Login النشرة البريدية

بين مُتهم لـ “حماس”، وفصائل المقاومة بالتطرف والإرهاب، ومناصر لإسرائيل بوصفها تمثيلًا للحضارة الغربية في الشرق الأوسط، وبين من يعتبر فلسطين أرض الميعاد وأصل الشعب اليهودي، وأنها كانت “أرضًا بلا شعب، لشعب بلا أرض”، وبين من يعتبر طوفان الأقصى اعتداءً من حماس على إسرائيل لم ينتج سوى الخراب والدمار والموت، وأن الحل، كما تراه السلطة الفلسطينية، هو السلام، حتى وإن كان يعني في القاموس الصهيوني الاستسلام والخضوع، والقبول بالإبادة الجماعية لشعب أعزل، بين كل هذا وذلك، تغيب تفاصيل كثيرة، ومعطيات تاريخية وأخرى أنثروبولوجية، تكشف الوجه الحقيقي للاستيطان الإحلالي الصهيوني لأرض فلسطين.

وتُخفي أن الأصل في المقاومة هو السلمية، وأن الحياة بدون حرية تعني نهاية الإنسان، وهو ما تبتغيه الإمبريالية وليدة الرأسمالية الاحتكارية، التي تشكل إسرائيل رمزها الأداتي في الشرق الأوسط.

المقاومة من السلمية إلى حمل السلاح

تقودنا حفريات خطاب المقاومة في العالم إلى استخلاص مدارات السلطة والمُلك، والنزاع حول الحق في الوجود، ذلك أن خطاب المقاومة يتضمن وجوبًا خطاب الِملكية وخطاب الحق، وهي خطابات تدور حول مدارات السلطة والمِلكية، وبما أن الِملكية أصل التفاوت بين البشر، فإن هذا الأصل سرعان ما وجد طريقه عبر العنف للاستيلاء على حق الآخر.

فمنذ اكتشاف الِملكية صارت الأرض موضوع النزاع الذي تحول بالانتقال من المرحلة الزراعية إلى المرحلة الصناعية، ومن الإقطاع إلى الرأسمالية، ومن الشرعية لمن يمتلك الحق إلى الشرعية لمن يمتلك القوة، وهو ما صاحب نشوء وتطور الرأسمالية.

وبما أن البشر قد طوروا مجموعة من القوانين والأعراف في تدبير المِلكية منذ بداية التاريخ إلى اليوم، فإن الاحتكام حول كل نزاع ناتج عن الاعتداء على الحق في المِلكية، كان يتمّ عبر الطرق السلمية بداية، وهو ما استمرّ مع ملكية الإنسان من بُعدها الفردي إلى الجماعي.

فمن الاعتداء على الأرض والملكية في بعده الفردي، إلى الاعتداء الجماعي، ومنهما إلى الاعتداء الدولتي الإمبريالي على الشعوب، ظلّ الفعل السلمي منطلق الترافع والدفاع عن الحق، وهو ما ميز في البداية فعل المقاومة بمختلف أشكالها ومناطقها في العالم.

فالمقاومة في فيتنام وفي أيرلندا وجنوب أفريقيا وأفريقيا الشمالية، وفي أميركا اللاتينية، وفي الهند، والصين، وفي سوريا، والعراق، وما إلى ذلك من مناطق التوتر في العالم والناشئة عن الفترة الاستعمارية الإمبريالية في صيغتها الكلاسيكية والجديدة، ابتدأت بطرق سلمية قبل أن تتحول إلى عصيان مدني، وانتهاء بالمقاومة المسلحة، بالشكل الذي يترجم ميول الإنسان فطريًا نحو السلم والسلمية، فازدهار مشاعر العنف والكراهية والتوحش والبربرية بالرغم من ارتباطها بالبعد الغرائزي الحيواني في الإنسان، فإنها مرتبطة في قوتها البربرية بالصراع حول الِملك والِملكية.

ولذلك، ما ترتب عن الرأسمالية في تاريخها من دموية لا تضاهيه الحروب الدينية في القرون الوسطى، وهنا يجب أن نستحضر الحروب ومختلف أشكال العنف الناتجة عن الإمبريالية في العالم، بشكل يجعل خلْق مناطق التوتر في العالم، وهي إستراتيجية أميركية بامتياز اليوم، واحدًا من أهم آليات الهيمنة الرأسمالية الاستغلالية في صيغتها الليبرالية المتوحشة.

