Login النشرة البريدية

بعد أكثر من عام وثلاثة أشهر من حرب الإبادة ومن القصف والتدمير وقطع جميع شرايين الحياة عن القطاع المحاصر بشراسة وقسوة، وبعد مفاوضات ماراثونية ومواقف متناقضة واتهامات متبادلة، أُعلن في الدوحة عن اتفاق وقف إطلاق نار مبني على ثلاث مراحل.

وكما أدّى طوفان الأقصى ومن ثم محرقة غزة إلى تبعات وتغييرات طالت المنطقة والإقليم، بل وحتى العالم، فإن ما بعد تلك الحرب التدميرية سيكون له الكثير من الارتدادات والتبعات والنتائج وعلى المديين القصير والبعيد، فلسطينيًا وعربيًا وإسرائيليًا ودوليًا.

على مستوى الدولة العبرية، فشلت إسرائيل ونتنياهو فشلًا ذريعًا في تحقيق أي هدف من الأهداف المعلنة في بداية الحرب ولا تلك غير المعلنة. فلا حماس تم اقتلاعها من غزة – لا بل زادت تجذرًا في المجتمع الفلسطيني- ولا الأسرى تم تحريرهم بالقوة، كما لم يتم ترحيل سكان غزة لا إلى سيناء ولا لغيرها.

السلوك الإسرائيلي في الحرب مع التصريحات العنصرية البغيضة والتي رافقتها كوصف سكان غزة بالحيوانات البشرية والإعلان رسميًا عن حرمان سكان غزة من الماء والدواء والطعام، وتدمير المستشفيات، وغير ذلك، أمور شكلت سلوكًا مشينًا على الدولة العبرية ومكانتها وسمعتها الدولية.

كان الرهان الإسرائيلي في ذلك على أن التخلص من المقاومة واقتلاعها هو الهدف الأهم، ومن بعد ذلك يمكن إصلاح تلك الأضرار الجسيمة في السمعة والمكانة، من خلال حملات علاقات عامة دولية تستخدم الإعلام ووسائل التواصل، وإلى ما ذلك.

تهاوت مكانة إسرائيل دوليًا وعلى المستويَين: الرسمي والشعبي، فاندلعت مظاهرات طلابية جامعية في الولايات المتحدة وغيرها تندد بالإجرام الصهيوني بحق غزة، وصدرت تصريحات غير مسبوقة من سياسيين ومفكّرين غربيين ودوليين تندد بالدولة العبرية وجرائمها. فنائبة رئيس الوزراء الإسباني، صرحت بأن حدود فلسطين هي من البحر إلى النهر.

وفي أكثر من مناسبة عالمية وقف مشاهير وفنانون أمام وسائل إعلام دولية ليعلنوا تضامنهم مع أهل غزة وتنديدهم بالجرائم الإسرائيلية، كما فعلت المخرجة اليهودية سارة فريدلاند في مِهرجان البندقية على المسرح، وهي تتسلم جائزتها في سبتمبر/ أيلول الماضي.

وأعلنت المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرتي توقيف بحق نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، بتهم جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وطالبت محكمة العدل الدولية إسرائيل باتخاذ تدابير إضافية لمنع الإبادة الجماعية في غزة، ووقف الهجوم العسكري على رفح.

وافق نتنياهو على ما كان يرفضه من شهور طويلة، ليتساءل الإسرائيليون لماذا إذن أطال الحرب والخسائر الإسرائيلية؟ الأمر الذي يعرض مستقبله السياسي لنهاية بائسة.

الملاحظ أن الرجل ابتعد عن الإعلام بشكل ملحوظ بعيد الإعلان عن الموافقة الإسرائيلية على صفقة التبادل والتي لا يستبعد مراقبون أن يتم التحايل عليها عند الانتقال من المرحلة الأولى إلى الثانية وربما قبل ذلك.

الأسرى الإسرائيليون الذين ستطلق المقاومة سراحهم قد يشكلون معضلة لنتنياهو وحكومته. فبعد أن قضوا كل هذه الفترة في الأسر في ظروف بالغة الصعوبة جراء الحصار والتوحش العسكري الإسرائيلي قصفًا وتدميرًا على غزة والذين كانوا هم بطريقة أو أخرى من ضحاياه، مع افتراض أن تلك الوحشية في سبيل محاولة إنقاذهم، ليس من السهل التنبؤ بمعرفة كيف يفكرون الآن وما هي مشاعرهم وأولوياتهم.

الأسرى الإسرائيليون سيكونون محط اهتمام المجتمع الإسرائيلي والإعلام المحلي والدولي، وقد يشكلون مفاجآت من العيار الثقيل في مواقفهم ورؤاهم ونشاطاتهم وقد يشكل بعضهم حركات أو ينضمون لحركات تشكل صداعًا لنتنياهو وحلفائه المتطرفين.

وإذا كان نتنياهو قد وعد حلفاءه المتطرفين بالتعويض عن فشل غزة بإنجازات استيطانية كما تشير تقارير إخبارية تدعم مصداقيتها الغارات الجوية الإسرائيلية على جنين، فإن تأثيرات الأمر ستكون مباشرة على السلطة الفلسطينية، وعلى الأردن والذي يحذر من أي تهجير فلسطيني إلى أراضيه، كما يسعى إليه المتطرفون الصهاينة ويعلنونه بكل صفاقة.

مواقف السلطة الضعيفة، بل وربما المتواطئة كما يراها البعض من مجزرة غزة، وحصارها مخيم جنين وملاحقتها المقاومين، بالإضافة إلى ثبات المقاومة في غزة والتأييد الشعبي المتعاظم لها، خصوصًا إذا ما نجحت في إطلاق سراح أسرى من شخصيات فتح الثقيلة، ستشكل صداعًا بالغًا للسلطة وأجهزتها الأمنية.

