اخترتُ لي على المنصة المنصوبة في ساحة سان كارلو الأنيقة، المقعد الذي يموضعني قبالة تمثال “إيمانويلي فيليبيرتو” المهيب دوق سافويا، واعتذرتُ من ضيفي اختيار الجلوس على يمينه بدل اليسار مبررة ذلك بانسداد أفق الأخير عن أي جماليات مشهدية، ضحك هو -وقد فهم غمزتي- وساعدني على العبور إلى يمين الطاولة هربا من اليسار الذي كان ليجعلني حرفيا أحاوره وطرف عيني مثبت على حائط مسدود يعود لبار رمادي اللون، في حين أن المقعد الذي اخترته كان ينفتح على الساحة الرحبة المعروفة باسم “صالون تورينو” ويطل على تمثال “الكفال دْ برونز” البديع المنصوب وسطها. و”الكفال دْ برونز” كما ينطق بلهجة أهل بييمونتي هو حصان برونزي بديع منحوت بتفاصيل تشريحية مدهشة يمتطيه بعنفوان فارس وسيم كان يُطلق عليه اسم “أمير بييمونتي”، وملك قبرص والقدس.
استرخيت على الأريكة البيضاء المصممة بطراز عصري مريح، وتناولت نسختي من كتاب “إمبرازيسمي” في طبعته الصادرة عن “مطبوعات كو”، وتحضّرتُ لتقديم كوسي كوملا ـ إيبري، وهو أحد أبرز وجوه أدب الهجرة في إيطاليا ضمن ندوات “بورتيتشي دي كارتا” في طبعتها الـ18، أكبر تظاهرة ثقافية ينظمها الصالون الدولي للكتاب بتورينو كل موسم دخول أدبي.
بسطتُ نظري على “حصان البرونز” للنحات الإيطالي كارلو ماروكيتي، وابتسمتُ برضى، وأنا أفكر أن المتنبي كان سيسعدُ أيضا بتمثال كهذا. تمتمت في قلبي بضع كلمات عربية، ثم انطلقتُ في حواري مع الضيف، ولم أتأخر كثيرا لأدفع بسؤالي المحوري: “مِن المعروف أن أدب المهاجرين في إيطاليا يتسم بمكنونات تراجيدية وقدرة على استدرار دموع القارئ نظرا لثيماته التي تستند إلى تجارب شخصية قوية… باختصار يستحيل على الإنسان الإيطالي (الرقيق بطبعه) عدم التعاطف مع كاتب يقدم أدبه ضمن شهادة شخصية حتى لو كانت أدواته الفنية محدودة، في حين أن الكتابة التي لا تلعب على ورقة الدموع هي ما يبدو أنها تشكل التحدي الحقيقي للكاتب المهاجر في إيطاليا، هل كان ذلك هو التحدي الذي رفعته في كتابك؟”.
والواقع أن كوملا وظف باقتدار ورقة الدعابة والسخرية في كتابه، وهي ليست ورقة هيّنة في عالم الأدب، كونها تحتاج حِرفيّة عالية ورشاقة في الطرح من شأنها أن تفضح أي كاتب يعاني من عطب أو صدأ في مكان ما في أدواته الفنية. وبالفعل أجابني الكاتب المحنك أنه استخدم هذه التقنية كإستراتيجية غير عنيفة لـ”شل دفاعات القارئ” من خلال رسم الابتسامة على وجهه قبل أن يمرر له الفكرة، بدل الاستمرار في اعتماد ورقة الضحية التي تكبل النصوص القادمة من الجنوب (أو المكتوبة عن الجنوب) وتقوض أدبيتها.
شلّ دفاعات القارئ
“شلّ دفاعات القارئ”! أعجبتني هذه العبارة، ولم يمض يوم واحد على هذه الجلسة حتى وصلني عبر البريد كتاب بعنوان “ذاكرة أم فلسطينية ـ قصة حاجز”. والأمر يتعلق بإصدار حديث عن “إل فونداكو دي ليبري”، وقد كان كتابا رشيقا من 100 صفحة مطبوع على ورق فاخر بلون العاج (غير مرسكل على الأرجح) بغلاف أنيق مطفي اللمعة يشبه ذوقي في أحمر الشفاه.
