Login النشرة البريدية

في مساءلة سردية تمزج الفانتازيا بالتاريخ الموثّق لنكسة سنة 1967 وما تلاها من أوهام بالسيادة والنصر، تجري أحداث رواية “صلاة القلق” للروائي المصري محمد سمير ندا في قرية مزروعة في النسيان، يهزها انفجار غامض لجسم مجهول سنة 1977، فيحوّلها إلى علبة مغلقة بإحكام، ويحوّل وجوه القرويين إلى سلاحف. حدثٌ واحد في القرية ترويه 8 شخصيات مختلفة، تشكل مرويّاتها فسيفساء حكاية ساحرة تُراهن بمنعطفاتها ومفاجآتها الكثيرة على صبر القارئ الذي يجد نفسه في النهاية مكلفا بوضع تصوره الخاص حيال أحداثها.

“صلاة القلق” الصادرة سنة 2024 عن دار مسكيلياني، والتي تم اختيارها ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2025، هي العمل الروائي الثالث لمحمد سمير ندا بعد عملين صدر أولهما سنة 2016 تحت عنوان “مملكة مليكة” والثاني سنة 2021 بعنوان “بوح الجدران”.

في حواره مع الجزيرة نت، يتحدث الروائي المصري عن الإضافة التي يحققها وصول روايته إلى القائمة الطويلة للجائزة، ودور البيئة التي نشأ فيها في تكوين شخصيته وتأثير البلدان التي عاش فيها في مراحل مختلفة من حياته على أعماله الإبداعية، وكذا عن أسباب اختياره مُساءلة نكسة 67 وما تلاها، ودور الروائي في استفزاز الذاكرة الجماعية للشعوب، والوقوف أمام آلة تزييف الوعي وخداع المجتمع من قِبل السلطة.

  • ماذا يعني لك اختيار “صلاة القلق” ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية، وما الإضافة التي يمكن أن تمنحها الجائزة لتجربتك الروائية؟

كانت مفاجأة حقيقيّة، أحاول استيعاب الأمر حتى الآن، الترشح يعني لي الكثير من الأمور، لعل أهمها شعوري بثقة أكبر حيال المسار الذي أقطعه، ولكني لن أضخّم الأمر وأتركنّ الثقة في داخلي تتعاظم فتتحول إلى غرور أو ما يشبه الكِبر، فما زال أمامي الكثير لكي أثبت نفسي على الساحة، ولأقتنع شخصيًّا بما أقدمه.

الجائزة تنطوي على تكريم كبير، لكنها لا تثبت أنني من ضمن أفضل الروائيين العرب، أنظرُ إلى الأسماء في القائمة حتى الآن وأشعر بالفخر، أؤمن بنصّي كثيرًا، وأثق في ما قدمته، ولكن، الظهور في القائمة يعني اقتناع لجنة التحكيم بالنص، وهذا أمر يتعلق بذائقة أعضاء اللجنة والمعايير التي يحددونها فور مباشرة عملهم.

لذلك يجب أن أذكّر نفسي دائمًا، أن ثقة اللجنة في نصّي وإن كانت وسامًا وشهادة اعتراف بالوقوف على أرض صلبة، فهي تعكس ثقة أعضاء اللجنة وتقديرهم لصلاة القلق، وهكذا؛ ربما لو تغيّر أعضاء اللجنة، لكان لهم رأي مخالف، وربما اختاروا قائمة مختلفة بالكامل.

الإضافة التي تحققها القوائم الطويلة والقصيرة، هي لفت نظر القارئ إلى النصوص وكُتّابها، ومن ثم تحقيق المقروئية على نطاق أوسع، وهذه واحدة من أهم غايات الكاتب.

