Login النشرة البريدية

ظلّ الموقف الأميركي من السودان محكومًا بمزيج معقد من المصالح الإستراتيجية: (مثل الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب) والقيم المعلنة (كالديمقراطية وحقوق الإنسان). ومع ذلك، غالبًا ما افتقرت السياسة الأميركية تجاه السودان إلى رؤية متكاملة طويلة الأمد، وركزت على مقاربات تكتيكية للتعامل مع الأزمات.

في الآونة الأخيرة، فرضت الولايات المتحدة عقوبات متتالية على قادة الدعم السريع المتورطة في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وأعمال عنف ممنهجة ضد المدنيين، وقد استهدفت العقوبات قادة بارزين، مثل: محمد حمدان دقلو (حميدتي) وأشقائه، وشملت تجميد أصولهم وحظر التعاملات المالية معهم.

تحمل هذه الخطوات دلالات حقوقية وسياسية، لكنها تعكس أيضًا تناقضًا في السياسة الأميركية؛ إذ يبدو أنها تسعى لتحقيق مصالحها الواقعية في المنطقة عبر الحفاظ على نفوذها، بينما تروّج لقيم حقوق الإنسان والديمقراطية.

وفي تطور بدا متوقعًا على ضوء السياسة الأميركية الملتبسة تجاه السودان وأزمته، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات مماثلة ضمن قرار بفرض عقوبات أيضًا على رئيس مجلس السيادة، الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان. جاء ذلك في سياق مزاعم باتهامات استهداف المدنيين، والبنية التحتية، ومنع وصول المساعدات الإنسانية.

وأثار هذا القرار موجة من الانتقادات في الأوساط السودانية، والدولية باعتباره مفتقرًا للعدالة، والموضوعية، واستمرارًا لسياسات الكيل بمكيالين التي تتبعها الولايات المتحدة في المنطقة.

وتحمل هذه العقوبات أبعادًا متعددة، تتجاوز إطارها الحقوقي والسياسي لتلامس تعقيدات إقليمية ودولية عميقة. فمن الواضح أن التوتر بين الأجندات الإقليمية والدولية يشكل عائقًا أمام تحقيق الاستقرار في السودان، خاصة في ظل التنافس الشرس بين القوى الكبرى، بما فيها الولايات المتحدة، على تعزيز نفوذها في المنطقة.

ورغم أن هذه العقوبات قد تسهم في إضعاف هذه القوة المتمردة وزيادة عزلتها دوليًا، مما يتيح فرصة لعودة الاستقرار إذا استُغل الضغط الدولي بشكل فعال، فإن الموقف الأميركي يحمل بعض التناقضات. ففي الوقت الذي تعاقب فيه واشنطن قادة المتمردين على انتهاكاتهم الجسيمة لحقوق الإنسان، فإنها تفرض عقوبات على الجهة التي تكافح جرائم أولئك المتمردين انطلاقًا من واجبها الدستوري والوطني، فضلًا عن طرحها مقاربة سياسية تتحدث عن حلول قد تمنح الدعم السريع دورًا سياسيًا مستقبليًا.

وهذا يتناقض مع الرأي العام السوداني، الذي يرفض أي شكل من المشروعية السياسية لهذه القوات، حاليًا أو مستقبلًا.

ويبقى السؤال: هل تتجه واشنطن نحو تصعيد العقوبات إذا استمرت الدعم السريع في انتهاكاتها، وهل يشمل ذلك القوى الخارجية الداعمة لها؟، وهل تهدف واشنطن إلى تحقيق توازن الضعف بين الجيش وبين الدعم السريع، خاصة بعد الانتصارات الكبيرة التي حققها الجيش على الدعم السريع، مما يسمح بتمرير السياسة الأميركية في السودان التي لا تريد دولة قوية يحميها جيش قوي؟

السياق العام للموقف الأميركي من الأزمة

لقد حاولت الولايات المتحدة أن تظهر أنها داعمة للجهود الدولية الهادفة لتحقيق الاستقرار في السودان خلال الفترة الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام عمر البشير في عام 2019، لكنها فعلت ذلك انطلاقًا من منظور مصالحها المستقبلية في السودان، وليس من منطلق ترسيخ الديمقراطية أو ضمان حقوق الإنسان.

ومن هذا المنطلق، شاركت الولايات المتحدة مع بريطانيا في صياغة ما عرف بـ”الاتفاق الإطاري”، الذي سعى إلى تمكين قوى سياسية محددة تُعتبر حليفًا محتملًا لمصالحها، بينما استُبعدت قوى أخرى فاعلة، خاصة تلك التي تُصنّف ضمن التيار الإسلامي.

علاوة على ذلك، بدا أن واشنطن وشركاءها تغاضوا عن الماضي الأسود للدعم السريع في دارفور، والتي عرفت كذلك بـ “الجنجويد”، وتكوينها القائم على القبلية، عندما شملوها ضمن التحالف الذي يدعم الاتفاق الإطاري. بل إن الخطة استهدفت، في جوهرها، تقويض الجيش الوطني تحت مزاعم إعادة هيكلته، بينما لم تتخذ أي خطوات حقيقية لإعادة هيكلة الدعم السريع، أو دمجها في الجيش ضمن إطار الدولة السودانية ومؤسساتها.

