Login النشرة البريدية

للمرّة الأولى منذ 30 عامًا، يخسر حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا، الذي أسّسه الزعيم الراحل نيلسون مانديلا، أغلبيته المطلقة في البرلمان، رغم حصوله على المركز الأول بنسبة 40% من الأصوات، وبعدد مقاعد يقدر بـ 159 مقعدًا من إجمالي 400 مقعد. ما يعني ضرورة تشكيل حكومة ائتلافية تحظى بالأغلبية المطلقة في البرلمان (200+1).

هذا التراجع في نسبة أصوات الحزب من 57% في انتخابات 2019 إلى 40% في هذه الانتخابات، ومن 230 مقعدًا إلى 159 فقط هذه المرّة، يطرح تساؤلَين اثنين، الأول يتعلق بأسباب هذا التراجع، ومدى تأثيره على موقف جنوب أفريقيا من حرب إسرائيل على غزّة.

تراجع متوقع للحزب الحاكم

يمكن القول إنّ هذا التراجع في نسبة التصويت للحزب الحاكم كان متوقعًا لأسباب عدة، يمكن إيجازها فيما يلي:

  • أولًا: الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، فوَفقًا للبنك الدولي، فإنّ 55% من سكان جنوب أفريقيا فقراء، فضلًا عن ارتفاع حجم البطالة إلى 33%، أي قرابة ثلث القوى العاملة.
  • ثانيًا: ارتفاع معدلات العنف في البلاد بصورة غير مسبوقة، لتحتلّ مكانة متقدمة على مستوى العالم في هذا الشأن.
  • ثالثًا: انتشار الفساد وتورّط بعض كبار شخصيات الحزب فيه، بمن في ذلك الرئيس سيريل رامافوزا ذاته، حيث لاحقته قبل عامين فضيحة عرفت باسم “فالا فالا” (Phala Phala). وهي منطقة محميات طبيعية يملك فيها الرئيس مزرعة كبيرة، حيث اتهم الرئيس بإخفاء ثروة في مزرعته التي تعرضت للسرقة تتراوح بين 4-5 ملايين دولار دون إبلاغ الضرائب أو الشرطة عنها، بالمخالفة للقانون، في حين أشار رامافوزا إلى أن المبلغ يقدر بـ 580 ألف دولار جراء بيع جواميس لتاجر سوداني!
  • رابعًا: ضعف الخدمات العامة متمثلة في الانقطاع المتكرر للمياه والكهرباء، ما جعل المناطق الحضرية أكثر تمردًا على الحزب خاصة في مقاطعتي جوتنج (التي تضم العاصمة بريتوريا وجوهانسبرغ) وكوازولو ناتال (التي تضم ديربان).
  • خامسًا: الفشل في تحقيق حلم حركات التحرر في تحقيق الرخاء الاقتصادي، كما حدث في زيمبابوي وناميبيا، ما يعني أن الحلم الذي وعد به حزب المؤتمر الوطني في نهاية نظام الفصل العنصري لا يزال بعيد المنال.
  • سادسًا: شهد الحزب انشقاقات كثيرة في الفترة الماضية، بدأت عام 2013م. تم فصل مجموعة من رابطة شباب الحزب لخلاف حول مصادرة الأراضي والمناجم وتأميمها. هؤلاء أسسوا حزب “المقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية” (EFF) بقيادة جوليوس ماليما. الحزب يتبنى الفكر اليساري ويركز على استرداد الأراضي وتأميمها وإعادتها للسكان الأصليين، دون الإضرار باقتصاد الدولة، ورفض المساعدات الخارجية. حصل الحزب على 9.5% في الانتخابات الأخيرة. لكن الانشقاق الأكبر كان نهاية العام الماضي، مع تعليق عضوية الرئيس السابق جاكوب زوما؛ بسبب اتهامه بالفساد. زوما دعم حزب “رمح الأمة” (MK)، الذي تبنى خطابًا شعبويًا وبرنامجًا يتضمن إعادة توزيع الأراضي ومنع الشركات الأجنبية من استغلال موارد البلاد، وتحسين مستوى المعيشة. وعد الحزب بتوفير 5 ملايين فرصة عمل خلال 5 سنوات، وحصد 14.5% من الأصوات في الانتخابات الأخيرة، خاصة من إثنية الزولو في مقاطعة كوازولو ناتال، مسقط رأس زوما.

هذه الأسباب السابقة دفعت حزب المؤتمر الوطني الذي يصنّف نفسه على أنه من أحزاب يسار الوسط إلى تبني برنامج انتخابي يركز على قضايا تحسين الأوضاع الاقتصادية، ومكافحة البطالة (توفير 2.5 مليون وظيفة جديدة)، وتحسين الخدمات الأساسية ومستويات المعيشة، ومحاربة الفساد. ومع ذلك لم يحصل على الأغلبية المطلقة.

البحث عن حكومة ائتلافيّة

تتمتّع جنوب أفريقيا بنظام مميز لانتخاب رئيسها. فالرئيس هو رئيس الدولة، ورئيس الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة، وهو ينتخب بخلاف الأنظمة الرئاسية حول العالم، من قبل البرلمان وليس الشعب. وبالتالي فهو مسؤول أمام البرلمان نظريًا، رغم أنه في الوقت ذاته هو رئيس حزب الأغلبية، وله صلاحيات كبيرة، كما يلعب دورًا هامًا في عملية التشريع من خلال حزبه. وتقوم الجمعية الوطنية بانتخاب الرئيس من بين أعضائها. وبمجرد انتخابه، تسقط عنه عضوية البرلمان، ويقوم بعد ذلك بأداء اليمين كرئيس في غضون خمسة أيام من الانتخابات.

