تابع العالم بدهشة بالغة التقدم العسكري السريع لقوات المعارضة السورية – هيئة تحرير الشام- نحو العاصمة دمشق ليتفاجأ بتحريرها الخاطف كسرعة الضوء من نظام عائلة الأسد وتاريخه الطويل في الهيمنة والقمع لخمسة عقود خلتْ.
ما أشبه الحالة السورية بالحالة الأفغانية وتقدّم حركة طالبان المدوّي، بيد أن هيئة تحرير الشام كانت في سباق عنيف مع الزمن تحسب فيه كل ثانية حسابها الدقيق حتى لا تعطي وقتًا كافيًا لأي تدخّل إيراني أو روسي يعرقل خطتها المرسومة بدقة منقطعة النظير في إسقاط نظام لا يعرف رحمةً ولا عطفًا، أذاق فيه الشعب السوري – ذا التاريخ التليد والحضارة السامية- ويلات من صنوف العذاب لا تخطر على بال بشر.
مضى نظام بشار الأسد إلى مزبلة التاريخ غير مأسوف عليه لتبقى الإرادة الشعبية السورية الحرة تحدّد مصير بلدها وتمنح أملًا للمضطهدين في الأرض بأن للظالم نهايةً متى أراد الشعب يومًا طريق الحرية والعزة والكرامة.
خسرت روسيا وإيران وربحت تركيا
لم يجد نظام عربي – من الأنظمة العربية التي واجهت عواصف التغيير الشعبي خلال ثورات الربيع العربي – دعمًا إقليميًا ودوليًا مثل سوريا لوأد الإرادة الشعبية الحرة فيها. لقد مثّل التدخل الإيراني وعناصر حزب الله المسلحة والتدخل الروسي العسكري القوي طوق نجاة لنظام الأسد الذي كان قاب قوسين أو أدنى من السقوط المهين، ليطول عمر النظام القبيح بعد اندلاع ثورة الربيع السوري أكثر من عقد من الزمان.
ولكن في المقابل أيضًا أضعف الاعتماد الكلي على روسيا وإيران النظام السوري من الداخل وجعله تابعًا فاقدًا الثقة بنفسه وبقدراته على الصمود، ولذا ما إن اندلعت الحرب الروسية المصيرية في أوكرانيا، وما صاحب ذلك كذلك من ضغوط اقتصادية ضخمة على الاقتصاد الروسي – جراء الحصار الاقتصادي الأميركي المفروض عليه - حتّى ضعف الموقف الروسي في سوريا عسكريًا، ولم يهب لنجدته كما في السابق.
وكذلك ينطبق الحال على إيران، حليف نظام الأسد القوي في المنطقة، حيث تعرضت إيران لهجمات إسرائيلية مؤلمة جعلتها تعيد حساباتها في دعم حلفائها في المنطقة مخافة جرها لصراعات لا قبل لها بها.
جاء الانتصار السوري رصيدًا هائلًا للتيار الإسلامي السني العريض، وسندًا لحكومة الرئيس أردوغان التركية وتعزيزًا لنفوذها في المنطقة. ولربما حاولت حكومة أردوغان من خلال دعمها السياسي والعسكري للمعارضة السورية تأمين حدودها الطويلة مع سوريا من أي مؤامرات مستقبلية سواء من جهات سورية موالية لإسرائيل، ربما تسبق جبهة تحرير الشام في توجيه الضربة القاضية لنظام سوريا المترنح أصلًا.
وستستفيد حكومة الرئيس أردوغان – بلا شك- من انتصارات المعارضة السورية في معالجة مشكلة اللاجئين السوريين في تركيا وما صاحبته من استغلال سيئ من قبل المعارضة التركية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية الأخيرة.
لا شك أن الرئيس أردوغان هو الرابح الأكبر من هذه الانتصارات، مؤكدًا مرةً أخرى حنكةً سياسية بالغة في إدارة ملفات الأزمات بالشرق الأوسط. وربما تضغط الأطراف الدولية على هيئة تحرير الشام والقيادة والحكومة السورية الجديدة بورقة الاعتراف الدولي لتقديم تنازلات وضمانات أمنية لا تهدد مصالح القوى الدولية خاصة روسيا والولايات المتحدة.
