“لن نقبل بصفقة تبدد إنجازات الحرب، والصفقة الوحيدة المقبولة هي استسلام من بقي من حماس، وتحرير المختطفين”.
هكذا صرح وزير المالية الإسرائيلي، ووزير الدولة بوزارة الدفاع، وعضو مجلس الوزراء الأمني المصغر، بتسلئيل سموتريتش في يوليو/تموز 2024 بعد أكثر من 9 أشهر على الحرب، وهو تصريح يتسق مع ما أفصح عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أكثر من مناسبة، ومنها في خطابه أمام الكونغرس الأميركي في الشهر نفسه، إذ أشار إلى أن الحرب في غزة ستنتهي فقط إذا استسلمت حماس وألقت سلاحها وأعادت الأسرى.
شدد نتنياهو في خطابه أيضا على أن الجيش الإسرائيلي سوف يبقى في غزة كي لا تشكل أي تهديد عسكري، مشيرا إلى إمكانية تشكيل إدارة مدنية في غزة يقودها فلسطينيون لا يعادون إسرائيل، ومؤكدا رفض تسليم القطاع للسلطة الفلسطينية تحت شعار “لا حماستان ولا فتحستان”، ثم عزز نتنياهو موقفه بتأكيد الاحتفاظ بمحوري نتساريم وفيلادلفيا زاعما أن محور فيلادلفيا أصبح قضية وجودية وأن التواجد فيه أصبح إستراتيجية لا غنى عنها لأمن إسرائيل.
اقرأ أيضا
list of 2 items
كيف كشف طوفان الأقصى “كذبة الصهيونية” الكبرى؟
إبراهيم المقادمة مفكر المقاومة
end of list
ولعله من نافلة القول أن تلك التصريحات الإسرائيلية ومثيلاتها لم تُطلق في الفراغ، إذ رافقتها تحركات عسكرية على الأرض شملت حشد نصف مليون جندي إسرائيلي نظامي واحتياطي بعد ما جرى يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بهدف تحقيق 3 أهداف للحرب، وهي: القضاء على حكم حماس في غزة، وتفكيك القدرات العسكرية للحركة وسائر فصائل المقاومة في القطاع، والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين.
إعلان
وفي المقابل، التزمت حماس بأن أسرى الاحتلال لن يفرج عنهم دون اتفاق تبادل، وتمسكت الحركة بـ3 شروط لقبول أي صفقة وهي: عودة السكان لشمال غزة دون استثناء الرجال، والوقف الدائم لإطلاق النار، والتعهد بالانسحاب الإسرائيلي من القطاع.
وبالفعل انتهت الحرب الطويلة أخيرا باتفاق بوساطة قطرية مصرية ورعاية أميركية ينص على الانسحاب الإسرائيلي تدريجيا من غزة، بما في ذلك محور نتساريم الذي يفصل شمال القطاع عن جنوبه، ومحور فيلادلفيا على الحدود المصرية الفلسطينية، والإفراج عن الأسرى وفق اتفاق تبادل، مع عدم التطرق إلى مستقبل حكم القطاع داخل الاتفاق.
في غضون ذلك، كان الأسبوع الأخير قبل اعتماد الاتفاق من الأسابيع الدامية لجيش الاحتلال حيث شهد مقتل أكثر من 15 ضابطا وجنديا وإصابة العشرات، في دلالة على أن الهيكل العسكري لفصائل المقاومة لم يتفكك، وأن عناصرها رغم الحصار وشدة القصف وحجم المجازر الضخم ضد المدنيين، لم يرفعوا رايات الاستسلام، ولم يجعلوا الاحتلال يقرّ له قرار على أراضيهم، وجعلوا أيامه نزيفا متواصلا من الخسائر.
أهداف الحرب
لم تكن حرب غزة حربا تقليدية بين جيشين، بل هي حرب بين جيش احتلال مدعوم بقوى دولية ضد فصائل مقاومة محاصرة تملك القليل من الإمكانات العسكرية.
ولذا فإن مؤشرات الانتصار أو بمعنى أدق “نظرية النصر” لدى كل طرف تظل مختلفة تماما عن الآخر، ولا يحددها فقط حجم الخسائر البشرية لدى كلا الطرفين، وعلى جانب الاحتلال يتمثل الانتصار في تحقيق أهداف الحرب الثلاثة التي حددها نتنياهو بنفسه كمعايير للنصر، بينما يتعرف النصر لدى المقاومة من خلال قدرتها على الصمود ومنع الاحتلال من تحقيق أهدافه.
