Login النشرة البريدية

منذ قديم الزمان، اعتمد البشر على البحر مصدرًا أساسيًّا للغذاء، ومنذ أن عرفوا مهنة الصيد نشبت بينهم صراعات على الثروات البحرية. وفي العصر الحديث، تزداد احتمالات تحول الصراعات على حقوق الصيد إلى نزاعات مسلحة بين الدول، ويرجع ذلك إلى حقيقة أن الثروة البحرية من الموارد الطبيعية المحدودة، وهي توفر الغذاء لمليارات البشر، حيث تشكل الأغذية البحرية ما يقرب من خُمس الاستهلاك العالمي من البروتين الحيواني، كما أن منتجاتها تعدّ من السلع الغذائية الأكثر تداولًا في العالم.

في غضون ذلك، تشكل مصايد الأسماك مصدرًا أساسيًّا للموارد الاقتصادية في العديد من البلدان، لكنها تواجه تحديات ضخمة بسبب ممارسات الصيد الجائر وتغير المناخ الذي يسبب تحولات مستمرة في توزيع الثروة السمكية. وتشير دراسة صدرت عام 2022 حول هجرة الأسماك بسبب المناخ، إلى أن 23% من الثروة السمكية الموجودة في المياه الإقليمية للدول سوف تتحرك من أماكنها بحلول عام 2030، ومع نهاية هذا القرن قد تصل هذه النسبة إلى 45%.

يعني ذلك أن العديد من دول العالم، ومنها بعض الدول الكبرى ذات الكثافة السكانية العالية سوف تسخر جهودها لمطاردة الأسماك في أعالي البحار من أجل تأمين الغذاء لشعوبها، وإنعاش اقتصاداتها، ومنها الصين التي تمتلك أحد أكبر أساطيل صيد الأسماك في العالم. ويهدد هذا النوع من المطاردة بنشوب صراعات مسلحة بحرية حول المياه المتنازع عليها في العديد من المناطق، ومع هيمنة الولايات المتحدة على أعالي البحار، ليس من المستبعد أن نشهد صراعا بحريا واسعا بين اثنتين أو أكثر من القوى العظمى.

وإذا حدث ذلك، فلن تكون هذه هي المرة الأولى التي تنشب فيها صراعات بحرية بسبب الثورة السمكية. فخلال فترة ما بين الحرب العالمية الثانية وانهيار الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينيات، نشب نحو ربع الصراعات العسكرية البحرية بين الدول حول مصايد الأسماك، وتظهر بيانات العقود الأربعة الماضية أنه بدلًا من أن تتراجع هذه الصراعات، فإنها ازدادت بمقدار 20 ضعفًا. يقودنا هذا إلى طرح بعض الأسئلة المُلحَّة مثل: هل نشهد قريبًا حروبًا واسعة بسبب الصراع على الثروة السمكية؟ وكيف تستغل دول مثل الصين أساطيل صيد الأسماك في فرض سيطرتها على المياه العميقة؟ وهل هناك أهداف عسكرية لأساطيل الثروة السمكية في عالم اليوم؟

صراع النفوذ.. الهادئ والهندي ساحة لتبادل التهديدات بين أمريكا والصين

حروب الأسماك

في فبراير/شباط عام 2022، ذكر تقرير وثائقي من قناة “ناشونال جيوغرافيك”، أن نحو 30% من كافة أشكال الغذاء البحري في الولايات المتحدة يجري صيدها بصورة غير قانونية من جانب “قراصنة صيد الأسماك”. وأبرز التقرير الاستقصائي كيفية تحول الصيد البحري غير القانوني إلى سوق سوداء بمليارات الدولارات؛ مما يزيد من حدة الضغط على المنظومات البيئية في المحيطات، التي تعاني أصلًا من ضغوط شديدة نتيجة لارتفاع عمليات الصيد القانونية.

في مختلف أنحاء العالم، تتعرض العديد من أنواع الأسماك الطبيعية المهاجرة، مثل أسماك التونة، وكذلك الأنواع الأخرى القليلة الترحال لظاهرة الصيد الجائر، الذي يستهدف اليوم قرابة ثلث مخزونات العالم من الأسماك؛ مما يهدد بتكاليف بيئية واقتصادية باهظة. وتعد الصين تحديدا هدفا لنيران الانتقادات الغربية في هذا الصدد، حيث تتهم بأن أسطولها هو الأكثر ارتكابا لعمليات الصيد غير القانونية في العالم، فضلا عن استخدام تكتيكات الصيد الممنوعة؛ مما ساهم في وصول بعض أنواع الأسماك إلى حافة الانقراض.