بيدَ أنه من المحتمل أن تلعب الدبلوماسية التركية دورًا فعالًا كبيرًا في طمأنة القوى الدولية ومساعدة الحكومة السورية في تقديم خطاب سياسي معتدل لا يثير المخاوف الدولية من عودة تجربة شبيهة بتجربة تنظيم الدولة السابقة.
لا ريب أن إيران وروسيا قد خسرتا حليفًا موثوقًا به في سوريا لطالما حافظ على مصالحهما في المنطقة، وإن كلّفه ذلك تنكيل وتشريد شعبه. ولربما ساعدت تركيا المعارضة السورية في كيفية التعامل مع ملف القواعد العسكرية الروسية في سوريا، حيث يعتبر إغلاق هذه القواعد إغلاقًا نهائيًا لملف التدخل الروسي في الشأن السوري، الأمر الذي يتطلب الكثير من الحيطة والحذر السياسي في الوقت الراهن.
وبسقوط نظام الأسد فقدت إيران أحد أقوى حلفائها في المنطقة العربية، ولعلّ سقوط نظام الأسد أشدّ خسارة وأكثر إيلامًا لإيران من الخسائر العسكرية لحزب الله بسبب العدوان الإسرائيلي عليه.
وكما يعني سقوط نظام الأسد انقطاع حلقة الوصل بين حزب الله ودولة إيران الممتدة لأكثر من أربعة عقود، مما يضعف من قدرات حزب الله العسكرية، كما لم ينسَ الثوار السوريون الجرائم التي ارتكبها حزب الله في سوريا أثناء الحرب الأهلية ومساندته القوية لنظام الأسد.
وستدرك إيران كذلك أن حلفاءها في المنطقة لم يعودوا صمام أمان لأمنها القومي مما سيعجّل بخططها لإنتاج السلاح النووي في أقرب وقت ممكن مما يعني عودة الملف النووي الإيراني بقوة خلال الأشهر القادمة.
هل يسدل ترامب الستار؟
جاء هجوم المعارضة كاسحًا لإدراكها بمتغيرات الواقع الإقليمي والدولي ووجوب استغلالها سريعًا في فترة لا تتجاوز الشهرين هي كل الفترة المتبقية من دخول الرئيس الأميركي البيت الأبيض وما يترتب عليه من وقف نزيف الحرب الأوكرانية- غالبًا لصالح روسيا – مما يجعل بوتين قادرًا على مد العون العسكري لحليفه العربي الوحيد في منطقة الشرق الأوسط.
أدلى الرئيس المنتخب ترامب بتصريح في الوسائط الاجتماعية، موضحًا فيه ملامح سياسته القادمة نحو الصراع في سوريا بأن هذا النزاع لا يخصّ الولايات المتحدة، وبالتالي على أميركا أن تنأى بنفسها عنه.
والجدير بالذكر ما يزال الرئيس المنتخب ترامب يدلي بتصريحات خطيرة سواء في التجارة الدولية وتهديده برفع الضرائب الجمركية ضد المكسيك وكندا والصين وغيرها، أو فيما يخص الحرب في غزة أو سوريا، وكأنه الرئيس الفعلي للولايات المتحدة متجاهلًا كليةً وجود الرئيس بايدن على سدة الحكم، ومخالفًا تقاليد أميركية عريقة تتمثل بألا يتدخل الرئيس المنتخب في الشؤون السياسية والعملية السياسية حتى اعتلائه سدة الحكم في البيت الأبيض في العشرين من يناير/ كانون الثاني القادم.
لم تنجح محاولة ترامب إبان فترة رئاسته الأولى في سحب القوات الأميركية – رغم عدم تجاوزها الألف جندي أميركي- من سوريا منتقدًا تدخل سلفه أوباما في الشأن السوري. ولربما وجدت إدارة ترامب القادمة نفسها تواجه معضلة حقيقية في سوريا التي بلا شك سيؤثر انتصار هيئة تحرير الشام فيها على معادلة توازن القوى الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا.