فإذا كانت حروب اليوم حروبًا من أجل السيطرة على الموارد الطبيعية، ومقدرات الشعوب والأمم، وهي حروب رأسمالية في جوهرها، إمبريالية في إستراتيجيتها، فإن فعل المقاومة ضد الاحتلال بالرغم من أصله السلمي، ينتهي بالنزاعات المسلحة كلما فشلت مساعي السلمية، لا لاختلاف في الرؤى السياسية والفكرية، بل أساسًا لأنّ أصل الاستعمار والرأسمالية الاحتكارية، هو نزع الحقوق بالعنف والسلاح.

ولذلك، ففعل المقاومة حق إنساني كَونيّ لرفع الظلم والاستغلال، بوصفه حقًا في الوجود والحياة. وبما أن الغصب أساس النزعة الإمبريالية التي تولدت عنها مختلف أشكال المقاومة التي تطال الأرض بانتزاعها واستيطانها، والإنسان بانتزاع حريته واستعباده، والثقافة بتفكيكها واستيلابها، حتى لا يقوى الإنسان على المقاومة والدفاع عن أرضه وعرضه وحريته، فإن المقاومة من هنا تصبح الحل الوحيد والأوحد لرفع الظلم والاستغلال.

تأسيسًا على ما سبق، تصبح المقاومة في فلسطين حقًا وجوديًا وإنسانيًا، للدفاع عن أرض مغتصبة، وعن إنسان مستعبد وثقافة يراد تفكيكها بتفكيك أنساقها المؤسسة من دين ولغة وتقاليد وعادات.

ولهذا فالأصل في المقاومة هنا ليس حربًا إسلامية – يهودية، ولا إسلامية ضد المعتقد اليهودي- المسيحي وفق رؤية المحافظين الجدد بأميركا ضد الإسلام والحضارة العربية الإسلامية، بل هي في العمق مقاومة ضد الاحتلال الاستيطاني الإحلالي الإسرائيلي، وضد الإمبريالية والرأسمالية الاحتكارية.

وسواء تعلق الأمر بحماس أو باقي فصائل المقاومة، فإن جوهر الصراع ليس قتل اليهود والتنكيل بهم كما تفعل إسرائيل منذ 1948، بل مقاومة إسرائيل الاستيطانية والإحلالية.

وإذا كانت الواجهة المقاومة/ الحرب هي واجهة مسلحة، فإن الخلفية المرجعية فكرية رأسمالية تجد مبرراتها التاريخية في النزعة الصهيونية التي اتخذت من الدين اليهودي في صيغته التوراتية والتلمودية مبررها الأسطوري لاحتلال أرض فلسطين.

وعلى هذا الأساس التاريخي- الفكري يجب أن تنشأ السردية العربية الإسلامية الكونية لفلسطين ضد الاحتلال، بوصفها سردية مناهضة للإمبريالية والرأسمالية الاحتكارية، وطبعًا لا يمكن نجاح هذه السردية إلا باستحضار دور أثرياء اليهود من مصرفيي الدول والحكومات في تطور الرأسمالية والإمبريالية، مثلما تنبّه إلى ذلك كارل ماركس، وهو ما أشار إليه “زيجموند باومان” و”حنا أرنت” في بعض كتابتهما، خاصة “الحداثة والهولوكوست”، و”في معاداة السامية واستحالة الاندماج”.

هؤلاء الأثرياء اليهود كان لهم دور كبير على حساب الفقراء والبسطاء من يهود أوروبا الشرقية في المحرقة، وفي معاداة اليهود التي ابتدأت في الغرب، خاصة فرنسا وألمانيا منذ نهاية القرن الثامن عشر، وبداية القرنين؛ التاسع عشر، والعشرين، في وقت كان فيه اليهود ينعمون بالاستقرار والحياة الكريمة في البلدان العربية والإسلامية: في فلسطين، والمغرب، والجزائر، وتونس، ومصر، والعراق، وسوريا… إلخ، وبل وحتى في إيران.

الاحتلال الاستيطاني الإحلالي الإسرائيلي

قبل الانتداب البريطاني كان الشعب الفلسطيني، بمسلميه ومسيحييه ويهوده، ينعم بالاستقرار في أرض فلسطين، بالرغم من هيمنة العثمانيين منذ 1516 عليها، حيث كانت تحظى بحكم محلي، بيد أن المشكل بدأ بسماح السلطات العثمانية للأجانب بحق تمليك الأراضي حوالي 1869، وبسبب سيطرة بعض العائلات على فلسطين نشأت حركات مقاومة الحكم العثماني.