لكن ليست السفن الصينية وحدها هي التي تلجأ إلى الصيد غير القانوني في المحيطات، فمثلا وجد تقرير صادر في مايو/أيار الماضي عن مؤسسة “بلو مارين”، وهي مؤسسة بريطانية معنية بالحفاظ على المحيطات، أن سفن صيد أسماك التونة التي ترفع العلمين الفرنسي والإسباني تغلق أجهزتها للتتبع وهي تصطاد في المحيط الهندي، وذلك رغم عدم قانونية هذا الفعل. ويشير التقرير إلى أن السفن التي تغلق أجهزة التتبع بصورة منتظمة تحاول غالبًا تجنب اكتشافها عندما تشارك في أنشطة الصيد غير القانونية.

قانونيًّا، تُعدّ اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، الصادرة عام 1982، هي الوثيقة التأسيسية لكافة الاستحقاقات الإقليمية البحرية، وقد صادقت عليها أكثر من 150 دولة في العالم. ووفقا للاتفاقية، يحق لأي دولة أن تستحوذ حصريا على أي مورد بحري -بما في ذلك الأسماك- ضمن مسافة 200 ميل بحري من حدود اليابسة التي تخضع لسيطرتها، ويُطلق على تلك المساحات البحرية اسم “المناطق الاقتصادية الحصرية” (exclusive economic zones) أو (EZZ).

تتولى كل دولة مسؤولية إدارة مصايد الأسماك الخاصة بها داخل منطقتها الاقتصادية الحصرية. ولكن خارج هذه المنطقة الحصرية، فإن مسؤولية إدارة الصيد والأنشطة في أعالي البحار تقع على عاتق أكثر من 20 هيئة دولية وإقليمية، تتنوع اختصاصاتها ومواردها بدرجات متفاوتة.

لكن هذه الهيئات ليست كافية لمنع اندلاع العديد من النزاعات البحرية في العالم للسيطرة على موارد المياه العميقة، ومنها بعض النزاعات التاريخية التي تحولت في بعض الأوقات إلى شكل من أشكال الصراعات المسلحة بين الدول. مثلا في منتصف القرن العشرين، تحديدا بين الخمسينيات والسبعينيات، خاضت بريطانيا وآيسلندا حربًا جراء حقوق صيد الأسماك اشتهرت باسم “حروب سمك القد”.

في الوقت الراهن، هناك العديد من المناطق بالعالم مهددة بنشوب صراعات مماثلة، في مقدمتها منطقة القرن الأفريقي التي تعد من أغنى مناطق الصيد وأكثرها ربحية في العالم، فعلى امتداد ساحل الصومال الذي يبلغ طوله 3,300 كيلومتر، والمُعلن منطقة اقتصادية حصرية منذ عام 1972، تمكن الصيادون المحليون من صيد نحو 6 آلاف طن متري من الأسماك خلال عام 2022 وحده.

وقد شهدت المنطقة ارتفاعا في حدة التوترات والصراعات بين الصيادين الأجانب وبين مجتمعات الصيد المحلية التي تعتمد بالأساس على الأسماك. ووفقًا لمبادرة “مستقبل المحيطات” (Oceans Futures) فإن انخفاض مخزون الثروة السمكية بسبب تغير المناخ، إضافة إلى المنافسة الشديدة على الصيد دون ضوابط، يضع القرن الأفريقي في أعلى درجات الخطورة للنزاعات المستقبلية على مصايد الأسماك.

لكن منطقة القرن الأفريقي ليست الوحيدة التي يلوح بها خطر نزاعات الصيد في الأفق، إذ تحدد المبادرة أكثر من 20 نقطة مرتفعة الخطورة لنزاعات الأسماك، ومنها القطب الشمالي وساحل الإكوادور وغرب وسط المحيط الهادئ وغرب أفريقيا وشرق البحر الأبيض المتوسط والأهم بحر جنوب الصين الذي يعد ساحة مرشحة لنشوب صراع بحري محتدم تقع مصايد الأسماك في القلب منه.

