Login النشرة البريدية

قال الرئيس التونسي قيس سعيد مؤخرًا في كلمة في اجتماع مجلس الوزراء ” هناك تحديات كثيرة سنرفعها بإذن الله تعالى، وأهم سدّ لمواجهة كل أشكال التحديات في ظل هذه الأوضاع المتسارعة وغير المسبوقة التي يشهدها العالم اليوم، هو وحدة وطنية صمّاء تتكسر على جدرانها كل المحاولات اليائسة لضرب الاستقرار”.

السياقات الوطنية

جاءت هذه الكلمة بعد ثلاثة أشهر من بداية العهدة الرئاسية الثانية لقيس سعيد (6 أكتوبر/ تشرين الأول 2024)، وفي سياق تونسي عنوانه الأبرز الأزمة المضاعفة التي فاضت على كل مفاصل وفضاءات الحياة العامة في تونس. يمكن تبيّن حقيقة الحالة التونسية من خلال المؤشرات الأساسية التالية:

أولًا: من الناحية المالية والاجتماعية

1- تواصل الاختلال الهيكلي للمالية العمومية، مع ميزانية عامة لسنة 2025 غير متوازنة مع تواصل الخلل عنوانه الأول ارتفاع حجم المصاريف (78.2 مليار دينار، أي 25.2 مليار دولار)، بزيادة قدرها 3.3% عن 2024، وبعجز قيمته 1 مليار دينار (3.2 مليارات دولار).

أما عنوانه الثاني، فهو محدودية الموارد الذاتية للدولة 63.9% التي لا تزيد عن 36%، بما قيمته (50028 مليار دينار)، أغلبها متأتٍ من الجباية (45249 مليار دينار)، حيث تتجه الحكومة إلى الترفيع في الضرائب على الموظفين أصحاب الدخل المتوسط والعالي، وعلى الشركات مقابل تخفيضها على أصحاب الدخل الضعيف.

أما ما تبقى منها وقيمته (28203 مليارات دينار)، فإنها متأتية من الاقتراض في حدود (28003)، منها (6131 مليار دينار) اقتراض خارجي، و(2872) اقتراض داخلي من البنوك المحلية، مقابل (21 مليار دينار سنة 2024)، ومن البنك المركزي بقيمة 7 مليارات دينار، ما قيمته 2.22 مليار دولار، يوجّه أغلبها لتمويل النفقات الاستهلاكية، أي دعم الميزانية، وليس لتمويل نفقات التنمية، ومنها خاصة تمويل المشاريع الكبرى، رغم ما يتبع الاقتراض الداخلي من تقليص فرص النمو، وإرهاق البنوك المحلية واستنزاف مواردها في تمويل ميزانية الدولة، بدل توجيه هذه السيولة لتمويل القطاع الخاص، وبالتالي دفع النمو الاقتصادي.

من جهة أخرى، لم تُدرِج ميزانية 2025 المشاريع الكبرى التي تنوي الحكومة القيام بها، ولا مصادر تمويلها في إطار سياسة الحكومة مواصلة الضغط على نفقات التنمية الخاصة بالمشاريع الكبرى؛ بسبب عجزها عن توفير السيولة المالية (الخارجية) اللازمة لتغطية نفقات الميزانية.
ويرى خبراء اقتصاديون أن نسبة النمو المتوقعة لسنة 2025، ستكون في حدود 1.6% حسب توقعات صندوق النقد الدولي، وليست 3% التي أعلنت عنها وزارة المالية التونسية. كما يتوقع تقرير أممي أن تبلغ نسبة التضخم حوالي 6.9% في 2025، مقابل حوالي 7.2 في المئة في 2024.

لا تزال تونس تعاني أزمة اقتصادية نتيجة سنوات صعبة من الجفاف أثرت على المنتجات الزراعية، وتبعات تضخمية تسببت بها الحرب الروسية الأوكرانية، وجائحة كورونا قبلها. كما لا تزال تونس تشهد منذ أكثر من ثلاث سنوات شحًّا في العديد من المواد والسلع الأساسية دفع التونسيين إلى الوقوف في طوابير طويلة أمام المخابز ومحلات بيع المواد الغذائية، وآخرها طوابير البحث عن قوارير الغاز المنزلي المفقود من الأسواق.

