لم يكن الثامن من ديسمبر/ كانون الأول للعام 2024 يومًا عاديًا في تاريخ الشعب السوري. فانهيار نظام البعث وآل الأسد في سوريا يمثل نقطة الانعطاف المهمة والنصر بعد أربعة عشر عامًا من الثورة التي قادها الشعب السوري؛ لإسقاط النظام الاستبدادي، دفع خلالها السوريون الآلاف من أبنائهم وبناتهم، كما هُجّر أكثر من عشرة ملايين، سواء داخل سوريا أو إلى بقاع أخرى في العالم.
لكن هذه المسألة التي تبدو سورية بحتة، هي في الحقيقة زلزال سياسي على مستوى منطقة الشرق الأوسط، بل ويتجاوز ذلك ليساهم في تطورات جديدة على المستوى العالمي، وتغيير في طبيعة التحالفات التي ستتأثر بموجب هذا الانهيار وطبيعة التحالفات التي ستظهر.
فانتهاء وسقوط حزب البعث في سوريا، أعلن انحسار النفوذ الإيراني في عاصمتين عربيتين هما دمشق، وبيروت، من بين أربع عواصم كانت إيران تسيطر عليها في العقد الماضي، هي: بيروت، ودمشق، وبغداد، وصنعاء. وبانحسار هذا النفوذ في سوريا، ولبنان بالتسارع الذي حصل، يحضر سؤال حول قدرة ذلك النفوذ على الاستمرار في العاصمتين الأخريين في مواجهة ماراثون التغييرات الإقليمية والدولية.
لقد بدأت ملامح ذلك النفوذ تتشكل قبل بدء الربيع العربي، وتحديدًا في العام 2003، حيث سقوط نظام البعث في العراق. تسعى هذه المقالة إلى تحليل جذور المعطيات التي أدت إلى إعلان انحسار النفوذ الإيراني في سوريا ومعها لبنان، وكيف لم تنجح إيران في الحيلولة في منع انحسار ذلك النفوذ رُغم الاستثمار السياسي، والاقتصادي، والأمني في النظام السوري لأكثر من 44 عامًا.
العراق مفتاح السر
لا يمكن فهم العلاقة السورية الإيرانية إلا من خلال فهم التناقض بين نظام البعث في سوريا، ونظام البعث الذي كان قائمًا في العراق، وكذلك تدهور العلاقة بين إيران، والعراق، مع تأسيس الجمهورية الإسلامية.
لقد كان وجود نظام البعث في العراق محركًا كبيرًا نحو دفع العلاقة بين آل الأسد في سوريا وبين الجمهورية الإسلامية، خاصة في وقت كانت فيه إيران تتطلع إلى علاقة مع غرب المشرق العربي المطل على البحر الأبيض المتوسط. علاقة تُضيف إلى خطابها المتعلق بتبنّي الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، وهو الأمر الذي من شأنه أن يُعزز الشرعية الداخلية وصورة النظام السياسي في الخارج.
التقى ذلك مع التنافس بين حزبَي البعث السوري، والعراقي في تبنّي القضية الفلسطينية، حيث كان التصور العام أن الدعم العراقي للحق الفلسطيني أكثر صلابة من السوري آنذاك.
عبر هذه العلاقة استطاعت إيران أن تجد ملاذًا للشيعة المعارضين لنظام البعث في العراق، كما استطاعت أن تُحدث اختراقًا في المشهد السياسي العراقي. يضاف إلى ذلك تمكنها من بناء الجسور القوية مع حركات التحرر والمقاومة الفلسطينية ابتداءً من منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، وانتهاءً بحركة المقاومة الإسلامية حماس.
وفي سياق البعد المذهبي أولًا، ثم خطاب المقاومة ثانيًا، أسست لعلاقة قوية مع حزب الله في لبنان، حيث وفّرت سوريا له جسرًا للإمداد السياسي والعسكري.