سفن أميركية وفلبينية في تدريبات ببحر جنوب الصين (الجزيرة)

أسطول الظل الصيني

في نهاية شهر أغسطس/آب الماضي، ذكرت الصين أن زورقا فلبينيا “اصطدم عمدا” بسفينة تابعة لخفر السواحل الصيني قرب منطقة شعاب مرجانية متنازع عليها في بحر جنوب الصين تعرف باسم “سابينا”، تبعد نحو 140 كيلومترا عن السواحل الفلبينية و1200 كيلومتر من جزيرة هاينان الصينية، في واقعة هي الأخيرة ضمن سلسلة حوادث مماثلة في الفترة الأخيرة.  وترى مانيلا أن المنطقة المذكورة تقع ضمن نطاق مناطقها الاقتصادية الخالصة، وتطالب بكين بالسيادة الكاملة على بحر جنوب الصين بما في ذلك المياه والجزر القريبة من سواحل عدد من الدول المجاورة.

تعد بحار جنوب وشرق الصين اليوم هي أكثر المناطق المائية التهابا في العالم، وتسير الصين فيها دوريات بحرية مستمرة بجانب حملتها المستمرة لإقامة جزر اصطناعية وعسكرتها لفرض نفوذها البحري في المنطقة. ويعد بحر جنوب الصين تحديدا أحد أهم الممرات المائية العالمية من الناحية الإستراتيجية والاقتصادية، فهو معبر لنحو ثلث الشحن البحري عالميا، وتعتمد عليه الصين في وارداتها من الطاقة وصادراتها الواسعة. وهناك 6 دول تطل على البحر، هي الصين وفيتنام والفلبين وتايوان وماليزيا وبروناي، وتتنازع هذه الدول السيادة على أجزاء منه، ويتصاعد منذ فترة طويلة التوتر حول هذه السيادة بصورة متواصلة.

تمثّل سفن الصيد البحري السبيل الأمثل للصين -وغيرها- لإثبات الوجود وتثبيت الحقوق في هذا النزاع البحري، دون الحاجة إلى استفزاز رد عسكري من الخصوم، لأن هذه السفن -من الناحية النظرية- هي سفن غير حكومية؛ مما يمنح الدولة التي تنتمي إليها إمكانية إنكار وجودها أو أفعالها، كما أنها غير مسلحة.

وفضلا عن ذلك، فهي رخيصة الثمن مقارنة بالسفن العسكرية التابعة للقوات البحرية أو خفر السواحل، وتملك أيضًا قدرة أكبر على الحركة والانتشار في مناطق ومساحات بحرية أوسع مقارنة بالمنشآت الثابتة مثل منصات استخراج النفط أو الجزر الاصطناعية. وعلى صعيد الفوائد المباشرة، يخدم أسطول الصيد الواسع هدف الصين للحفاظ على تصدّرها منتجي الأغذية البحرية في العالم بحصة 71 مليون طن متري عام 2023، بزيادة 3.5% على عام 2022.

تعد هذه التحركات جزءا من خطة صينية أوسع لاستعادة الأمجاد القديمة في عالم البحار. في كتابها “حين حكمت الصين البحار”، تشير الكاتبة الأميركية لويز ليفاثيس (Louise Levathes) إلى أنه قبل عصر كريستوفر كولومبوس بمئة عام تقريبًا، فرضت الإمبراطورية الصينية هيمنتها على عالم البحار. ففي القرن الخامس عشر، أرسل إمبراطور الصين أسطولًا من “سفن الكنز” يضم سفنا حربية وسفنا لنقل الخيول بجانب السفن التجارية التي حملت الحرير والخزف في رحلة حول المحيط الهندي.

كانت تلك السفن من أضخم السفن الخشبية على الإطلاق، وتميزت بابتكارات غير مسبوقة وقتها مثل دفّاتها المتوازنة ومقصوراتها المحصنة التي سبقت التكنولوجيا الأوروبية بقرون. لم يتفوق أحد على حجم هذا الأسطول حتى نشوب الحرب العالمية الأولى، ولكن خلال عهد أسرة مينغ الحاكمة أدى الاضطراب السياسي إلى تراجع الصين وتوجهها نحو الانعزال، وبحلول منتصف القرن السادس عشر، أصبح الإبحار على متن سفينة متعددة الصواري جريمة، وفقدت الصين هيمنتها في عالم البحار.