ولكن هل يسدل ترامب الستار الأميركي في منطقة الشرق الأوسط؟ لا شك أن النفوذ الأميركي في العالم عامة وفي منطقة الشرق الأوسط وسوريا خاصة قد تضاءل كثيرًا. وربما لا يمتلك ترامب رؤية واضحة حول مستقبل النفوذ الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، وغيرها من مناطق الصراع في العالم بما فيها سوريا حاليًا.
وعلى الرغم من اهتمام ترامب البالغ بتقليل نفقات التدخلات الخارجية الأميركية بما فيها أوكرانيا، فسيجد ترامب أن سياسته – حال تنفيذها حرفيًا- ستكون أشبه بعملية إسدال الستار على عصر الهيمنة الأميركية.
ولكن سيحاول ترامب استخدام تصريحات أقرب للهيمنة السياسية منها للدبلوماسية، مثل إعلانه أن إعاقة إطلاق الأسرى الإسرائيليين سيواجه بجحيم رد أميركي، دون توضيح من يقصد تحديدًا بذلك، وماذا يعني بالجحيم مثلًا- هل هي حرب أميركية قادمة أم ضربات جوية قاصمة؟
ولقد سبق أن أدلى ترامب بتصريحات شبيهة بهذه – أثناء فترة رئاسته الأولى نحو كوريا الشمالية- لينتهي به المطاف مصافحًا زعيمها ومتبادلًا معه رسائل غزل سياسي لم يُكْشف عن مضمونها بعد.
يبدو أن موقف ترامب حيال سوريا سيكون شبيهًا بموقف إدارة بايدن الحالية التي يبدو عليها الارتياح الكبير لسقوط نظام الأسد حليف روسيا وإيران القوي. إلا أنّها في الوقت نفسه ستظل متوجّسة من الخلفية الجهادية لهيئة تحرير الشام، وستحاول بقدر المستطاع التواصل معها لتطويع إرادتها السياسية.
ولكن يبدو أن هيئة تحرير الشام أكثر نضجًا سياسيًا من أن تقع في براثن الأطماع الغربية. وعليه سيكون الملف الأمني وإدارة مؤسسات الدولة ودولاب العمل الحكومي لتوفير السلع والخدمات الضرورية للمواطنين السوريين، أهم أولويات الهيئة حاليًا.
كما ستحاول جاهدة تأمين حياة قيادتها السياسية والعسكرية من محاولات اغتيال تحاول المساس بروح التغيير السياسي في سوريا لمصلحة جهات أجنبية لا ترغب في عودة بلاد الشام سالمة معافاة لأمتها الإسلامية.
سيكون انتصار المعارضة السورية فألًا حسنًا للفلسطينيين ونذير شؤم لإسرائيل- حليفة أميركا القوية- باعتباره سيمهّد الطريق لقيام أول نظام إسلامي على حدود إسرائيل قوامه جيش أدهش العالم بسرعته الضوئية في التحرك والحسم العسكري، مما يفسّر ضرب إسرائيل مخازن أسلحة سورية كانت تحت إدارة جيش بشار الأسد خشية وقوعها في يد هيئة تحرير الشام.
ولطالما شعرت إسرائيل بالأمن حينما كان نظام عائلة الأسد في الحكم، ولذلك لم تكن تخشى حينئذ من أسلحته الكيماوية التي لم يستخدمها نظام الأسد إلا لإبادة شعبه الأبي.
ستحاول إسرائيل جاهدة استفزاز جبهة تحرير الشام بغية تطويعها مبكرًا أو مواجهتها باصطناع العديد من المشاكل الأمنية والدولية لها حتى لا تقوم لها قائمة.
لقد حكمت عائلة الأسد سوريا طوال خمسين عامًا، بقبضة حديدية لا تعرف الرحمة والشفقة، بيد أنه لم يستغرق الأمر أكثر من اثني عشر يومًا لينزع الله ملكهم نزع عزيز مقتدر، فهل يتعظ الطغاة وطواغيت الأرض.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.