في صبيحة 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 انهارت أركان نظرية الأمن الإسرائيلية القائمة على الردع والتفوق الاستخباري، مع سقوط خط الدفاع الإسرائيلي مع قطاع غزة بالكامل، فضلا عن نجاح مقاتلي المقاومة في أسر مئات الأشخاص والعودة بهم إلى غزة، ومقتل وإصابة آلاف الجنود والمستوطنين في أضخم خسارة بشرية تلحق بإسرائيل في يوم واحد منذ تأسيسها، مما دفع نتنياهو إلى التصريح بأن “إسرائيل في حرب وجودية صعبة”، في حين لخص مارتن أنديك السفير الأميركي الأسبق في تل أبيب -الذي توفي في يوليو/تموز من العام الفائت- دلالة ما حدث قائلا إن “حماس أعادت إحياء فكرة هزيمة إسرائيل بالقوة”.
إعلان
في مواجهة هذه الحقيقة الجديدة والصعبة، شنت إسرائيل أضخم هجوم لها في فلسطين منذ النكبة وخاضت أطول حرب في تاريخها امتدت إلى 15 شهرا. واعتمدت الحملة العسكرية في مرحلتها الأولى على قصف جوي غير مسبوق لتدمير كل ما له صلة بالمقاومة والمجتمع المحيط بهم من منازل سكنية ومقرات حكومية ومؤسسات اجتماعية، فضلا عن الانتقام الجماعي من الأهالي عبر إحداث مقتلة هائلة في صفوف المدنيين، بالتزامن مع حصار مشدد يشمل منع المياه والطعام والوقود والكهرباء عن سكان القطاع، وتهديم البنية التحتية من مستشفيات ومدارس ومؤسسات.
لاحقا، شن الاحتلال عملية برية شملت كل أنحاء قطاع غزة، مع تكرار حملات الإخلاء لمنع السكان من الشعور بالاستقرار ولو في خيم النزوح، وأسفرت تلك المجزرة عن قرابة 50 ألف شهيد وفق الأرقام الرسمية، وأضعافهم من المصابين والمهجرين والمشردين، فضلا عن تدمير أغلب مقومات الحياة في قطاع غزة.
عسكريا، أعلن الاحتلال شروعه في تفكيك البنية التحتية للمقاومة، وتدمير بنيتها العسكرية ومنظومات القيادة والسيطرة، متعهدا بقتل كل من شارك في طوفان الأقصى، والقضاء على شبكة الأنفاق الواسعة، والأهم تحرير أسراه من خلال الضغط العسكري، رافضا عرض المقاومة منذ بداية الحرب بالتفاوض لإجراء عملية تبادل أسرى تشمل كل الأسرى من الجانبين.
وفي منتصف عام 2024 أعلنت هيئة البث الإسرائيلية أن حكومة نتنياهو أعطت الجيش الضوء الأخضر للانتقال تدريجيا للمرحلة الثالثة والأخيرة من الحرب، والتي تشمل البقاء في محوري نتساريم وفيلادلفيا للضغط على حماس، وتنفيذ غارات وعمليات برية مركزة تستهدف مقدرات المقاومة وعناصرها. ووسع جيش الاحتلال محور نتساريم عبر هدم المنازل على جانبيه، بهدف فصل شمال قطاع غزة الذي تعرض للقدر الأكبر من التدمير عن جنوبه.
إعلان
فشل المخططات الإسرائيلية
في غضون ذلك، أعلن الاحتلال مخططات عدة لمستقبل قطاع غزة، بينما أطلق وزراء يشغلون مناصب حكومية تهديدات بمحو غزة تماما وتهجير أهلها عن بكرة أبيهم، كما في حديث وزير التراث عميحاي إلياهو بأن أحد الخيارات أمام إسرائيل هي إسقاط قنبلة ذرية على القطاع، وإشادة وزير المالية سموتريتش بمقال عضوين في الكنيست بصحيفة وول ستريت جورنال، دعوَا فيه إلى تهجير 10 ألاف فلسطيني لكل دولة من دول العالم، في حين شدد وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير على أن الاستيطان في قطاع غزة وتشجيع هجرة الفلسطينيين منه صارا هدفين واقعيين.
ومن بين تلك المخططات التي قادت الاحتلال خلال شهور الحرب الطويلة مقترح إقامة حكم عسكري في غزة، وهو المخطط الذي ندد به علنا وزير الدفاع الإسرائيلي -آنذاك- يوآف غالانت بمؤتمر صحفي في مايو/أيار 2024، فقد كشف أن بعض الجهات في حكومة الاحتلال تدفع باتجاه إقامة حكم عسكري في غزة، وأبدى تخوفه من غرق الجيش في حرب استنزاف طويلة في حال المضي قدما في تنفيذ هذه الخطة.