بعد ذلك بفترة طويلة خلال القرن العشرين، هيمن الاتحاد السوفياتي واليابان وإسبانيا على الصيد في أعالي البحار. ولكن تسبب انهيار الاتحاد السوفياتي وتزايد اللوائح البيئية والعمالية في تراجع تلك الأساطيل البحرية. ومنذ ستينيات القرن الماضي، شهدت سفن الصيد تطورات في تقنيات التبريد، والإبحار عبر الأقمار الاصطناعية، وكفاءة المحركات والرادار، وأصبح بإمكان السفن قضاء أكثر من عامين في البحر دون العودة إلى اليابسة، ونتيجة لهذا ارتفع الاستهلاك العالمي للأغذية البحرية بخمسة أضعاف.

وبحلول عام 1985، قررت الصين السعي لاستعادة أمجادها القديمة، مدشنة أول أساطيلها الحديثة للصيد في المياه العميقة، وذلك حين أرسلت إحدى الشركات المملوكة للحكومة، وهي شركة مصايد الأسماك الوطنية الصينية، ثلاث عشرة سفينة صيد إلى ساحل غينيا بيساو، ومنذ ذلك التاريخ استثمرت الصين بكثافة في تطوير أسطولها، وخلال أقل من أربعة عقود امتلكت الصين أكبر أسطول صيد للأسماك في المياه العميقة عالميا؛ وأصبحت الشركات الصينية تمتلك أو تدير مرافئ في خمسة وتسعين ميناء خارجيا على الأقل، كما أشار إليه تقرير صحفي استقصائي في مجلة نيويوركر في أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي (2023).

وتشير تقديرات الصين إلى امتلاكها 2700 سفينة صيد تبحر في المياه العميقة، ولكن هذا الرقم لا يشمل السفن المنتشرة في المياه المتنازع عليها، مثل بحر جنوب الصين. وتشير الوثائق العامة وصور الأقمار الاصطناعية إلى أن حجم الأسطول الصيني يقترب من 6500 سفينة متفاوتة الحجم والقدرات، وللمقارنة، تمتلك الولايات المتحدة أقل من 300 سفينة صيد في المياه العميقة، وهو نفس عدد السفن الذي تملكه دول الاتحاد الأوروبي. تنتشر هذه السفن الصينية ليس فقط في المناطق الاقتصادية الخاصة ببكين، ولكن في المياه الدولية بل -وهو الأهم- في المياه الخاصة بدول أخرى في غرب أفريقيا وأميركا الجنوبية، وقطعا في المياه المتنازع عليها بين بكين وجيرانها.

يخدم هذا الانتشار الواسع لأسطول المياه العميقة هدف الحكومة الصينية لتوسيع نفوذها على الصعيد الدولي. ولكن أبعد من ذلك، تزعم الولايات المتحدة أن الصين هي الدولة الوحيدة التي تعتمد على أسطولها للصيد في المياه العميقة كامتداد لقواتها البحرية العسكرية الرسمية، مما يعني أن أسطول الصين السمكي الواسع هو في الحقيقة أشبه بـ”أسطول ظل” يخدم أيضا أغراض بكين العسكرية.

 

المليشيا البحرية.. حرب بلا مدافع

لإبحار أعمق في هذا الموضوع، تحدثنا في الجزيرة نت مع الدكتور إيان رالبي، وهو أحد الخبراء البارزين في القانون الدولي والأمن البحري، والمؤسس والرئيس التنفيذي لشركة ” آي آر كونسيليوم” (I.R. Consilium) وهي شركة متخصصة في مجال الأمن البحري. يرى الدكتور أن العديد من الدول تستخدم أساليب متباينة للغاية للتوظيف العسكري للموارد البحرية المدنية، لكن في الصين تحديدا فإن الخط الفاصل بين الأصول المدنية والعسكرية ليس واضحًا تماما.

بعبارة أوضح، تدير بكين مجموعة واسعة من الأصول المدنية التي تُوظف لأغراض عسكرية، وعن ذلك يقول رالبي للجزيرة نت: “سواءً تحدثنا عن سفن الصيد أو السفن التجارية أو الشركات الخارجية، كلها أصول تحت تصرف الدولة لتستخدمها في إيجاد تأثير إستراتيجي لصالحها”.

يدعم هذا النهج مجموعة تشريعات مثل قانون الاستخبارات الوطنية لعام 2017، الذي ينص على أن كل مواطن صيني وكل شركة صينية تساهم في جهود الدولة الاستخبارية، مما يضمن إمكانية تسخير كافة العناصر المجتمعية لأغراض الأمن القومي الصيني. وتطبيقا لهذا الإطار، تدفع الصين بأسطولها إلى المياه المتنازع عليها، إذ تتخفى بعض سفنها في شكل سفن صيد، ولكنها تُكّون فعليًّا ما يُطلق عليه الخبراء “المليشيا البحرية”، وهي سفن مدنية غير نظامية لكنها في الحقيقة تؤدي مهامّ شبه عسكرية.