وجاء هذا النهج بعد أن أظهرت القيادة العسكرية الوطنية ممانعة واضحة تجاه خطط واشنطن وحلفائها، خصوصًا فيما يتعلق بإعطاء الدعم السريع دورًا سياسيًا غير مشروع بدلًا من دمجها في الجيش وفقًا لمعايير وطنية.

من هذا المنطلق، ترى واشنطن في الدعم السريع قوة عسكرية وسياسية مناوئة للجيش، الذي تتهمه بدعم التيار الإسلامي، مما دفعها إلى الإبقاء على قنوات اتصال مفتوحة مع الدعم السريع؛ لضمان استمرار نفوذها في أي تسوية سياسية مستقبلية. في المقابل، لجأت إلى العقوبات كوسيلة ضغط متوازية.

غير أنَّ الانتهاكات الفظيعة التي ارتكبها “الجنجويد” منذ اندلاع الحرب في أبريل/ نيسان 2023، إضافة إلى التقارير الدولية الصادرة عن منظمات حقوقية، مثل “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية”، والتي وثّقت تلك الانتهاكات المروعة، دفعت واشنطن أخيرًا إلى التحرك لفرض عقوبات على قادة الدعم السريع. ومع ذلك، فإن هذا التحرك جاء متأخرًا كثيرًا، وهو ما يعكس تردد الولايات المتحدة بسبب حساباتها المتعلقة بالمستقبل السياسي للسودان.

خلفيات فرض عقوبات على البرهان

تُبرر الولايات المتحدة العقوبات التي فرضتها على البرهان بأنها تهدف للضغط على القيادات العسكرية للمشاركة في مفاوضات سلام وإنهاء النزاع. لكن السياق السياسي يشير إلى أن العقوبات تأتي أيضًا في إطار مقاربة أميركية تُساوي بين الجيش الوطني وقوة متمردة مثل الدعم السريع، ما يثير استياءً واسعًا في السودان.

واستنكر الجيش السوداني القرار الأميركي، واصفًا إياه بأنه استهداف لسيادة السودان وشعبه، معتبرًا أن الهدف الحقيقي للعقوبات هو إضعاف الجيش، وهو رمز الوحدة الوطنية وضمانة استقرار الدولة. وأكد الجيش أن هذه الإجراءات لن تثنيه عن مواصلة واجبه في الدفاع عن البلاد وتأمين أراضيها من المرتزِقة والعملاء. سياسيًا قللت فعاليات سياسية من تأثير العقوبات على رأس الدولة، مؤكدة أن “سياسة العصا دون الجزرة” لن تنجح في تحقيق أهداف واشنطن في السودان.

وكان ينظر للبرهان في الأوساط الغربية بما في ذلك الولايات المتحدة باعتباره شريكًا محتملًا للاستقرار، خاصة بعد خطوات التطبيع التي بدأها مع إسرائيل. لكن يبدو أن هذه الجهود لم تُترجم إلى دعم فعلي، إذ استمرت السياسة الأميركية في التركيز على مصالحها بأسلوبها الخاص الذي قد يستعصي على فهم الكثيرين.

ويشير في هذا الصدد العديد من المراقبين إلى ازدواجية المعايير في السياسة الأميركية، إذ تغض واشنطن الطرف عن جرائم موثقة ارتكبها قادةُ دول آخرون، مثل بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، بينما تفرض عقوبات على قادة يحاربون مليشيات تهدد وحدة بلادهم، وترتكب جرائم ضد الإنسانية.

هذه الازدواجية تؤكد أن الهدف الأساسي للعقوبات ليس العدالة أو حماية المدنيين، بل الضغط السياسي، وإضعاف الدول التي لا تتماشى مع الأجندة الأميركية. غير أنه يبدو أن الشعب السوداني، الذي عانى لعقود من العقوبات الأميركية، ينظر إلى القرار في حق البرهان باعتباره تأكيدًا على استمرار استهداف الولايات المتحدة للسودان شعبًا وأرضًا. ويستدعي السودانيون حادثة ضرب مصنع الشفاء للأدوية كمثال على سياسات واشنطن العدائية التي لم تُفرق بين الحكومة والمدنيين.

دلالات العقوبات على قادة الدعم السريع

يشير الموقف الأميركي، كما يظهر من العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأميركية، إلى تحميل قائد الدعم السريع المسؤولية المباشرة عن الانتهاكات الجسيمة، إضافة إلى كشف تفاصيل دقيقة عن الشركات السبع التابعة للمليشيا، بما يشمل أسماءها، ومسؤوليها، ودورها في تمويل وشراء الأسلحة.