2- تدهور متواصل للقدرة الشرائية للمواطن، وخاصة الفئات الضعيفة؛ نتيجة الارتفاع المشطّ والمتواصل في أسعار المواد الأساسية، وخاصة الغذائية، وارتفاع نسبة التضخم ممّا يساهم بالضرورة في ارتفاع نسبة الفقر في تونس، حسب توقعات البنك الدولي بـ 2.2% (سنة 2022) عن النسبة العامة التي أعلنها معهد الإحصاء التونسي سنة 2021، وهي 16.6%.
وبصرف النظر عن النسب، فإن المشهد العام لحياة التونسيين، وخاصة ضعاف الحال في الأحياء والمدن المهمشة مليء بمظاهر الفقر والخصاصة التي وصلت حدّ البحث في القمامة عن بعض الفضلات لسدّ الجوع. تتوسع معدلات الفقر في تونس نتيجة عوامل عديدة، ولم تنجح محاولات الحكومة في وقفها بالتحويلات الاجتماعية التي لا تزال ضعيفة ودون المطلوب.

3- تواصل ارتفاع نسبة البطالة إلى حدود 16.2%، وتواصل وقف الانتدابات في الوظيفة العمومية رغم تشجيع الحكومة على التقاعد المبكر دون تعويض للمتقاعدين. يضاف إلى ذلك الصعوبات الكبرى الإدارية والمالية، وخاصة منها اشتراطات التمويل الذاتي التي يواجهها الشباب الذين اختاروا المبادرة الخاصة، إضافة إلى تواصل عدم وجود منظومة الدفع الإلكتروني العالمية PAYPAL، أو غيرها من المنظومات الأخرى التي يحتاجها المستثمرون الشبان؛ لبعث مشاريعهم، وخاصة منها الموجهة إلى الخارج.

4- تواصل تراجع خدمات المرفق العمومي، في كل المجالات الحيوية لحياة المواطن، مثل الصحة والنقل والتعليم والخدمات بشكل عام زاد في معاناة المواطنين وتدني مستوى عيشهم.

في العموم، تزداد حدة الأزمة المالية والاقتصادية ويتعاظم منسوب القلق الاجتماعي أمام ضعف المنجز الاقتصادي والاجتماعي؛ نتيجة عجز الدولة عن إيجاد الحلول لوقف النزيف وإنقاذ الاقتصاد، ووضع حد لمعاناة التونسيين.

يتواصل التدحرج نحو الأسوأ أمام أعين سلطة عاجزة عن فعل أي شيء، رغم الصلاحيات “الفرعونية” التي تكدّست بين يدي الرئيس قيس سعيد. وفي محاولة للتغطية على عجزها، تواصل السلطة الترويج لشعارات لا أساس لها في الواقع ولا قدرة لها على الإيفاء بها من نوع حرب التحرير الوطني، والبناء التشييد، ومحاربة الفساد، وتطهيرها من الخونة والمتآمرين عملاء الاستعمار ووكلاء الصهيونية.

ثانيًا: من الناحية السياسية والحقوقية

لا يجد المتابع للشأن التونسي، أي عناء في الوقوف على حقيقة الأزمة السياسية والحقوقية الحادة التي تردّت إليها تونس منذ 25 يوليو/تموز 2021، تاريخ انقلاب قيس سعيد على التجربة الديمقراطية، وبداية تصفية مؤسساتها وإرثها واستبدالها بنظام سياسي محوره رئيس الجمهورية ومن حوله الفراغ.

برزت حدّة الأزمة السياسية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 2024 عندما اجتمعت فيها كلمة المعارضة وبعض من أحزاب موالاة قيس سعيد على إدانة التجاوزات والانتهاكات التي حفّت بالمسار والعملية الانتخابيين، جعلت الحدث الانتخابي فاقدًا لكل المعايير وأقرب إلى كونه بيعة للرئيس من طرف أقلية لم تتجاوز 28 % من الناخبين، وفي غياب أغلبية (72%) اختارت الانسحاب تعبيرًا عن عدم رضاها بأداء السلطة، وعدم اقتناعها بالعرض الذي قدّمته المعارضة.