قلّبت الكتاب بين يدي وأنا أشعر بالفضول من جرأة كاتب ينتمي لجنس الرجال اسمه إرنستو، أقدم على وضع مؤلّف بعنوانٍ كهذا ضمن الجو الأيديولوجي المشحون في الغرب والمعادي للرجل الذي يسرق من المرأة الحق في التعبير عن نفسها. ولأنني أحمل مخزونا في التنظير النسوي المتقاطع، الراديكالي، الإيكولوجي يكفي لهدم مكتبة كاملة وضـَعها رجال يعتدون على حقوق المرأة والطفل والطبيعة بكتاباتهم العنيفة؛ فتحتُ الصفحة الأولى وأنا أشحذ قلم الرصاص الذي امتشقته لأسجل ملاحظاتي على إرنستو الإيطالي الذي سمح لنفسه أن يكتب كتابا باسم امرأة من الجنوب بينما هو رجل أبيض من الشمال (مع أنني لا أعرفه شخصيا، ولا حتى وجدتُ له صورة على النت، ولكنه أبيض شاء أم أبى).
لا علينا، بدأت بالقراءة لإرنستو الأشقر هذا وأنا أنوي أن أهدم البطرياركية على رأسه، على الرغم من أنه يصرّح نصا في مقدمته أنه ليس سوى عبد فقير لله تعالى، ولكن هذا لا يهم لأنه بالتعريف النسوي الراديكالي ليس سوى رجل أبيض يمثل البطرياركية المتعفنة… كل هذا قبل أن أشعر بشلل ما يتسلل إلى دفاعاتي (بتعبير كوسي كوملا) مباشرة بعد قراءتي للجملة الأولى من توطئة أنجيلا لانو، وهي إحدى أهم الخبيرات في الشأن العربي والفلسطيني في إيطاليا ومديرة “وكالة الأنباء الإيطالية الفلسطينية” (infopal).
لا تُحدّثنا أنجيلا عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني كأي غريب يتعاطف من عليائه مع شعب يرزح تحت وطأة حرب بعيدة عنه، ولكن عن جرحها الشخصي وجرح الانسانية بأكملها جراء ما يحدث من “أعمال وحشية في غزة، والضفة الغربية والقدس، وأراضي الـ48″، هكذا تقول أنجيلا معلنة بشكل غير مباشر أننا حيال عمل قد يكون مختلفا، وحيث إنها لم تشحن تضامنها مع الشعب الفلسطيني بأي من البلاغات السياسية المعروفة في الأوساط المناصرة للقضية الفلسطينية في إيطاليا، والتي حولت فلسطين معهم إلى مجرد قضية أيديولوجية سمجة.
وعلى الرغم من أن المؤلف إرنستو عبد الله روسو (1976) أعادنا للأجواء الشيوعية التي نشأ ضمنها في إيطاليا سنوات الثمانينيات، فإنه أخذ يَحملنا شيئا فشيئا لأقاليم نفسية ولغوية مختلفة حتى قبل بدء “قصته” نفسها من خلال مقدمة قصيرة بدأ بها عمله. والواقع أن اختيار الكاتب/الناشر عدم تجنيس النص على الغلاف، كان “ضربة معلّم” حقيقية، ذلك أن القارئ سيبدأ بالدخول في حالة من “الاسترخاء الأيديولوجي” ليحفز ذهنه مع مرور الفصول الأولى من العمل، بالانشغال الأدبي البحت في محاولة تجنيس النص، وتحديد ما إن كان حيال نوفيلا، أم خواطر شعرية، أم قصائد نثر مستقلة. والحقيقة أن بنية النص تدخلك في حيرة لذيذة، ذلك أن إيجاز الفصول التي لا يتجاوز طول كل واحد منها صفحتين، لا يمنحك فرصة الملل من النص والدخول في حالة الخدر التي من شأنها أن تشتت ذهنك وتدفعك للانخراط في تسجيل التفاصيل التي تتيح لك لاحقا فرصة تصيّد أخطاء الكاتب.
لغة مشحونة بالمجاز
في المقابل تؤدي بك إستراتيجية الإيجاز إلى التورط العاطفي مباشرة مع عمل يجبرك على قراءته على شكل قصيدة نظرا للغته المشحونة بالمجاز، ولكنك تبقى تتوقع منه أيضا تسارعا للأحداث في أي لحظة بحكم أنك لا تزال تتوقع أنك أمام نوفيلا. وبالفعل في منتصف الكتاب حدث ما اعتبرتُه “تويست” (الانعطافة) في الحبكة وعدت للوراء أعدُّ الصفحات حتى أتأكد أن الكاتب كان يقوم بالفعل بـ”بلدينغ آب” (بناء) عبقري لتمويه عمله “الثريلر” (كما بتّ متيقنة) من خلال “مشاغلة” القبة الحديدية للقارئ عن طريق صواريخ إلهاء شعرية ستفضي لتفجير قنبلة في نهاية العمل وتصنع الذروة التي يسعى إليها أي حكّاء.