تصادف ذلك مع احتلال البريطانيين لفلسطين خلال الحرب العالمية الأولى، لتخضع فلسطين تحت حكم الاحتلال والانتداب البريطاني، وحينها لم يكن عدد اليهود خلال الحرب العالمية الثانية يتجاوز أربعمئة ألف، أي ما يعادل ثلاثة في المئة من يهود العالم، وقد كانوا أقل من ستين ألفًا أثناء وعد بلفور، الذي سيشجع هجرة مسترسلة وبارتفاع ملحوظ سنة بعد أخرى، بتوصية من التاج البريطاني لتأسيس دولة لليهود على أرض فلسطين، الدولة التي كانت لها مؤسسات إدارية وسياسية وتطبع عملتها الخاصة وجوازات سفر مواطنيها ووثائقهم الثبوتية، حتى وهم تحت الانتداب.

وشملت هجرة اليهود مختلف بلدان أوروبا والاتحاد السوفياتي لاستيطان أرض فلسطين، بداية عبر اقتناء بعض الأراضي التي تحولت إلى مستوطنات جرى تدريب اليهود فيها على حمل السلاح، وهو ما انتبه إليه الفلسطينيون منذ عشرينيات القرن الماضي، خاصة بعد تأسيس اليهود الصهاينة منظمة مسلحة “هاغاناه” سنة 1921، مما جعلهم أكثر تمسكًا بأراضيهم وممتلكاتهم التي كانت هدفًا لليهود، وهو ما نشأ عنه اشتباكات واحتكاكات دموية تحت رعاية بريطانية واضحة لليهود.

من هنا سوف تنشأ بذور مقاومة فلسطينية للانتداب البريطاني من جهة، والاستيطان الصهيوني اليهودي من جهة ثانية، وقد كانت هذه المقاومة في معظمها، في البداية كما هو الحال في باقي المقاومات في العالم سلمية، عبارة عن احتجاجات ومسيرات وإضرابات، وعلى رأسها الإضراب العام لسنة 1936، والذي أعقبه الدخول في عصيان مدني.

كما اكتست المقاومة الفلسطينية في بدايتها صيغة عربية بالنظر إلى عربية فلسطين، وإسلامية بالنظر إلى معتقد المنطقة، لكنها لم تكن مقاومة دينية أو حربًا اعتقادية ضد اليهود، كما تصور ذلك السردية الإسرائيلية الصهيونية والغربية، بقدر ما كانت مقاومة ضد الاحتلال الصهيوني، والدليل أن اليهود الأوائل المستقرين كقلة مع المسلمين والمسيحيين في أرض فلسطين كانوا ينعمون بالاستقرار والتعايش مع المسلمين والعرب في فلسطين العثمانية وما قبلها.

لقد كان لبروز الصهيونية وتحويل أرض فلسطين إلى أرض لليهود وفق رؤية دينية أرثوذكسية مقدسة نتيجة لصياغة صهيونية قلبت الأمور، خاصة أن اليهود في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قبل الانتداب البريطاني، وحتى قبل الحكم العثماني عاشوا مع العرب والمسلمين في انسجام وسلام، ولم يعرفوا ما عاشه يهود أوروبا من معاداة ومضايقات ومن عنف، بل ولم تعرف أية منطقة عربية وإسلامية محرقة لليهود أو إبادة كما عرفها اليهود في ألمانيا، بما يعني أن الصراع نشأ حقيقة بعد معاناة اليهود في فرنسا، وتحديدًا عقب محاكمة النقيب درفوس، الضابط اليهودي في صفوف الجيش الفرنسي بعد اتهامه بالخيانة العظمى، وهو ما أثر في هيرتزل سنة 1896، الذي ألف كتاب “دولة اليهود”، حيث بدأت الحركة الصهيونية في الدعاية لاستيطان أرض فلسطين، وطرد شعبها لتأسيس دولة إسرائيل، كحل وحيد ضد معاداة اليهود والتنكيل بهم في أوروبا.