أكثر من ذلك، سعى الاحتلال من خلال غسان عليان منسق أعمال الحكومة الإسرائيلية للشؤون المدنية في محاولات لدفع بعض العائلات الغزية إلى تشكيل إدارة أهلية في مناطق وجودها، والتنسيق معها في إدخال المساعدات وتوزيعها، وهو ما رفضه وجهاء العشائر وكبار العائلات مشترطين التنسيق أولا مع الأجهزة الأمنية بغزة، وهو موقف رحبت به حماس.
كذلك شجع الاحتلال على حدوث مظاهر فوضى في غزة شملت عمليات للسطو على شاحنات المساعدات، غير أن المقاومة ووجهاء العشائر عملوا على التصدي بحزم لتلك المظاهر ولإحباط المخططات الإسرائيلية.
أما واشنطن، فأعلنت تدشين رصيف بحري في غزة لتسليم المساعدات الإنسانية، وهو ما عكس رغبة أميركية إسرائيلية في سحب ملف توزيع المساعدات من أي جهة فلسطينية بغية تحقيق قدر أكبر من السيطرة عبر التحكم في توزيع الطعام في القطاع، وتزامن ذلك مع الاستهداف الإسرائيلي الممنهج لأي مظاهر حكم في غزة لتعزيز حالة الفراغ الإداري والأمني، إذ استهدف جيش الاحتلال عناصر أجهزة الأمن العام والأمن الداخلي ولجان الطوارئ والشرطة بقطاع غزة.
إعلان
وكشف الجيش الأميركي أن تكلفة بناء الرصيف بلغت 320 مليون دولار بمشاركة ألف جندي أميركي، لكن مشروع الرصيف انتهى بالتخلّي عنه وتفكيكه بسبب تجاوز أعباء تشغيله الفوائد المجنية منه، وفشله عمليا مع تعطله أكثر من مرة بسبب الأمواج العالية.
وفي سبتمبر/ أيلول 2024، درس الاحتلال خطة اقترحها مستشار الأمن القومي السابق الجنرال غيورا أيلاند، وتقضي بإعلان شمال غزة منطقة عسكرية مغلقة، وطرد من تبقّى من المدنيين والسكان “300 ألف شخص” إلى جنوب القطاع عبر تجويعهم ومنع إدخال أي مساعدات إنسانية، واعتبار كل من يظل في الشمال مقاتلين في المقاومة، وتصفيتهم، مما يجعلهم عرضة للاستهداف. وذلك للضغط على حماس لإجبارها على الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، فيما عُرف إعلاميا بـ “خطة الجنرالات”.
وبالفعل بدأ الاحتلال في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2024 عملية عسكرية جديدة في مخيم جباليا بشمال غزة مع إجراءات في شمال القطاع تتسق مع هذه الخطة.
وفي الخلفية من المشهد كله، كانت حركات الاستيطان الإسرائيلية تمني نفسها بالعودة إلى القطاع الذي انسحبت منه مرغمة قبل عقدين، ضمن خطة فك الارتباط لرئيس الوزراء الأسبق أرييل شارون. وقد عقدت حركة نحالا الاستيطانية مؤتمرا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بخصوص “إعادة الاستيطان في غزة” بحضور وزراء في حكومة نتنياهو مثل بن غفير وماي غولان، وأعلنت تسجيل 700 عائلة للسكن في مستوطنات محتملة في غزة.
وأشار البيان الختامي للمؤتمر إلى أن البدء في بناء المستوطنات قد يحدث في غضون عام. واللافت أن منظمي المؤتمر من بينهم وزراء بالحكومة يدفعون باتجاه تنفيذ مخططهم رغم إبداء الجيش تحفظه تجاه إمكانية تنفيذه وكلفته.
الخلافات الداخلية
وسط هذا الزحام من الخطط الصهيونية المتخبطة، أصبح واضحا أن حكومة الاحتلال لا تمتلك رؤية لإنهاء الحرب وتحقيق الأهداف التي ألزمت نفسها بها، وأن السبب الرئيسي لاستمرار الحرب هو أن قادة الاحتلال لا يمتلكون تصورا حول تحقيق النصر خلالها، مكتفين فقط بالإمعان في أعمال التنكيل والإبادة الجماعية.