بقي العراق حتى العام 2003 في قلب تطور العلاقة السورية الإيرانية، لكن انهيار نظام البعث في العراق أفقد العلاقة أحد أهم روافعها الأصلية، وتحول العراق كله ساحة للنفوذ الإيراني، وربما بكلفة أقل من العلاقة مع سوريا، لكن الوجود الأميركي في العراق كان معيقًا لإيران في ممارسة نفوذها الكامل هناك.
لم تزل أهمية سوريا تمامًا في خريطة النفوذ الإيراني، والدليل على ذلك هو تبنّي الجمهورية الإيرانية سياسة التدخل العسكري المباشر للدفاع عن النظام السوري، حتى وإن تم ذلك ظاهريًا بناءً على دعوة الرئيس المخلوع بشار الأسد عام 2012.
منحت ما تسمى “الحرب على الإرهاب” في غرب العراق، ثم في شرق سوريا، إيران فرصة كبيرة لتجديد وتعزيز نفوذها في البلدين بعد العام 2014، لا سيما أن تلك الحرب كانت تجري في سياق تحالف دولي تقوده واشنطن.
وقد قدّمت إيران نفسها كلاعب إقليمي متضرر من الجماعات الإرهابية، ويستطيع المساعدة، وبهذه الإستراتيجية تعزز نفوذ إيران في سوريا، وفي العراق، كما نجحت في تقديم سردية قوية للداخل الإيراني حول السياسة الخارجية الإيرانية في هذين البلدين، تُبدد أي شك يمكن أن يطرحه معارضو النظام.
رُهاب تغيير الوضع القائم
دفعت إيران بمجهودها السياسي والأمني والعسكري؛ للمحافظة على الوضع القائم الذي أسست فيه لنفوذها في سوريا، وقد بدأت ذلك بتأسيس سردية حول مظاهرات السوريين ضد نظام الأسد تصفها بأنها موجهة لما يُسمى بمحور المقاومة الذي تقوده طهران، متجاهلة ما كان يتعرّض له السوريون من بطش واستبداد.
تبنّي هذه السردية وربطها بالحرب الأممية والتحالف الدولي ضد الإرهاب، أدخلها إلى “جحر الضب”، حيث إن الاستمرار في دعم نظام الأسد كان استنزافًا سياسيًا وأمنيًا، وفي ذات الوقت فإن التراجع عن دعمه سيقود إلى انحسار طالما حاولت طهران تأجيله.
لقد جعل التدخل الإيراني في سوريا الجمهورية الإسلامية هدفًا سهلًا لإسرائيل التي ربما لم تتوقع أن يحصل مثل هذا الأمر. فكلما زادت طهران من وجودها على الأرض السورية، تعددت الأهداف التي يقصفها الإسرائيليون.
وقد تزايدت هذه الهجمات الإسرائيلية بشكل مضاعف بعد العام 2015، حيث الحضور العسكري لحزب الله، وكذلك ما كانت تسميه إيران بالمستشارين العسكريين الذين كانوا يقدمون الدعم للنظام السوري؛ لإبقائه متماسكًا.
لقد دفعت إيران وحلفاؤها: (حزب الله والمليشيات الأفغانية، وغيرهما)، ثمنًا بشريًا لسياستها في سوريا، حيث تتحدث الإحصائيات عن مقتل أكثر من 2300 من قوات الحرس الثوري الإيراني، وحوالي 2000 من لواء “فاطميون” الأفغاني الذي كان يقاتل في سوريا، فيما قُتل حوالي 1000 من مقاتلي حزب الله.
خسرت الجمهورية الإسلامية أخلاقيًا؛ بسبب الدعم اللامتناهي للنظام السوري، وتجاهلها تطلّعات السوريين إلى التحرر من الاستبداد، وتناست أو تجاهلت ما فعل الإيرانيون أنفسهم حين قاوموا استبداد النظام الملكي البهلوي، وجاؤوا بالجمهورية الإسلامية.