وبحسب الأبحاث التي أجراها مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية “CSIS”، فإن الحكومة الصينية تدفع لمالكي بعض تلك السفن مبلغا يصل إلى 4500 دولار يوميا مقابل وجودها في المياه المتنازع عليها أغلب فترات العام. وتشير بيانات الأقمار الاصطناعية إلى أنه خلال العام الماضي اصطادت عشرات السفن في المياه التايوانية كما دخلت 200 سفينة قطاعات متنازع عليها في بحر جنوب الصين.

تساعد تلك السفن في تنفيذ ما يُعرف بـ”عمليات” المنطقة الرمادية” (gray zone) وهي عملية انتشار تخدم أعراضا عسكرية لكن دون مستوى الحرب أو القتال. كما أنها ترافق سفن التنقيب عن النفط والغاز الصينية، وتسلم الإمدادات، وتعترض السفن التابعة لدول أخرى. وبشكل عام في عمليات المنطقة الرمادية، تستفيد الدول من قوى أو أساليب غير مألوفة في سعيها لتحقيق أهدافها الإستراتيجية دون اللجوء إلى الصدام المسلح، وهو نهج تطلق عليه المصادر الصينية “حرب بلا أدخنة مدافع”.

تكتيكيا، تسير الأمور وفق النهج التالي: تنشر الصين سفنها التي تظهر كسفن صيد عادية تابعة لأسطول المياه العميقة، وتستخدمها لتمارس ضغوطا إقليمية في المياه المتنازع عليها، ومنها بحر جنوب الصين وحول سواحل تايوان. وبحسب الخبراء فإن هذه السفن المنتمية إلى “المليشيا البحرية” تعد العنصر الأبرز في إستراتيجية بكين لإعادة صياغة المشهد الجيوسياسي في المنطقة، إذ تظهر سفنها ذات الهياكل الزُّرْق باستمرار في المواجهات الإقليمية في بحر جنوب الصين.

مثلا في المنطقة المحيطة بجزر سبراتلي، تدفع بكين لسفن الصيد التجارية أكثر مما يمكن أن تجنيه من عمليات الصيد مقابل أن ترسو هناك مدة 280 يومًا على الأقل في السنة لتدعم مطالبة بكين بالأرخبيل المتنازع عليه مع كل من الفلبين وماليزيا وفيتنام، الذي يشرف على طريق بحري هام ويقع في منطقة غنية بالأسماك ويُعتقد أنها تحتوي على احتياطيات غير مستغلة من الغاز الطبيعي والنفط. وبشكل مماثل، تحتشد قوارب الصيد الصينية في منطقة سكاربورو الضحلة في بحر جنوب الصين في المنطقة الاقتصادية الحصرية للفلبين، وتسلك سلوكا مماثلا في المناطق الاقتصادية الحصرية لإندونيسيا وفيتنام وماليزيا، وإن بشكل أقل كثافة وحدة.

صورة نشرتها وزارة الدفاع الكورية عام 2016 لما تقوله إنها عملية تستهدف عددا من قوارب صيد الأسماك البحرية التي تجاوزت الحدود المسموح لها (الأوروبية)

يصف المحللون تلك “المليشيا البحرية” على أنها قسم ثالث من القوات البحرية الصينية إلى جانب سلاح البحرية وخفر السواحل. لكن الحكومة الصينية تؤكد أن هذا الأسطول لا يتجاوز كونه مجموعة من الصيّادين الوطنيين. ولكن وفقا لمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، يمكن تقسيم “المليشيا البحرية” إلى فئتين أساسيتين؛ الأولى تشمل السفن المحترفة التي صُنعت لهذا الغرض وتتلقى أموالًا لتمويل أعمالها، أما الفئة الثانية فهي سفن الصيد التجارية التي تستوفي الحد الأدنى من المتطلبات ويجري تجنيدها عبر تقديم الإعانات المالية. والسفن في الفئة الأولى مجهزة بمدافع مائية وهيكل مقوى لعمليات التصادم بالسفن الأخرى، ويُزعم أن بعضها يشمل مخازن للأسلحة الخفيفة.