ومع كل يوم إضافي للحرب تناقصت مكتسباتها العسكرية باضطراد، بما يعني أن تكلفة مواصلة الحرب تفوق المنجزات العسكرية المتحققة على الأرض. ويوما بعد يوم، توسعت الهوة بين وعود القيادة الإسرائيلية ونتائج الحرب، وبدأ كبار السياسيين والقادة العسكريين في تبادل الاتهامات.
إعلان
فمن جهته، حمّل نتنياهو قيادة الجيش وأجهزة الاستخبارات المسؤولية عن الفشل في التصدي لهجوم 7 أكتوبر، وقال إن “كل وكالات الاستخبارات اعتبرت أن حركة حماس كانت تحت الردع إثر الحروب السابقة وتتجه نحو التسوية”.
وفي المقابل، صدم دانيال هاغاري المتحدث باسم جيش الاحتلال نتنياهو وحكومته بتصريح صاعق في 19 يونيو/حزيران 2024 قائلا إن “الكلام عن القضاء على حماس خداع للجمهور لأنّ حماس فكرة ولا يمكن تدمير الأفكار، وأنه طالما لم تجد الحكومة بديلا لها فستبقى في غزة”، ولذا سرعان ما رد وزير الاتصالات شلومو كارعي قائلا “إن تصريحات المتحدث باسم الجيش تشير إلى الروح القيادية المتراخية والضعيفة لرئيس الأركان ووزير الدفاع”.
لم تقتصر الخلافات على التراشقات الإعلامية فقد شملت تطورات عملية حملت رسائل سلبية وقت القتال، فعلى سبيل المثال انهار مجلس الحرب الذي تشكل من 5 أعضاء بعد طوفان الأقصى عقب انسحاب بيني غانتس وغادي أيزنكوت منه في 9 يونيو/حزيران 2024، ودعوتهما لإجراء انتخابات بأسرع وقت ممكن، واتهامهما لنتنياهو بعرقلة اتخاذ قرارات إستراتيجية مهمة لاعتبارات سياسية.
كما تصاعدت الخلافات بين نتنياهو وبين وزير الدفاع والجيش من جانب آخر على وقع تداعيات الحرب، فحينما صادق الكنيست على قانون تمديد إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية صوت وزير الدفاع غالانت إلى جانب المعارضة، وخالف حزب الليكود الذي ينتمي له، بحجة عدم العدالة في توزيع أعباء الحرب، وعيش الحريديم عالة على المجتمع، وهو ما تسبب في تفاقم الخلافات وصولا إلى قرار نتنياهو بإقالة وزير دفاعه غالانت في الأسبوع الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
بالإضافة إلى ذلك، وقعت العديد من الاستقالات وسط قادة الجيش وأجهزة الأمن على خلفية الإخفاق في التصدي لطوفان الأقصى، والخلاف مع إدارة الحكومة والجيش للحرب، ومن أبرز المستقيلين أهارون هاليفا رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، وأمير برعام نائب رئيس الأركان، وتامير يدعي قائد القوات البرية، ويوسي شاريئيل قائد وحدة التجسس 8200.
إعلان
وكانت المحصلة لكل ذلك هي ازدياد حجم التشققات في المجتمع الإسرائيلي مع طول أمد الحرب، وتضرر جنود الاحتياط من طول فترات خدمتهم، والانزعاج من رفض الحريديم للتجنيد في الجيش، واستمرار نزيف الخسائر البشرية، والإنهاك من صفارات الإنذار المتكررة بسبب القصف الصاروخي وبالطائرات المسيرة من لبنان واليمن.
الفصل الأخير
لقد ماطل نتنياهو طويلا في عقد صفقة لوقف الحرب، وطرح شروطا على المقاومة أقرب إلى الاستسلام، وراهن على أن الضغط العسكري المكثف وارتكاب المجازر في غزة سيحسن شروط الصفقة؛ وسيضمن تفكيك القدرات العسكرية لحماس فضلا عن إضعاف قدرتها على الحكم، فيما عمل جيش الاحتلال على تحويل قطاع غزة إلى منطقة غير قابلة للمعيشة، بهدف دفع السكان عند أول فرصة لمغادرته.
لكن في المقابل، صمدت حماس رغم ضخامة الثمن، ولم ترفع راية الاستسلام، وأعلنت أنها لن تقبل اقتراحات جديدة من إسرائيل، وأنها تطالب بتنفيذ الاتفاق السابق الموافقة من الطرفين عليه منتصف عام 2024 استنادا إلى رؤية بايدن وقرار مجلس الأمن، دون قبول تعديلات كتلك التي تشترط بقاء الاحتلال في محوري فيلادلفيا ونتساريم، وتفتيش العائدين إلى شمال القطاع من السكان.