ضمن هذا السياق الاستيطاني والاستعماري نشأت مجموعة عز الدين القسام، وفرحان السعدي كأول لبنة للمقاومة الفلسطينية سنة 1936، وبما أن اختلال الموازين بين هذه المجموعة وقوة الانتداب البريطاني والمستوطنات اليهودية كان قائمًا، بعدما أسس اليهود الصهاينة منظمة “هاغاناه” المسلحة سنة 1921، فقد منيت المقاومة بهزيمة كبيرة، خاصة بعد 1945، حيث اشتد التنسيق اليهودي البريطاني توسيعًا للمستوطنات، إذ ستعرف فلسطين النكبة الكبرى بعد حرب 1948، والتي احتلت فيها إسرائيل كامل الضفة الغربية، مؤسسة بذلك دولتها التي سوف تحظى باعتراف الأمم المتحدة ضدًا على الشرعية الفلسطينية؛ بدعوى تقسيم الأرض بين إسرائيل وفلسطين وفق حل الدولتين.

لكن هذا الحل لم يرَ النور منذ ذلك الحين، وبقيت إسرائيل تتمدد وتستوطن الأراضي تلو الأراضي، وتهود المدن والقرى، وهو ما دفع الفلسطينيين سنة 1964 لتنظيم أنفسهم في منظمة التحرير الفلسطينية التي جاءت كرد فعل على سياسة إسرائيل الاحتلالية والإحلالية وعنفها البربري ضد الفلسطينيين العزل.

ثم جاءت حرب 1967 والتي ستتمكن من خلالها إسرائيل من احتلال قطاع غزة، حيث لم يجد الفلسطينيون سوى العودة إلى حمل السلاح ضد العدو الصهيوني، إذ تأسست منظمة “أيلول الأسود “، التي قامت بعدد من العمليات الفدائية، ومن بينها قتل أحد عشر لاعبًا إسرائيليًا بعد أن كان الهدف في البداية هو فقط اختطافهم لإثارة انتباه الرأي العام الدولي للقضية الفلسطينية سنة 1972، وهو ما أسهم في عودة النقاش العالمي حول القضية الفلسطينية بعد أن أهملتها الدعاية الإسرائيلية المغرضة، وضعف الأنظمة العربية.

بيدَ أن حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، كانت مفصلية في التحول الذي ستعرفه القضية الفلسطينية، حيث شكلت بداية انتقال الصراع، من صراع عربي- إسرائيلي إلى صراع فلسطيني- إسرائيلي، بعدما تخلى العرب عن فلسطين بشكل تدريجي، وهو ما مكّن إسرائيل من اجتياح بيروت في سنة 1982، وطرد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، عقب تنفيذ الجيش الإسرائيلي مجزرة في صفوف الفلسطينيين في مخيمات صبرا وشاتيلا بلبنان بمساعدة حزب الكتائب اللبناني، ولم تمضِ حينها سوى سنوات قليلة على اتفاقية كامب ديفيد، بما يفيد تاريخيًا أن إسرائيل لم تفِ يومًا بالوعود والعهود ولا بالقانون الدولي، وهو ما جعل عددًا من الباحثين في القانون الدولي والسياسيين من أميركا اللاتينية يدعونها بالدولة المارقة.

بعدما كان للمنظمة ممثلون في جامعة الدول العربية منذ 1964، سوف تجد منظمة التحرير، الممثل الشرعي للمقاومة الفلسطينية نفسها في عزلة شبه تامة، خاصة بعد نهاية حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، واقتصار الرئيس المصري أنور السادات على استرجاع سيناء لتوقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل في كامب ديفيد سنة 1979، برعاية أميركية، حيث تم الاتفاق من جديد على تطبيق حل الدولتين إلى حدود 1967، وضمان حق العودة للفلسطينيين، الذين طردوا من أراضيهم وسلبوا ممتلكاتهم، وهو ما لم تطبقه إسرائيل، التي استمرت مع ذلك في المماطلة والتسويف، واستئناف الاستيطان والتنكيل بالشعب الفلسطيني.

وبما أن الحل الدبلوماسي الناتج عن اتفاقية كامب ديفيد جعل البلدان العربية تضغط على منظمة التحرير وعلى الفلسطينيين، بوصفه الحل الوحيد في ظل اختلال موازين القوى بين إسرائيل عسكريًا وسياسيًا والمدعومة من الغرب من جهة، والفلسطينيين من جهة أخرى، فقد وجد الفلسطينيون أنفسهم مجبرين على المقاومة السلمية، خاصة مع استمرار سياسة إسرائيل الاستيطانية والإحلالية، حيث بدأت الانتفاضة الأولى، والتي سميت بانتفاضة أطفال الحجارة سنة 1987 لتنتهي عمليًا بتوقيع اتفاقية أسلو سنة 1993 برعاية أممية وأميركية، حيث اعترفت رسميًا منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات بحق دولة إسرائيل في الوجود.