  • نشأتَ في بيئة مثقفة، والدتك تدرّجت وظيفيا في وزارة الثقافة المصرية، ووالدك كان من أدباء جيل الستينيات، كما أنك عشت متنقلا بين أكثر من بلد نظرا لطبيعة عمل الأب، كيف أفادك ذلك في مسارك الإبداعي؟

في المرحلة الإعدادية، كنت في طرابلس رفقة عائلتي، وقبل النوم، كانت أمي متعها الله بالصحة، تقرأ لنا الكتب، فماذا كانت تقرأ؟ كانت تقرأ علينا كتب محمد حسنين هيكل، سنوات الغليان وخريف الغضب وغيرهما.

في البيت كانت مكتبة أبي هائلة تحوي المثير من أمهات الكتب، كما أنها كانت مكتبة متنوعة تضم كافة صنوف الأدب والفنون، ما زلت أتذكر طقوس الكتابة لدى والدي، وهو الأمر الذي لم أفلح في محاكاته نظرًا لتسارع إيقاع الحياة واختلاف البيئة الحاضنة للكتابة، كانت أمي تكتب مسودات أبي بينما هو يملي عليها ما “يوحى” به إليه، هذه هي البيئة التي نشأت في كنفها.

أما ما يخص تنوع البلدان التي شهدت مراحل مختلفة من الشباب والصبا، فقد أكسبتني على ما يبدو درجة من التنوع والانسجام مع الثقافات المختلفة، والانفتاح على الآخر بشكل اكتشفته تدريجيًّا، وأعتقد أنه ترك أثرًا في كتابتي، فعلى سبيل المثال كانت بغداد حاضرة في روايتي الثانية بوح الجدران، وكذلك طرابلس، والرواية في مجملها استعارة أدبية لقسم كبير من حياة والدي، مزجت بين الواقعي والمتخيل.

  • هذا العمل هو الثالث ضمن رواياتك المنشورة بعد “مملكة مليكة” (2016) و”بوح الجدران” (2021)، لكنك قلت أثناء إعلانك عن صدوره إنه سيظل علامة فارقة في حياتك كإنسان وكقارئ، ما الذي جعلك تعتبره كذلك؟

صحيح، صلاة القلق كُتبت بعد بوح الجدران، وهي العمل الثالث المنشور، وأقول المنشور لأن لدي عدة أعمال روائية وقصصية فيما أطلق عليه “درج المؤجلات” وهذا أمر يطول شرحه، ولكن بالعودة إلى سؤالك، فقد شعرت بالتحرر بعد كتابة ونشر بوح الجدران.

فقد كانت رواية قتل الأب إن جاز التعبير، إذ تحررت من ظل أبي حين كتبت حكايته، وشعرت أنني لم أعد مكبلا بقصته التي لا أنكر أنها لم تزل تؤرقني، لذلك جاءت صلاة القلق كأول عمل أكتبه في منأى عن ظل أبي، وبعيدًا كل البعد عن أفكاره وشعاراته وأحلامه النبيلة التي فقدت إيماني بها فور بلوغ طور الشباب وبداية تكوين الوعي الخاص بي، عشت مع الشخوص في صلاة القلق لسنوات، وكان فراقهم مؤلمًا بشكل أزعجني وأدهشني.

“صلاة القلق” هي العمل الثالث ضمن روايات محمد سمير ندا المنشورة بعد “مملكة مليكة” (2016) و”بوح الجدران” (2021) (الجزيرة)
  • الرواية عبارة عن مُساءلة سردية لنكسة 1967، وما تلاها من أوهام بالسيادة والنصر، من هذا المنطلق، أي دور للروائي في استفزاز الذاكرة الجماعية للشعوب، والوقوف أمام آلة تزييف الوعي وخداع المجتمع من قِبل السلطة؟

دور الكاتب أن يسلط قلمه صوب نقطة ما من الحاضر أو الماضي، فيضيء تفاصيلها للقارئ، شريطة أن يترك له حرية الحكم والتقييم، لا أحب أن يفرض الكاتب رأيه على مرحلة ما، حالية أو سابقة، لأن في هذا خروجًا عن المسار الروائي قد يُحيل الرواية برمتها إلى مقال تاريخي أو سياسي.