ونجحت المقاومة بتوليد قناعة لدى الأطراف كافة بما فيها واشنطن باستحالة القضاء على المقاومة عسكريا، وهو ما أقرّ به وزير الخارجية الأميركي بلينكن قائلا إن حماس جندت خلال الحرب مقاتلين أكثر ممن فقدتهم.
تشير قدرة حماس وفصائل المقاومة على الاحتفاظ بأكثر من 90 أسيرا (يُعتقد أن بعضهم قتلوا بسبب القصف الإسرائيلي) رغم تلك الحرب الطاحنة، وتنفيذ هجمات يوميا على جيش الاحتلال في أنحاء غزة، واستمرار التواصل بين القيادة السياسية في الخارج والقيادة العسكرية في الداخل، إلى أن أهداف الاحتلال المعلنة لم تتحقق، وأن بنية المقاومة ما زالت موجودة وفاعلة، وأن منظومة القيادة والسيطرة تعمل ولم تتفكك، وذلك يعني فشل نتنياهو في تحقيق أحد الأهداف الرئيسية الكبيرة للحرب، ومن نافلة القول الإشارة إلى أن الهدف الكبير الآخر وهو استعادة الأسرى لم يتحقق أيضا.
إعلان
تقاطع هذا الصمود الكبير لحماس في مواجهة التعنت الشديد لنتنياهو مع قرب وصول إدارة ترامب للبيت الأبيض في 20 يناير/كانون الثاني 2025، حيث تشكلت قناعة في واشنطن بأن نتنياهو يطيل أمد الحرب لتحقيق أهدافه السياسية الخاصة، وهو ما تقاطع مع رغبة ترامب في إنهاء الحرب بالشرق الأوسط للتفرغ لملفات أخرى ذات أولوية لديه، ولتجنب توريط أميركا في حرب لا مصلحة لها فيها، فضلا عن رغبة ترامب في تعزيز مسار التطبيع العربي مع إسرائيل بضم دول أخرى لاتفاقية أبراهام، وهو ما لا يمكن تنفيذه مع استمرار الحرب.
لقد أثبتت عملية طوفان الأقصى استحالة تحقيق إسرائيل للأمن مع استمرار انتهاكاتها للفلسطينيين واحتلالها لأراضيهم، كما أعادت طرح ملف الاحتلال الإسرائيلي على الأجندة السياسة العالمية، وأحدثت زلزالا جيوسياسيا بالمنطقة، ظهرت أولى تداعياته في لبنان وسوريا، ووضعت إسرائيل تحت مطرقة الحصار الدولي رغم مظلة الحماية الأميركية، حيث أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه غالانت، في حين اعترفت النرويج وإسبانيا وأيرلندا بالدولة الفلسطينية.
ومع هدوء غبار المعركة، ستصبح المسيرة السياسية لنتنياهو في خطر، إذ ستتشكل لجان تحقيق لتحديد أوجه القصور ومحاسبة المسؤولين عنها، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء الذي أشغل الرأي العام الإسرائيلي بتعديلاته القانونية التي أحدثت شرخًا مجتمعيا وأضعفت الاحتلال أمام خصومه، في وقت تتعالى فيه الأصوات في إسرائيل بأن الصفقة الأخيرة هي ذاتها التي عرقلها نتنياهو في منتصف عام 2024، وها هو ذا يقبل بها بعد أن دفعت إسرائيل ثمنا أكبر، وخاضت شهورا إضافية من القتال بلا طائل.
لا شك أن حرب الإبادة الإسرائيلية أحدثت دمارا هائلا في غزة بشريا وماديا، وتركت ندوبا غائرة تحتاج زمنا طويلا للتعافي، لكن الحقيقة الأكيدة أنها فشلت في تحقيق أهدافها، والأهم أنها لم تكفل الأمن لإسرائيل. لقد خرجت دولة الاحتلال من الحرب أكثر توحشا، لكنها في الوقت نفسه أكثر ضعفا وهشاشة، والأهم أن تداعيات هذه “الهزيمة الإستراتيجية” لإسرائيل لا تزال في بدايتها، وربما يتطلب الأمر سنوات قبل أن يدرك الإسرائيليون حقيقة ما فعله نتنياهو بدولتهم حين أوهمهم أن بإمكانه تحقيق الأمن من خلال تدمير غزة وإبادة شعبها.
إعلان