لذا فإن حزب المؤتمر بحث بعد الانتخابات على ائتلاف يضمن له الأغلبية المطلقة، مع أقل تنازلات يمكن تقديمها للشركاء الجدد. وفي هذا الصدد كانت لديه عدة احتمالات:

  • أولًا: إمكانية التحالف مع حزب (المقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية EFF)، وبعض الأحزاب الصغيرة الأخرى، أو المستقلين. لكن هذا التحالف يصطدم مع التوجهات الشيوعية لهذا الحزب، والتي تتعارض مع توجهات الدولة، خاصة فيما يتعلق بالاستثمارات الأجنبية، ورفض تحويل الملكية الخاصة إلى الملكية العامة.
  • ثانيًا: إمكانية التحالف مع حزب المعارضة الرئيسي “التحالف الديمقراطي DA” بقيادة جون ستين هاوزن، صاحب المركز الثاني في الانتخابات الأخيرة (21%)، وينتمي ليمين الوسط. وهذا الحزب يصنف على أنه حزب الأوروبيين أو البيض، وبالتالي قد يصطدم بالموقف التاريخي لحزب المؤتمر الرافض لهيمنة البيض على مقاليد البلاد.
  • ثالثًا: إمكانية التحالف مع حزب (MK) المدعوم من الرئيس السابق زوما، لكن هذا التحالف قد يكون صعبًا في ظل التباينات الكبيرة بين الجانبين، فضلًا عن رفض زوما هذا التحالف بعدما تم إقصاؤه من الحزب، ورفض القضاء “المسيس من وجهة نظره” مشاركته في الانتخابات الأخيرة؛ بدعوى صدور حكم ضده، ما يعني استبعاده من الترشح لرئاسة البلاد.

لكن الحزب استقر في نهاية المطاف على التحالف لأول مرة منذ عام 1994 مع حزب التحالف الديمقراطي لضمان الأغلبية المريحة في البرلمان. وهو ما حدث بإعلان فوز الرئيس بولاية رئاسية جديدة.

الجهود غير المسبوقة لجنوب أفريقيا من المتوقع استمرارها في ضوء فوز رامافوزا بالانتخابات، ولكن قد يكون هناك تراجع في قوة الموقف، بسبب ائتلافه مع التحالف الديمقراطي “الأبيض”

الانتخابات وقضية فلسطين

لجنوب أفريقيا موقف مشرف من قضية فلسطين، ومن العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة. فمع بدء هذا العدوان في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، طالبت المحكمة الجنائية الدولية بضرورة التدخل للتحقيق مع قادة تل أبيب بتهمة ارتكابهم جرائم حرب وإبادة جماعية في قطاع غزة.

هذا الطلب كان وراء إصدار المحكمة قرارها التاريخي الشهر الماضي بطلب توقيف كبار قادة إسرائيل، وفي مقدمتهم نتنياهو بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة. كما تقدمت جنوب أفريقيا نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي بدعوى أخرى أمام محكمة العدل الدولية، تطالب بإصدار أمر عاجل يعلن انتهاك إسرائيل التزاماتها في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، وإصدار أوامر مؤقتة ملزمة قانونًا لها بتعليق عملياتها العسكرية على الفور في غزة.

ونتيجة لذلك أصدرت المحكمة، حكمًا أوليًا في القضية أواخر يناير/كانون الثاني الماضي، يطالب إسرائيل باتخاذ جميع التدابير في حدود سلطتها لمنع الأعمال التي يمكن أن تندرج تحت اتفاقية الإبادة الجماعية، كما أمرت تل أبيب بمنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، باستثناء توجيه الأمر بوقف الحرب على غزة، وفي الشهر الماضي أصدرت المحكمة حكمًا تاريخيًا آخر يطالب إسرائيل بالوقف الفوري لهجومها على رفح، وفتح معبر رفح لدخول المساعدات الإنسانية للقطاع، والسماح بوصول لجنة تقصي حقائق للداخل للتحقيق بشأن تهمة الإبادة الجماعية.

ولم تكتفِ جنوب أفريقيا بذلك، بل قامت باستدعاء دبلوماسييها من تل أبيب للتشاور، وحمّل الرئيس رامافوزا إسرائيل مسؤولية التصعيد لعدم تنفيذها القرارات الدوليّة الخاصة بحلّ الدولتين، فضلًا عن ارتدائه الكوفية الفلسطينية تضامنًا مع شعب غزة، وإبداء استعداد بلاده للوساطة بين حماس وإسرائيل للتوصل لهدنة إنسانية تسمح بوقف الحرب، ودخول المساعدات.

هذه الجهود غير المسبوقة لجنوب أفريقيا من المتوقع استمرارها خلال الفترة القادمة في ضوء فوز رامافوزا بالانتخابات، وربما قد يكون هناك تراجع في حدة تبني هذا الموقف؛ بسبب ائتلافه مع التحالف الديمقراطي “الأبيض” الذي يتبنى موقفًا أكثر حيادية أو حتى ربما يكون مؤيدًا لإسرائيل.

وهو ما قد يؤدي بالتالي إلى تقليل الضغط عليها في الساحة الدولية، وإن كان هذا الأمر مستبعدًا من وجهة نظرنا إلى حد كبير بعد النجاح الكبير الذي حققته جنوب أفريقيا على الصعيد العالمي، ما دفع العديد من الدول، مثل: مصر، وتركيا، وكولومبيا، وليبيا للإعلان عن الانضمام إلى دعواها أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل. ومن ثم قد يبحث رامافوزا عن بدائل أخرى للتحالف مع أحزاب أخرى بخلاف حزب البيض “أعداء الأمس”.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version