق وقف الحرب، ولا تغير من واقع التضحية والفداء شيئًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.