هذا التجاهل أبقى السؤال قائمًا: ما الذي غاب عن صُنّاع القرار في طهران حين اختاروا أن يدافعوا عن الاستبداد؟ وهل كان القرار من منطلق مصلحة الثورة، أم منطلق مصلحة الدولة؟
ما أعتقده هو أن المنطلق كان مصلحة صورة الثورة ومنظومتها العقدية اللتين تواجهان شعورًا بالتهديد، وفي مثل هذه الحالات عادة ما تغيب البدائل، وينتج عن ذلك الخسارة.
أما الأنظمة التي تفكّر من منطلق مصلحة الدولة، فعادة ما تملك بديلًا أو بدائل تقلل من خسائرها، وتحميها من خسارة مدوية على مستوى الصورة والنفوذ.
لقد تعززت تلك الخسارة حين فشلت الجمهورية الإسلامية في الإبقاء على التناغم الكافي في دعم القضية الفلسطينية، في حين تراجعت علاقتها مع حركة حماس التي لم تؤيد النظام السوري في سياسته نحو السوريين، لكنها لم تنقطع تمامًا.
كما أن إيران – وفق المتاح من المعلومات – لم تضغط على نظام الأسد لوقف الهجمات على أماكن إقامة اللاجئين الفلسطينيين في مخيم اليرموك وغيره، والتي تبين أنها تعرضت لما يشبه الإبادة الجماعية المسكوت عنها.
لقد ظهر جليًا أن هناك ما يمكن تسميته بـ ” الرُهاب” من تغيير الوضع القائم، لا سيما إذا لم تكن هناك يد لطهران في ظهور وضع أو تطور جديد.
من هنا رحّبت إيران بالتغيير في العراق؛ لأنه أنتج واقعًا يحقق مصالحها، مقارنة بالعراق في ظل البعث. ولكنها أصيبت بحيرة كبيرة إزاء الربيع العربي، قبل أن تنحاز لمصالحها على حساب القيم في التعامل مع دوله، ففي حين كانت منفتحة إيجابيًا على ما يحدث في البحرين، تبنّت موقفًا معاديًا تمامًا للحراك السوري، وذهبت لاعتباره مدعومًا أميركيًا، واتهمت تركيا بأنها في إسلامها إنما تمثل الإسلام الأميركي.
واستمر “الرُهاب” من تغيير الوضع القائم ليمتد إلى طوفان الأقصى. فرغم الدعم السياسي المعلن، لا يبدو أن إيران ترحب بتغيير الوضع القائم في غزة، ولا في إضعاف قوة حزب الله التي نتجت عن عملية طوفان الأقصى.
خاتمة
يبدو أن انحسار النفوذ الإيراني لم يكن إلا نتيجة إستراتيجيات تغيب عنها البدائل، والفهم العميق للمتغيرات المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط، كما أنها بدأت بخسارة أخلاقية في غياب التناغم في فهم “الدفاع عن المظلومين والمستضعفين”، فسطوة المستبدين لا تختلف عن سطوة المحتلين.
في نفس السياق، فإن هذا الانحسار في كل من سوريا، ولبنان، ليس إلا البداية، كما أنه يمثل انهيارًا لأحد أهم مرتكزات نظرية الأمن القومي الإيراني بعد الحرب العراقية الإيرانية، التي كانت تستند إلى الحضور خارج الحدود؛ لمواجهة الأخطار المحتملة وليس انتظارها حتى تقترب من الحدود. ولعل العراق – وفق المعطيات – سيكون المحطة التالية التي سيواجه فيها النفوذ الإيراني تحديات، وربما اختبارات صعبة.
إن أي تطور يطرأ على النفوذ الإيراني في العراق سيكون مرتبطًا بشكل العلاقة الأميركية العراقية، والأميركية الإيرانية في عهد الإدارة الأميركية للرئيس السابع والأربعين دونالد ترامب.
كما يجب عدم تجاهل تأثير أي مواجهة عسكرية محتملة بين إيران وإسرائيل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.