ولكن مع مرور الصفحات وثبات إيقاع الفصول لم يعد من الممكن حسابيا للكاتب الاشتغال على أي عقدة، فعدت للتركيز أكثر على اعتبار العمل مجموعة نصوص شعرية؛ ذلك أن بعض الفصول فيها يمكن قراءتها والتلذذ بها وحدها كأنها قصائد مستوفية. وقدّرت حينها أنني أمام عمل تجريبي متحرر كليا من التجنيس، لأتوقف فجأة أمام أليغوريا استخدمها الكاتب تضمنت استعارة “الحمار”، وتساءلتُ إن كان الكاتب يحاول زعزعة المرجعيات الثقافية والخرائط الذهنية للقارئ أم أننا أمام استعارة بريئة لم يقصد منها المؤلف شيئا؟ كل هذا وأنا لا أزال أريد أن أعرف ما الذي ستفضي إليه معاناة امرأة فلسطينية هي أم لولدين فقدت زوجها وهي في ريعان شبابها، وكانت تلك هي بطلة العمل وشخصيته المحورية.
ليعود الكاتب ويستخدم أليغوريا الحمار مجددا، ومعها كدت أجزم أن هذا الكاتب (الذي لم أعد مهتمة بلون بشرته) لن ينهي عمله المجنون هذا قبل أن يرتكب مصيبة ثقافية، والحقيقة أن إيرنستو عبد الله روسو ربط “حماره” في النهاية، ولم يعد إليه، ثم أقفل عمله باقتدار ثقافي شديد وببراعة أدبية لكاتب ماهر عرف كيف يلاعب القارئ ويتركه حابسا أنفاسا حتى آخر صفحة بل آخر كلمة من الكتاب.
وبالرغم من أن العمل تخلله بعض التشابك مع بيئات ثقافية لا تنتمي تماما لبيئة البطلة، وهي هِنة كان يمكن تلافيها لو عُرض العمل على زوج عينين محترفتين لقارئ عربي، ما كان ليجعله نصا “صائبا” لا تشوبه أي شائبة. ولكنه كان ليسرق منه أيضا تفرده وكونه نُحت بأيدي حرفية لكاتب قد يخطئ أو يصيب، لا عمل صنّعه فريق محررين محترف غدت الأعمال الأدبية التي تخرج من تحت أيديهم مؤخرا تبدو كأنها معلّبة في ورشة واحدة.
وقد تكون نصوص كهذه مناسبة لمساعدتنا على العودة إلى التمتع الخالص بنشوة الأدب وعدم المبالغة بـ”التيقظ” والشعور بالإهانة بسبب كلمة أو مشهد قد يكتبهما عبد فقير لله في مكان ما من العالم، بحسن نية أو ببساطة لأنه: “جل من لا يخطئ”. وهذه عبارة لا تعرفها أيديولوجيا “الووك” التي لا تعرف التسامح… أما ثقافتنا فكلها رفق ورحمة.
وهكذا قام إرنستو عبد الله روسو الذي يقول ظهر الغلاف إنه “يحيا مع الإسلام وتربية النحل ويمضي أغلب وقته بين أشجار الزيتون والعائلة”، ليأخذنا بعيدا عن الأيديولوجيا التي لم تسمّم في السنوات الأخيرة الأدب فحسب بحسابات الصوابية السياسية، بل أثرت على طريقة تلقيه أيضا، ليغمرنا عوضا عن ذلك بكتابه -الذي يعود ريعه بالكامل للعائلات في غزةـ بسكرة فنية لذيذة.
والأكيد أنني لا أعتزم العام القادم الجلوس على يسار إرنستو في “صالون تورينو” ومن خلفي “الكفال د برونز” لأحاضر في “جريمة سرقة صوت امرأة عربية وممارسة العنف الذكوري الكولونيالي عليها”، بل سأقتني نسخا عديدة من الكتاب الذي جمع غلافه بين ألوان الراية الوطنية وألوان زينة عيد الميلاد، ليكون بذلك هدية مثالية لأعياد رأس السنة. هدية تكتنز ماهية الأدب الخالص المكتوب بروحية الإعجاز والدهشة: روحية فلسطين.
- الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.