سيشعل وقف إطلاق النار صراعًا داخليًا إسرائيليًا سياسيًا وفكريًا، وقد يذهب إلى مديات أعمق وأخطر، وقد تتكرر مسألة استخدام العنف كما في حالة إسحاق رابين، فالمجتمع الإسرائيلي منقسم بشدة وحدة. وستلاحق الساسة والعسكريين الإسرائيليين وتحاصرهم قضايا مرفوعة ضدهم في المحاكم الغربية والدولية، كما حدث في البرازيل مؤخرًا، وستشكل المناسبات الإسرائيلية بالاحتفال في ذكرى الهولوكوست فرصة كبيرة للمتعاطفين مع غزة لإظهار النفاق الصهيوني والغربي الرسمي في التعامل مع القضايا التاريخية والحاضرة.

سقوط الأسد في سوريا وثبات المقاومة في غزة وبطولاتها الأسطورية والتي أدت إلى صفقة وقف إطلاق نار تجرعها نتنياهو كالسم، يثيران قلقًا رسميًا في بعض الدوائر العربية من نسائم ربيع عربي جديد، خصوصًا مع عجز النظام العربي في مواجهة التوحش الصهيوني على غزة، أو حتى الالتزام بقرارات القمة العربية الإسلامية الطارئة في 11/11/2023 في كسر الحصار المفروض على غزة.

تداعيات ما حدث في غزة والتي انعكست على نتائج الانتخابات الفرنسية والبريطانية والأميركية، ستستمرّ غربيًا ودوليًا. وإذا ما انتظمت الاحتجاجات الشعبية والطلابية المناصرة لغزة والقضية الفلسطينية في الدول الغربية في تيارات وهيئات وتجمعات سياسية وحقوقية فستشكل عاملًا هامًا في المشهد السياسي، وستؤثر سلبًا على التيارات الداعمة للاحتلال، وستحاصرها بصور وحقائق ما حدث في غزة من مجازر وانتهاكات وجرائم إنسانية.

كما أن توقف إطلاق النار سيفتح الباب على مصراعيه أمام الإعلام الغربي لينقل صورًا عن معاناة الغزيين وجراحاتهم ويوثق الجرائم الصهيونية بعدساته ونبضاته وكلماته.

المقاومة الفلسطينية أثبتت أنها متجذرة في المجتمع الفلسطيني بشكل يجعلها عصية على جميع محاولات الاستئصال والإقصاء. ولك أن تشاهد فتية صغارًا في غزة ينطلقون في مظاهرات عفوية بعيد إعلان التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار، وهم يهتفون أنهم رجال محمد ضيف. غير أن المقاومة أمام تحديات كبيرة في مرحلة ما بعد توقف إطلاق النار.

فالقطاع مدمر بشكل شبه كامل والاحتياجات عظيمة والمآسي الإنسانية كبيرة جدًا، وهناك جيل من الأيتام والأرامل والجرحى وأصحاب الإصابات البالغة والإعاقات الجسدية الدائمة، كما أن الكثير من الفخاخ والألغام ستزرع في طريقها لإفشالها ولمحاولة تحقيق مع عجزت القوة العسكرية عنه.

ينبغي على السلطات الصحية في غزة التعاون مع الجهات الإنسانية والحقوقية والهيئات المختصة في غالبية دول العالم، وخصوصًا في الغرب، للمساعدة في نقل الحالات التي تحتاج لرعاية طبية وعلاج ومتابعة صحية، إلى المؤسسات الصحية لتخفيف العبء عن القطاع والذي دمرت إسرائيل منظومته الصحية.

هؤلاء الجرحى والمصابون سيشكلون أدلة حية ومتحركة على الوحشية الإسرائيلية، وبالتالي يكونون رسلًا للقضية الفلسطينية والتي أحيتها ملحمة غزة ومحرقتها ودفعتها للمقدمة في الحضور الدولي بعد أن كاد يلفها الإهمال ويدفنها النسيان.

ستشكل الجرائم الإسرائيلية في غزة والصمود الأسطوري لمقاومتها حاجزًا أخلاقيًا ونفسيًا كبيرًا أمام محاولات التطبيع العربي الإسرائيلي. وستستدعى من الذاكرة وبشكل مستمر في الحضور الشعبي والديني والوعظي العربي والإسلامي لتساهم في تغيير الأنماط والمفاهيم عند أجيال من الناشئة والفتيان، مما يفتح الباب على مصراعيه- خصوصًا إذا ما قصر النظام العربي الرسمي في إغاثة غزة وأهلها المنكوبين بعد الحرب- لتشكيل تيارات فكرية وسياسية تؤمن برفض الواقع وضرورة تغييره.

إن مراقبة ومتابعة الحروب والاعتداءات الإسرائيلية على غزة خلال عقدين من الزمن، تظهر لنا أن صلابة المقاومة وتطور قدراتها يزدادان تصاعديًا بشكل يتوازى مع عنف الاعتداءات الإسرائيلية وازدياد وحشيتها.

الحرب الأخيرة والتي كانت الأطول والأعنف وبفارق كبير، ومع استخدام إسرائيل جميع الوسائل والجرائم والانتهاكات وعجزها عن كسر إرادة المقاومة والحاضنة الشعبية في غزة أمر سيكون له تداعيات كبيرة جدًا، وقد تصدق نبوءة البعض بأن جيل غزة ما بعد الطوفان، هو جيل تحرير فلسطين.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version