من الضروري أن يمتلك الكاتب الجرأة على إلقاء الحجارة في البحيرات الراكدة، هو لن يحل الأزمات العربية بكتابته، لكنه يلفت الانتباه، ويصوّب نظر القرّاء في موضع محدد يختاره لكتابته، مثل كيفية السيطرة على الوعي الجمعي لفئة من الناس كما جاء في صلاة القلق بصورة تمزج الفانتازيا بالتاريخ الموثّق، هذه وضعيّة شائعة في دول العالم الثالث، وقد سبقني بالكتابة عنها الكثير من عظماء الأدب عالميًّا وعربيًّا، لكنني حاولت إعادة طرح الأمر من خلال زاوية مختلفة، وبطريقة أتمنى أن يجدها القارئ مختلفة كما تمنّيت.

ولعلني أصر على الكتابة بذات المنهجيّة في الأعمال المقبلة، وهو ما يجري في العمل الذي أعكف على كتابته منذ عامين الآن، لا أعتقد أنني قد ألجأ إلى كتابة الروايات العاطفية والاجتماعية والبوليسية المنعزلة عن الواقع اليومي المَعيش بكل جوانبه الاجتماعية والسياسية والعروبية، ففي ذلك إسهام في تخدير الوعي العام وإن لم يقصد الكاتب.

قد أكتب في كل هذه المواضيع، ولكن ضمن إطار عام يثير لدى القارئ الأسئلة حيال القضايا المهمة، على الأقل، هذا ما أؤمن به ضمن المهام الأساسية للكتابة؛ طرح الأسئلة، ولفت الانتباه، والتذكير بما أخشى أن يُحال إلى النسيان.

  • لإميل سيوران مقولة يقول فيها “على الكتاب الحقيقي أن يحرك الجراح، بل عليه أن يتسبب فيها”. يبدو أنك جسّدت هذه المقولة في “صلاة القلق”، ما الغاية من إعادة نكْء الجرح العربي، جرح النكسة تحديدا؟

جرح النكبة، وجرح النكسة، والجراح الآخذة في الاتساع في هذه اللحظات، كلها لم تزل نازفة، النكبة ليست ندبة حتى تنكأ وتُحرّك وتُستعاد، هي نزف دائم منذ أكثر من 70 سنة، أما النكسة في رأيي فليست سوى أسلوب توكيد للنكبة، وإعلان مكتمل يرسّخ حدوثها، واستحالة إعادة الوضع لما كان عليه قبل مايو 1948.

ما قلته الآن ينطوي على إجابة لسؤالك، إذ ربما أردت أن أخبر القارئ بما قلتُ للتو، “جرحك مفتوح، لم يزل، نازف لا يندمل”، فلا تحل المضارع إلى الماضي، النكبة ليست هيروشيما وناغازاكي! فالأولى فعل مضارع مستمر، والثانية فعل ماض تخلّص من أثره اليابانيون واستعادوا حياتهم رغم بقائه كندبة، هذا هو الفارق.

فالقضية الفلسطينية لم تُحل، لذلك أردت للقارئ ألا يعتقد أن السنوات كفيلة بمحو الذاكرة، وأن تزييف الوعي من خلال الإغراق في الوهم وتشتيت الفكر سيخدّر العقول أبد الدهر.

  • حدثٌ واحد في “نجع المناسي” ترويه 8 شخصيات مختلفة، عادة ما تضع هذه التقنية -تقنية تعدد الأصوات- الكاتب أمام تحدّ كبير، بحيث يجب أ لا تتساوى الخطابات الصادرة عنها فكريا ولغويا، كيف تعاملت مع هذا التحدي؟

كما تعرف، الكتابة لعبة، أو هكذا أراها وأحب ممارستها من هذا المنظور، وقد كانت الأصوات الثمانية واحدة من ألاعيب النص، إذ إن خاتمة الرواية كما تعلم، تحوي الكثير من المنعطفات والمفاجآت التي تكلّف القارئ بوضع تصوّره الخاص حيال ما قرأ، وبسبب المسار الذي اخترته للنص، والبناء الذي اعتمدته مراهنًا على القارئ الصبور.