انتظر الجميع من قيس سعيد في خطاب أداء القسم الإشارة إلى انسداد الحالة السياسية وتقديم عرض سياسي يفتح على حوار وطني جامع يسبقه تخفيف الأزمة على الأقل بإطلاق سراح سجناء الرأي من سياسيين وإعلاميين ومدوّنين عددهم بالآلاف أغلبهم بدون محاكمة، وفي ظروف سجنية صعبة للغاية يصفها البعض بأنها غير إنسانية.

على خلاف ذلك، أكّد سعيد تمسّكه بنهجه الذي أدار به عهدته الرئاسية الأولى، وبنفس خياراته ومقارباته في تدبير الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مؤكدًا أنه لا مجال للرجوع إلى الوراء، وأنه سيواصل ما بدأه بإعلانه الدخول في حرب تحرير وطني من الخونة والعملاء.

السياقات الإقليمية والدولية

في الأثناء، شهدت الساحة الإقليمية والدولية أحداثًا كبرى يتفق المحللون على أنها جزء من تداعيات طوفان الأقصى، وستتبعها أخرى. فقد تمّ توجيه ضربات قاصمة لمحور المقاومة ظهرت في استهداف القدرات العسكرية والقتالية لحزب الله، نتج عنه تحجيم دوره وتأثيره في معادلات الساحة اللبنانية، بما فتح المجال لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، بعد شغور دام أكثر من عامين، من خارج إرادة حزب الله، بل ربما على حسابه.

كما تمّ استهداف إيران بما أنهى وجودها وتأثيرها في سوريا بعد إسقاط نظام المخلوع بشار الأسد واستعادة الأغلبية السنية لمقاليد الحكم من خلال حكومة انتقالية لفصائل المعارضة السورية سابقًا. في نفس السياق، تراجعَ الحضور والدور الروسيان في سوريا بعد بسط السلطة الجديدة نفوذها على الجزء الأكبر من التراب السوري.

ويبقى الحدث الأبرز، وربما الأكثر تأثيرًا في المستقبل، وهو تواصل المقاومة الفلسطينية ونجاحها في اقتلاع اتفاق لوقف القتال تقريبًا بشروطها التي اشترطتها في مايو/ أيار 2024 ورفضتها سلطة الكيان المحتل لتقبل بها الآن.

أحداث كبرى حصلت في الفترة الأخيرة ليست بمعزل عن طوفان الأقصى: إسقاط نظام المخلوع بشار الأسد، ونهاية الدور الإيراني وتحجيم ذراعه اللبناني (حزب الله)، وانتصار المقاومة في غزة، يضاف إليها نجاح القوات النظامية في السودان في استعادة السيطرة على مدينة ود مدني من قوات الدعم السريع، وما يعنيه ذلك من تحولات هامة في الاقتصاد والعمل العسكري.

وحدة وطنية طاردة

سياقات وطنية متأزمة وتحولات هامة على مستوى الساحة الإقليمية والدولية كان من نتائجها المباشرة إطلاق ديناميكية للتغيير قد تتوسع جغرافيًا لتشمل العديد من المحاور والأنظمة والنزاعات.

ضمن هذه الراهنية الدقيقة، تحدّث قيس سعيد في مرة يتيمة لم يتبعها أي تفسير أو عمل، فقال: “هناك تحديات كثيرة سنرفعها بإذن الله تعالى، وأهم سدّ لمواجهة كل أشكال التحديات في ظل هذه الأوضاع المتسارعة وغير المسبوقة التي يشهدها العالم اليوم هو وحدة وطنية صماء تتكسر على جدرانها كل المحاولات اليائسة لضرب الاستقرار”.

اللافت للانتباه، أن كلام قيس سعيد مرّ وكأنه “ليس بحدث” نتيجة اقتصاره على الحاجة إلى وحدة وطنية دون الحديث عن آلية بنائها وأطرافها ومضمونها وشروطها ما جعل التفاعلات معها محدودة، أكّد فيها أصحابها أن الوحدة الوطنية تقوم وتتعزّز بحوار وطني جامع وشامل تشارك فيه الأجسام الوسيطة من أحزاب ومنظمات، يكون على مسارين اثنين متلازمين؛ الأول سياسي حقوقي، والثاني اقتصادي اجتماعي.