هذا التوجه يعزز المزاعم السودانية المستمرة حول وجود دعم خارجي للدعم السريع، يُتهم بأنه يمثل مركز قيادتها وعملياتها، كما أشارت صحيفة نيويورك تايمز هذا الشهر في تقريرها بشأن العقوبات المفروضة على قائد المليشيا، والشركات السبع المسجلة لدى هذا الطرف الخارجي.

استهدفت العقوبات الأميركية قادة بارزين في الدعم السريع، وهم شخصيات محورية تدير العمليات العسكرية والميدانية، مما يعكس سعي واشنطن لمحاصرة البنية القيادية للدعم السريع والتبرؤ من أي صلة بها.

وصدر آخر هذه العقوبات في يناير/ كانون الثاني الجاري بحق قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، حيث فرضت وزارة الخزانة عقوبات عليه؛ بسبب دوره في الفظائع الممنهجة ضد الشعب السوداني، بما في ذلك الاغتصابات الجماعية والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.

وفي سبتمبر/ أيلول 2023، فُرضت عقوبات على عبدالرحيم حمدان دقلو، نائب قائد الدعم السريع وشقيق حميدتي، لدوره في أعمال عنف جسيمة، بما في ذلك استهداف المدنيين، والقتل العرقي، واستخدام العنف الجنسي. تلت ذلك عقوبات في أكتوبر/ تشرين الأول 2024 على القوني حمدان دقلو، شقيق آخر لحميدتي والمسؤول عن الجانب المالي؛ بسبب تورطه في شراء الأسلحة والمعدات العسكرية، مما أسهم في استمرار العمليات العسكرية والهجمات على المدنيين، بما في ذلك الهجوم على مدينة الفاشر في شمال دارفور.

وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، فُرضت عقوبات على عبدالرحمن جمعة، أحد القادة العسكريين البارزين في الدعم السريع، لدوره في الفظائع الممنهجة ضد المدنيين السودانيين. تستهدف هذه العقوبات، بشكل عام، تجميد الأصول المالية لهؤلاء القادة في الولايات المتحدة، وحظر التعاملات المالية معهم، بهدف زيادة الضغط على الدعم السريع لوقف الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان.

هذه العقوبات تؤكد، ولو بشكل ظاهري، التزام واشنطن بمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، لا سيما بعد تصاعد الضغوط من المنظمات الحقوقية الدولية. كما تحمل العقوبات رسالة تحذير للأطراف الأخرى من مغبة دعم المليشيا أو ارتكاب المزيد من الجرائم، عبر إظهار عواقب ملموسة على الداعمين من وراء الكواليس.

نتائج وحسابات

تعكس العقوبات على قادة الدعم السريع تحوّلًا ملحوظًا في الموقف الأميركي، إذ يبدو أن فشل محادثات السلام التي رعتها الولايات المتحدة والسعودية في جدة كان دافعًا إضافيًا لهذا الإجراء، في محاولة لتحريك الجمود. ومع وجود أدلة على ارتباط الدعم السريع بمجموعة “فاغنر” الروسية، فإن العقوبات قد تكون جزءًا من إستراتيجية أوسع تهدف إلى تقليص النفوذ الروسي في السودان والمنطقة.

ومع ذلك، فإن هذه الخطوات، رغم شدتها، لا تشكل تحولًا جذريًا في السياسة الأميركية. فالولايات المتحدة لا تزال تسعى للموازنة بين ممارسة الضغوط على الدعم السريع، وبين إبقاء قنوات التفاوض مفتوحة. يمكن فهم العقوبات كأداة ضغط أكثر من كونها تغييرًا كاملًا في السياسة، حيث ترى واشنطن أن الدعم السريع، رغم جرائمها، لا تزال طرفًا قد يخدم مصالحها في السودان والمنطقة.

لكن هذه العقوبات تحمل تداعيات غير محسوبة بالنسبة لواشنطن. فهي لا تضعف فقط القوة المتمردة عبر عزل قادتها دوليًا وحرمانهم من الموارد، بل تعزز أيضًا صورة الدعم السريع كقوة غير شرعية في أعين المجتمع الدولي، مما يقلل من احتمالية حصولها على دعم خارجي مستقبلًا.

كما يبدو أن العقوبات ضد البرهان تهدف إلى توجيه رسائل سياسية للجيش السوداني، مفادها تحذير من تعميق العلاقات مع روسيا. بيد أن اللاعب الأميركي لا يضع اعتبارًا لتأثير ذلك على استقرار الدول أو رفاهية شعوبها.

والسؤال الذي يدور في خلد المتفائلين: هل تفضي العقوبات ضد الدعم السريع إلى تدابير ظلت تعتمدها الولايات المتحدة ضد الجماعات الإرهابية، ولا يستبعد أن يكون إعلان العقوبات خطوة تمهيدية لتصنيف الدعم السريع باعتبارها جماعة إرهابية، كما هو الحال ووفقًا للمعايير الأميركية للتعامل مع جماعات مثل “تنظيم الدولة” و”بوكوحرام”.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version