نوّعت الأصوات من حيث الرؤية والفكر، أكثر من حرصي على تنويعها لغويًّا، ولهذا تفسيره في النص كما سيرى القارئ، كانت مغامرة كبيرة، وأحسب أنني محظوظ بصبر القراء ولجنة التحكيم على متابعة المسار حتى انجلاء حقيقة الأصوات، ومن ثمّ العثور على إجابات للأسئلة التي رافقتهم على امتداد الرواية.

  • الملاحظ في الرواية أن هناك حضورا بارزا للأغاني، أغاني عبد الحليم حافظ تحديدا، ما أسباب هذا التوظيف؟ ولمَ عبد الحليم حافظ؟

الرواية تناقش المرحلة الناصرية، وتتصوّر استمرارها حتى عام 1977، وعبد الحليم، الذي أعشقه كثيرًا بالمناسبة، هو صوت المرحلة، وسفير تلك الحقبة العروبيّة الثرية بأحلام لم تتحقق.

أبناء هذا الجيل -سواء في ذلك شخوص الرواية وغيرهم على أرض الواقع- تربوا على صوت عبد الحليم، آمنوا به من ضمن ما آمنوا، صدّقوا وعوده الطربيّة، واحتفوا به واحتفلوا معه، لذلك كان لموت عبد الحليم سنة 1977 دور محوري في هذا النص، كأن موت الصوت المعبّر عن المرحلة، أزاح الغمامة والغشاوة عن أبصار المُختطفة عقولهم، فكان ما كان.

  • جاء في مفتتح الرواية: “استيقظ الشيخ أيوب المنسي صباح اليوم، فلم يجد رأسه بين كتفيه”، وهو ما يحيلنا إلى العوالم الروائية لفرانز كافكا، كما أن الوباء الذي أصاب القرويين فجأة يحيل إلى روايات جوزيه ساراماغو، هل كان في ذلك إشارة مقصودة إلى أعمال هذين الكاتبين أم أنه مجرد صدفة؟

أعتقد أنني كنت مسكونًا بجورج أورويل أكثر من كافكا وساراماغو، كما أنني كنت ملاحقًا بأصداء أحلام أبي، وبعوالم العظماء خيري شلبي وعبد الحكيم قاسم وعادل عصمت، وبقراءات أخرى كثيرة عاصرت مراحل التحضير والكتابة وإعادة الكتابة التي مر من خلالها هذا النص، لم أقصد الإشارة بشكل مباشر إلى من ذكرت من عظماء الأدب، ولكنني لاحظت الأمر كما لاحظته أنت ولاحظه القراء.

هذا الواقع العربي المرصود في زمن الرواية، ربما يعجز أورويل وكافكا وساراماغو مجتمعين عن الإحاطة بكابوسيّته. أردت لمفتتح الرواية أن يحيل القارئ إلى تصور رجل فقد رأسه المعتاد، بعدما استحالت كرأس السلحفاة بفعل الوباء الغامض، لم أشأ محاكاة شخصية جريجور سامسا، والقارئ أدرك ذلك منذ الصفحة الأولى.

أما الوباء فقد وُجد ليلخّص الوضع العربي آنذاك، فهو وباء القلق، الشعور بالخوف من الآخر، حالة اللايقين تجاه كل شيء، هو مزيج من مشاعر خبرها العرب عقودا من الزمن، وقد جاءت الرواية لتدعو القارئ إلى التخلص من هذا الوباء/القلق، من خلال استعادة الحق في قراءة التاريخ الفعلي، والتيقّن من ماهيّة الحقيقة.

على الأقل هذا ما حاولت فعله، ولن أعرف إلى أي حد أفلحت أو أخفقت إلا بعد زمن طويل.

شاركها.
Exit mobile version