بالمقابل اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير كممثل شرعي للفلسطينيين، والتي سميت بعدها بالسلطة الفلسطينية، وتم الاتفاق على الحدود وحق السلطة بخلق مؤسساتها السياسية والإدارية، وطبعًا تنفيذ ما ترتب عن كامب ديفيد، كحل انتقالي لتأسيس الدولة الفلسطينية، في غضون خمس سنوات كمهلة لانسحاب إسرائيل من الضفة الغربية وقطاع غزة، في سياق ما بات يعرف حينها بالحكم الذاتي.

وبالرغم من تراجع سقف المطالب الفلسطينية من دولة على كامل الأراضي الفلسطينية إلى مجرد حكم ذاتي، فقد ناورت إسرائيل من جديد وتراجعت عن بنود الاتفاق، واقتحمت قوات الاحتلال مقر الرئاسة الفلسطينية، وتمت محاصرة ياسر عرفات سنة 2002 ثلاث سنوات، وما خلفه ذلك الحصار من قتلى وأسرى، ابتدأ فعليًا باستئناف سياسة المستوطنات والاعتداء اليومي على الفلسطينيين، وإحكام الحصار على قطاع غزة الذي بات تحت بطش الجيش الإسرائيلي، مما جعل الفلسطينيين يعودون مكرهين لاستئناف المقاومة من خلال الانتفاضة الثانية ما بين 2000 و2005.

إن التحول الذي حصل في مسار المقاومة وميلها إلى الخيار العسكري كحل نهائي ووحيد لحسم الصراع، لم يكن نتيجة اختيارات، بقدر ما كان حتمية تاريخية بالنظر إلى فشل مسار المقاومة السلمية بمختلف أشكالها، ورد فعل طبيعي على تضخم مستويات العنف والهمجية وحروب الإبادة التي قامت بها، وما تزال، إسرائيل بدعم من اللوبي الصهيوني في الغرب.

ولذلك فبروز فاعل ميداني تجلى في حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في أثناء الانتفاضة الأولى سنة 1987، والتي نكل فيها الجيش الصهيوني بأطفال عزل يحملون الحجارة ضدًا على المدرعات والشاحنات والقنابل الإسرائيلية. والتطلع إلى الواقع الميداني سيكشف أن عنف حماس يتناسب وتضخم حرب الإبادة ضد الفلسطينيين.

وبالرغم من فترات من الهدوء والسلمية، وقبول حماس باللعبة السياسية ودخول غمار الانتخابات، والفوز بها في غزة، بما يجعلها بتعبير أصف بيات حركة ما بعد إسلاموية، تقبل بمستلزمات الحداثة السياسية من ديمقراطية وقبول بالاختلاف والتعددية، وبالحريات السياسية، فإن إسرائيل في رفضها لكل انتقال ديمقراطي وكل مدنية سياسية في فلسطين، جعلت من حماس عدوها التاريخي، بعدما أصبحت السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية مجردة من السلاح وبعيدة عن كل أشكال المقاومة.

ناهيك عن مسلسل الفساد الإداري والمالي الذي انتشر في صفوف هذه السلطة، فاستمر مسلسل الاغتيالات في صفوف القادة من مختلف الكتائب التابعة لحماس، ولرموزها السياسيين داخل فلسطين وخارجها، على إيقاع صراع الإخوة الأعداء وفق إستراتيجية التقسيم الغربية بين الأهالي، حيث سينشأ صراع فلسطيني داخلي بين منظمة التحرير وعموم السلطة الفلسطينية من جهة، وحركة المقاومة الإسلامية حماس ومن يدور في فلكها من جهة أخرى، بين ضفة غربية مهادنة اختيارًا، وغزة مقاومة قسرًا.

