Login النشرة البريدية

توصف الانتخابات الرئاسية الحالية بأنها الأهم في تاريخ الولايات المتحدة، والأشد إثارة خلال العقود الأخيرة، نظرًا لتداعياتها وآثارها بسبب الظروف الدولية التي تحيط بها. الفائز في هذه الانتخابات سيلقي بظلال سياساته على دول العالم، خاصة تلك التي تقع في مناطق الصراعات الملتهبة.

تعد تركيا واحدة من هذه الدول التي تنتظر الرئيس المقبل لتحديد بوصلتها في العديد من الملفات ذات الاهتمام المشترك بين الدولتين، والتي تمثل نقاط التقاء أو افتراق بينهما.

ورغم أنه لم يكن من المتوقع صدور موقف رسمي من أنقرة بشأن مرشحها المفضل، فإن موقف المرشحين، دونالد ترامب وكامالا هاريس، من بعض الملفات ذات الأولوية لدى تركيا، سيمثل عاملًا مرجحًا لدى صانع القرار في أنقرة.

الديمقراطيون وانقلابات تركيا

شهدت تركيا منذ عام 1960 عدة انقلابات عسكرية تركت بصمتها القاسية على الأوضاع السياسية والاقتصادية والإنسانية، ولا تزال تعاني من تداعياتها حتى الآن. المفارقة أن الحزب الديمقراطي الأميركي كان حاضرًا في معظم هذه الانقلابات أو تداعياتها.

رئيس الوزراء عدنان مندريس، الذي أطاح به انقلاب عسكري في مايو/ أيار 1960، أعدم في سبتمبر/ أيلول 1961 تزامنًا مع ولاية الرئيس الديمقراطي جون كينيدي. ولم تعمل الإدارة الديمقراطية على الحيلولة دون إعدام رئيس وزراء منتخب واثنين من وزرائه، رغم نفوذها الكبير آنذاك داخل تركيا، وخاصة في الأوساط العسكرية.

أما انقلاب سبتمبر/ أيلول 1980، الذي نفذه قائد الجيش كنعان إيفرين، فحدث في فترة رئاسة الديمقراطي جيمي كارتر.

وتزامنت ولاية الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون مع انقلاب 28 فبراير/شباط 1997 الذي أطاح بالحكومة الائتلافية المنتخبة بزعامة نجم الدين أربكان.

أما فترتا الرئيس باراك أوباما ونائبه جو بايدن، فقد مرت فيهما تركيا باضطرابات أمنية هائلة تراوحت ما بين محاولات انقلابية ناعمة وخشنة، وما بين السعي لتأسيس ممر انفصالي لتنظيم حزب العمال الكردستاني (PKK) على الحدود السورية التركية.

فعلى سبيل المثال، تحولت مظاهرات ميدان تقسيم في مايو/ أيار 2013 إلى محاولة للإطاحة بحكومة رئيس الوزراء آنذاك، رجب طيب أردوغان. ثم جاءت محاولات الانقلاب القضائية – التي تتهم أنقرة تنظيم فتح الله غولن بالوقوف خلفها – في ديسمبر/ كانون الأول 2013، بهدف سجن أردوغان وعدة وزراء ومسؤولين بتهمة الفساد. وصولًا إلى المحاولة الانقلابية ليلة 15 يوليو/تموز 2016، والتي اتهمت أنقرة صراحة إدارة أوباما بالضلوع فيها.

ليس أدلّ على توتر علاقة البلدين في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، من اضطرار نائبه آنذاك جو بايدن للاعتذار لتركيا مرتين: الأولى عام 2014 عندما اتهمها بدعم تنظيم الدولة، والثانية عندما زار أنقرة بعد أكثر من شهرين من محاولة انقلاب 2016 الفاشلة، معتذرًا عن تأخره في دعم تركيا في مواجهة المحاولة الانقلابية.

هذه التجارب خلفت حساسية لدى أنقرة من الإدارات الديمقراطية، جعلتها خيارًا غير مفضل لديها.

الحرب على الإرهاب

يمثل دعم تنظيم حزب العمال الكردستاني (PKK)، سواء من جهات خارجية أو داخلية، إحدى أهم حساسيات الدولة التركية. وقد تابعنا كيف عطلت أنقرة منح السويد وفنلندا الموافقة على الانضمام لحلف الناتو حتى تمتنع الدولتان عن تقديم أي دعم سياسي أو إعلامي أو مادي للتنظيم.

إنشاء قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في أكتوبر/تشرين الأول 2015 بدعم من وزارة الدفاع الأميركية في عهد أوباما، بزعم محاربة تنظيم الدولة، أحدث شرخًا كبيرًا في العلاقات التركية الأميركية. إذ تؤكد أنقرة أن هذه القوات ليست سوى ستار لتنظيم حزب العمال، حتى مع وجود مكونات عرقية أخرى داخله، نظرًا لسيطرة قوات الحماية الكردية عليه.