على المستوى البشري، تتكون “المليشيا البحرية” من أفراد يعملون في الاقتصاد البحري ويتلقون التدريب من جيش التحرير الشعبي الصيني لأداء مهام تتضمن دوريات مراقبة الحدود، وتنفيذ عمليات الاستطلاع والمراقبة، والنقل البحري، وعمليات البحث والإنقاذ، بجانب المهام المساعدة لدعم العمليات العسكرية البحرية في أوقات الحروب. وفي هذا السياق، يشير الدكتور رالبي إلى تخفّي تلك السفن، التي تُجهز أحيانا بهياكل معززة وطواقم من أفراد يرتدون الزي الرسمي، في هيئة سفن للصيد، ويتيح لها هذا الستار إمكانية التحرك في مناطق متنازع عليها، مثل المناطق الاقتصادية الحصرية للدول الأخرى، دون أن تتعرض للتدقيق أو الرد الفوري الذي قد تتعرض له السفن العسكرية.

 

شبكة معلومات المحيط الأزرق

يرجِّح بعض المحللين العسكريين الأميركيين أن الصين تستخدم أسطولها لمهام المراقبة والاستطلاع وجمع المعلومات الاستخبارية من خلال منصة لوجستية رقمية تحمل اسم “لوجينك” (Logink)، هدفها تعقب حركة السفن والبضائع في المنطقة المحيطة بها، ومنها على الأرجح الشحنات العسكرية الأميركية، لكن الحزب الشيوعي الصيني نفى تلك التخوفات وذكر أنه “لا يخفى على أحد أن الولايات المتحدة أصبحت ترتاب كثيرًا في أي شيء يخص الصين”.

وعكسًا لذلك أكد رالبي للجزيرة نت أن “استخدام البنية التحتية البحرية التجارية لتعزيز الاستخبارات الصينية لم يعد نظرية مؤامرة. بل هو واقع فعلي”، وأشار إلى مبادرات مثل “شبكة معلومات المحيط الأزرق” (Blue Ocean Information Network)، التي سخّرت بها الصين بنيتها التحتية البحرية المدنية لجمع المعلومات الاستخبارية على نحو مكثف. وتمتد هذه الشبكة عبر العالم، محوّلةً السفن التجارية إلى أجهزة استشعار على امتداد محيطات العالم الشاسعة، ومهمتها جمع البيانات حول حركة الملاحة التجارية البحرية.

ويشير رالبي إلى استفادة الصين من تلك السفن المدنية للحفاظ على وجود مستمر في المناطق الإستراتيجية تحت ستار الأنشطة التجارية؛ مما يتيح لها المراقبة المستمرة وجمع البيانات، وهو أمر بالغ الأهمية للتخطيط والعمليات العسكرية. ويوضح قائلا: “الاستخدام المكثف لسفن الصيد والسفن التجارية في كافة أنحاء العالم، واشتراط أن تساهم جميعًا في عمليات الاستخبارات، بالنيابة عن الدولة، يعني أن كافة المعلومات تُنقل إلى الحكومة بدءًا من مراقبة جداول قوات خفر السواحل التابعة لحكومات دول أخرى، إلى مراقبة جداول القوات البحرية لتلك الدول، بجانب المعلومات حول من يعملون في ميناء ما، وأي نوع من المعلومات الإضافية التي يمكن جمعها من العمل داخل البحار عبر مصايد الأسماك التجارية أو الشحن البحري”.

شبكة معلومات المحيط الأزرق هي مشروع استخباري شامل وإستراتيجي طرحته الصين لتعزيز إمكاناتها البحرية، خاصة في مجال الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع في أهم المناطق البحرية. وتشمل تلك الشبكة توظيف مجموعة متنوعة من التقنيات المتطورة، ومنها رادارات على منصات شبه غاطسة غير مأهولة حول بحر جنوب الصين. تُزود تلك المنصات بأجهزة استشعار وأنظمة اتصالات متعددة، قادرة على تنفيذ عمليات المراقبة الإلكترونية؛ مما يجعلها قادرة على خدمة الأهداف المدنية والعسكرية على السواء.

لا تقتصر هذه الإستراتيجيات على الصين فقط، إذ يشير رالبي إلى أن دولا أخرى تستخدم نفس التكتيكات، ومنها روسيا التي استفادت من السفن التجارية لأغراض عسكرية في مناطق تشهد حروبا مثل سوريا وأوكرانيا، ويختتم مؤكدا: “التوظيف العسكري للسفن التجارية في أوقات الحروب والنزاعات موجود وواقع منذ زمن بعيد”.

شاركها.
Exit mobile version