ومع ذلك، لا يبدو أن المعارضة تراهن على استعداد قيس سعيد الدخول في حوار وطني تتوفر فيه معايير التمثيلية الواسعة والشمولية في القضايا، تلتزم السلطة بمخرجاته في بناء حالة سياسية ديمقراطية وبيئة خالية من الاعتقالات والسجون.

يفيد المنطوق السياسي لقيس سعيد، كما سوابقه في التعاطي مع الدعوات لحوار وطني، بأن الرئيس لا يؤمن بالحوار ولم يسعَ إليه يومًا، وأنه سبق أن صرّح بأنه لا يرى حاجة للحوار بعد إجراء الانتخابات، وأنه لا يؤمن بالأجسام الوسيطة، ولا يرى لها دورًا لا في الحياة العامة، ولا في إدارة الشأن العام، كما يصرّ في كل مرّة على تصنيف التونسيين وتقسيمهم بين وطنيين وهم أنصاره، وخونةٍ متآمرين مع الخارج، وهم معارضوه بكل ألوانهم الفكرية والسياسية.

لا تتسع الفكرة السياسية لقيس سعيد لغير قناعاته الشخصية، كما لا تقبل التفاعل مع الأفكار الأخرى بل تزدريها وترذّلها إلى حدّ التبشيع. لا يرى قيس سعيد نفسه ناقصًا حتى تكمّله أفكار الآخرين، بل يرى نفسه مثل نبيّ في قومه، دوره أن يبلغهم أفكاره وقراراته ودورهم تنفيذها حتى وإن خالفت قناعاتهم.

ما يطلبه قيس سعيد من التونسيين الوطنيين الذين يشبهونه أن يجتمعوا حوله لبناء وحدة وطنية خالصة من الخونة لمواجهة المشاكل ورفع التحديات. الوحدة الوطنية التي يراها قيس سعيد هي وحدة طاردة لجزء كبير من التونسيين، وحدة لا يبنيها الحوار وإنما الاقصاء، وهي على نقيض الوحدة الجامعة لكل التونسيين التي تتحدث عنها المعارضة والتي تأتي ثمرة لحوار جامع وشامل.

جملة سياسية مبتورة

مرة أخرى، تبدو الجملة السياسية لقيس سعيد مبتورة ومنبتة عن واقعها وخارج سياقاتها الشيء الذي سيعمّق الأزمة التونسية أكثر ويوسّع في أبعادها ومداها. لا شيء يوحي في منطوق قيس سعيد وسلوكه السياسيين أنه يُحسن قراءة البيئة السياسية التونسية، ويدرك اتجاهات تطور الأحداث الإقليمية والدولية على أهميتها ويبني عليها ما يجعل تونس وحكمه يتقوّيان، بل كل شيء يؤكد أنه يسير عكس التيار في عزلة تكاد تكون تامة في الداخل والخارج.

وبقدر محدودية الجملة السياسية في استيعاب معطيات الواقع، تكون محدوديتها في حل مشكلات الراهن وفي بناء المستقبل. تونس اليوم ومنذ انقلاب 25 يوليو/تموز، ضحية قصور الرؤية ومحدودية الجملة السياسيتين لقيس سعيد، فلا يكاد يوجد باب للخروج من الأزمة إلا وسدّه، ولا يكاد ينشأ حراك سياسي ومدني إلا وأحبطه، ولا يكاد يعلو صوت يطالب بالتغيير إلا وكمّمه.

من فعل كل شيء لقتل السياسة لن يأتي منه حوار جامع وشامل وإن حصل لسبب أو لآخر، وهو أمر مستبعد بناء على خصوصيات سيكولوجية قيس سعيد ورؤيته للسياسة والحكم، فسيكون نقضًا كاملًا لكل السردية التي بنى عليها انقلابه ومشروعه السياسي الشخصي.

أخيرًا، من المهم التذكير بأن حكّامًا سبقوا قيس سعيد صمّوا آذانهم عن الأصوات المطالبة بالتغيير وأصروا على عدم الاعتراف بالرأي الآخر وحقه في المشاركة في إدارة الشأن العام ونكّلوا بدعاته ورموزه، كان مصيرهم نهاية ملكهم في لحظة كانوا يظنون فيها أنهم ماسكون بزمام الأمور، فالتغيير من خارج صندوق الانتخابات عادة ما يأتي بغتة ويكون أكثر ايلامًا للحكام.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version