أيضًا، فإن رد الفعل الأميركي تجاه التخوفات التركية من نشاط حزب العمال في شمال سوريا، تحت ستار تنظيمات أخرى مثل وحدات الحماية الكردية (YPG)، لم يكن على درجة واحدة. ففي ولاية ترامب الأولى، وجدت أنقرة تفهمًا لعملياتها العسكرية ضد التنظيم، فشنت عمليتي “غصن الزيتون” في يناير/كانون الثاني 2018، و”نبع السلام” في أكتوبر/تشرين الأول 2019.

لكن العمليتين لم تقضيا على مخاوف تركيا الأمنية، لذا أعلن أردوغان قبل أكثر من عامين عن الحاجة إلى عملية عسكرية جديدة “لإنشاء منطقة آمنة على عمق 30 كيلومترًا جنوب الحدود التركية، وتطهير منطقتي تل رفعت ومنبج من الإرهابيين”.

الأمر الذي قابلته واشنطن في حينه بالتحذير من تقويض الاستقرار الإقليمي على حد وصف وزير الخارجية أنتوني بلينكن. وحتى الآن لم تتمكن تركيا من شن عملية عسكرية شمال سوريا كما تريد. لذا تأمل أن تمنحها ولاية ترامب الجديدة، حال فوزه، الفرصة مجددًا لشن عملية عسكرية غرب الفرات، وإنشاء منطقة أمنية بعمق 30 إلى 40 كيلومترًا.

الحرب الأوكرانية

يعد إيقاف الحرب الأوكرانية أحد أهم وعود ترامب الانتخابية، حيث أكد أنه سيعمل على الحيلولة دون اندلاع الحرب العالمية الثالثة. هذا الوعد يمثل نقيضًا لإستراتيجية الإدارة الديمقراطية الحالية، التي تضع هزيمة روسيا هدفًا واضحًا تسعى إلى تحقيقه بكل صرامة.

هنا تتماهى رؤية ترامب مع رغبة تركيا التي تعمل عليها منذ اندلاع الصراع، في وقف الحرب وإحلال السلام عبر المفاوضات. أضف إلى ذلك أن السياسة التركية اتخذت منذ البداية موقفًا متوازنًا من الطرفين، حيث احتفظت بعلاقات جيدة مع كل من موسكو وكييف، وعملت على منع تحول البحر الأسود إلى “شرق أوسط” جديد، على حد تعبير مسؤولين أتراك.

لذا فالمخاوف التركية الإستراتيجية المشروعة من ديمومة الحرب واتساع نطاقها بسبب موقعها الجغرافي لن يبددها إلا وقف صارم لها، وهو ما يحمله ترامب معه، ويؤكد عليه خلال حملته الانتخابية.

مواجهة المثليين

تعد مواجهة الأيديولوجية “المثلية” وجماعات الضغط الداعمة لها، إحدى أهم أولويات الدولة التركية، بل عدّها أردوغان وعدًا انتخابيًا خلال حملته الرئاسية العام الماضي.

اشتدت الحاجة إلى هذه المواجهة مع إعلان أردوغان في مايو/ أيار الماضي انخفاض معدل الإنجاب إلى حوالي 1.51٪، واعتبره تهديدًا وجوديًا لمستقبل تركيا.

لكن تركيا الطامحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي تواجه ضغوطًا كبيرة من الأوروبيين، الداعمين الأسخياء لتلك المجموعات، من أجل منح “المثليين” مزيدًا من الحريات داخل البلاد.

في الولايات المتحدة، لم تكتفِ إدارة بايدن بدعم المثليين، بل تصدت لأشكال وأنماط الرفض لهذا التيار، وصلت إلى حد التهديد بفرض عقوبات ضد الدول التي تتبنى سياسات مناهضة للمثليين.

من هنا، تمثل رؤية ترامب الرافضة للمثلية خيارًا مناسبًا لتركيا لتوسيع مواجهتها ومكافحتها لتلك الأيديولوجيا.

الخلاف موجود

وبالرغم مما سبق، ففوز ترامب لا يعني تماهيه مع أنقرة، فقد اتسمت علاقته – خلال ولايته الأولى – بتركيا بالشد والجذب. فقد أبدى تفهمًا لتحركات أنقرة في شرق المتوسط وفي الأزمة الليبية.

لكن حدثت أزمات عنيفة بين الطرفين، مثل: أزمة القس أندرو برونسون الذي احتجزته أنقرة لمدة عامين، وكذلك أزمة شراء أنقرة منظومة الدفاع الصاروخي “إس-400” الروسية، والتي عوقبت على إثرها بإخراجها من البرنامج المشترك لصناعة طائرات “إف-35” المقاتلة.

وهذه الوضعية مرشحة للتكرار حال فوزه، إذ ستتفاهم معه أنقرة في ملفات مهمة، وتفترق عنه في أخرى، خاصة إذا ما استمر العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة ولبنان، وأصر البنتاغون على مواصلة دعمه وحدات الحماية الكردية في شمال سوريا.

لكنه في نهاية المطاف يبقى الخيار الأقل سوءًا بالنسبة إليها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version