من صراع عربي- إسرائيلي إلى فلسطيني- إسرائيلي

تقودنا قراءة تاريخ القضية الفلسطينية قراءة تفكيكية إلى استخلاص الدروس والعبر من تحولات الرأسمالية نفسها، حيث يبدو بجلاء جوهر الاحتكارية والإمبريالية الغربية، من خلال إضعاف جيوش المنطقة وإفشال كافة مخططات التنمية، لتبقى الدول العربية مجرد أداة من أدوات الإمبريالية، سواء عبر الحروب: 1956- 1967- 1973، أو عبر التبعية الاقتصادية التي وجدت في إستراتيجيات القروض والمنح والمساعدات إحدى آليات الاحتكارية الرأسمالية، وهو ما جعل الصراع مع إسرائيل يتحول من بعده العربي القومي إلى بعده القُطري الوطني المرتبط أساسًا بفلسطين، بعد أن تراجعت قسرًا فلسطين من أجندة البلدان العربية بالتدريج.

إن سردية المقاومة وتحولاتها المفصلية من الصراع العربي- الإسرائيلي إلى الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وبروز محور المقاومة، بعد تخلي العالم العربي لارتباطاته الاقتصادية والسياسية مع الغرب، وما تفرضه التبعية من دوران في مدار الرأسمالية الاحتكارية الغربية، وما يلعبه مصرفيو العالم من أثرياء اليهود الصهاينة، ليست سوى تحول في شكل المقاومة وإستراتيجياتها، ذلك أن الخلفية المرجعية للمقاومة ليست في كونها صراعًا عربيًا- إسرائيليًا، أو إسلاميًا- يهوديًا، بل في كونها دفاعًا شرعيًا عن الأرض والإنسان والثقافة، وهو ما يجعل المقاومة الفلسطينية لا تخرج البتّة عن مدار المقاومة في التاريخ، ذلك أن الأرض تمثيل رمزي لكل الأرض.

ففلسطين ليست مجردة بقعة يمكن تغييرها وتفويتها واستيطانها بتهجير المالكين الشرعيين لها، كما تقترحه منذ زمان إسرائيل، سواء عبر توطينهم في الأردن أو في سيناء، أو تهجيرهم إلى بلدان أخرى، بل هي رمز للأرض بصيغة الجمع، حيث يصير الكون أرضًا للتعايش والسلم والسلام، والإنسان ليس مجرد إنسان فلسطيني أو عربي مفرد، بقدر ما هو الإنسان بصيغة الجمع، هو الإنسان في العالم، والثقافة ليست ثقافة فلسطينية عربية إسلامية، بل هي ثقافة كل الأديان، وهي ثقافة الكرامة والحرية والإنسانية، وهي القيم التي تجعل من الثقافة الكونية بتعدد روافدها وتنوعها تُغتال بالوكالة على أرض فلسطين باسم العولمة والأمركة، وهو اغتيال للتعددية الثقافية والاختلاف الفكري بحثًا عن المطابقة، والمطابقة في النهاية هي عدم.

من هنا يمكن للمرء أن يفهم بسهولة لماذا هذه الهبة الإنسانية الكونية في مناصرة غزة في صفوف الأحرار من العالم العربي والإسلامي ومن آسيا، ومن أفريقيا، ومن الغرب نفسه، وكلنا يتذكر المسيرات الاحتجاجية التي جابت شوارع أميركا وبريطانيا وفرنسا والنرويج وإسبانيا وأيرلندا ودول أميركا اللاتينية، والوقفات المساندة لغزة في صفوف طلبة أعتى الجامعات الغربية، خاصة في أميركا وبريطانيا، بالرغم من مسلسل التضييق والمحاكمات الصورية للطلبة ولعموم المساندين… إلخ. ناهيك عن المسيرات المليونية في مختلف أرجاء العالم العربي والإسلامي، ولا أدل على ذلك من توحد 900 خبير ومفكر عالمي في توصيف الاحتلال الإسرائيلي وحربه على غزة بالإبادة الجماعية لشعب أعزل.

إن المقاومة واحدة، مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة، هي حق شرعي ووجودي ولد مع الإنسان للدفاع عن أرضه وعرضه وحياته وثقافته.

وإذا كانت أشكال المقاومة تختلف باختلاف السياقات والمرجعيات، فإنها تتوحد في بوتقة واحدة هي مقاومة الاستعمار والاحتلال، ومقاومة قيم الشر أينما كانت، وليس هناك أشرف من مقاومة الرأسمالية الاحتكارية والإمبريالية التي تمثل إسرائيل- الصهيونية، أحد رموزها وعلاماتها الكبرى، بما يفيد أن تحرر العالم -بمن في ذلك البسطاء من اليهود أنفسهم – يمر حتمًا عبر التحرر من الصهيونية والرأسمالية الاحتكارية في صيغها الإمبريالية الجديدة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version