التفت محللون إلى التأثير المباشر للحرب التي شنتها تل أبيب ضد قطاع غزة على الاقتصاد الإسرائيلي، من قبيل نقص الاحتياطي من النقد الأجنبي، ما أدى إلى عجز في الموازنة العامة، وانكماش النمو الاقتصادي، وارتفاع معدل التضخم، وخفض التصنيف الائتماني للدولة العبرية.
لكن كثيرين لم ينتبهوا إلى تأثير أعمق يتعلق بالدور الاقتصادي للجيش، الذي يتعدى مشروعاته المباشرة، إلى دوره في تأهيل الموارد البشرية للإسهام في اقتصاديات الدولة، عبر المشروعات الحكومية والمدنية الخاصة.
وهذا الأثر أبعد من أن تمحوه الإجراءات العاجلة التي ستتخذها الحكومة لإنعاش الاقتصاد من قبيل خفض الإنفاق، وزيادة الإيرادات خاصة من الضرائب، التي يتوقع أن تصل إلى 18% خلال عام 2025، وخفض الأموال الممنوحة للأحزاب السياسية التي تشكل الائتلاف الحاكم، وإلغاء وزارات حكومية غير ضرورية، ومكافحة السوق السوداء.
فالجيش الإسرائيلي يلعب، على مدار العقود الأخيرة، دورًا مهمًا في تأهيل المواطنين على ريادة الأعمال، بتعزيز قدرتهم على الابتكار والإبداع والمنافسة، فبعض القيم والممارسات التي تحكم التجنيد الإلزامي، وتدمج فيه جزءًا كبيرًا من المجتمع، باستثناء الحريديم وفلسطينيي 1948 والمسيحيين، مثل الارتجالية، وتجنب الآثار السلبية للهرمية الإدارية دون غياب التنظيم، وتعلم النقد والمجادلة والمساءلة، ثم الإسناد عبر””الصناديق التمويلية”، وتعليمهم كيفية التسويق.
وقد ساهمت هذه القيم والإجراءات في إنعاش الاقتصاد وفق ما تسمى “رأسمالية المجازفة” بالنسبة للمجندين، وانعكست كذلك على الدور الذي يمارسه الجنود غير الصالحين للقيام بالمهام القتالية، لأسباب صحية وغيرها، مثل الخدمة في أعمال مدنية لصالح الجمهور، كمساعدة المعلمين في المدارس الحكومية، والعمل في إذاعة الجيش.
إن الجيوش لديها ميل طبيعي إلى الانضباط على حساب المرونة، وهذا مختلف لدى الجيش الإسرائيلي. فحين “يفكر المرء في العقيدة العسكرية فإن ما يخطر على البال هو الهرمية الصارمة، والطاعة المطلقة للرؤساء، والإنصات جيدًا إلى أوامرهم، والامتثال لحقيقة ترى أن كل جندي مجرد مكون صغير، غير مطلع، ضمن منظومة شاملة.
بيد أن الجيش الإسرائيلي لا ينطبق عليه هذا الوصف. إنما هناك ثقافة ارتجالية مضادة للهرمية، شجعت الإسرائيليين على إيجاد شركاتهم الوليدة، وأصبحت لافتة إلى درجة أن هناك من يصفها بسحر التكنولوجيا الذي يكتسبه الإسرائيليون في وحدات النخبة العسكرية.
وجانب مهم من القيم الاقتصادية التي يضخها الجيش في أوصال المجتمع تعود إلى اللامركزية في اتخاذ القرار على المستوى الميداني التكتيكي، فهناك خطة عامة لكل الفرق والألوية والكتائب والسرايا والفصائل، لكن كل قائد ميداني ينفذها وفق الظروف التي يمر بها. مع سهولة انسياب الأوامر وتبادل التعليمات بين القيادات العليا والدنيا، بما يعزز الثقة بينهم.
وهناك صلاحيات واسعة لقادة مختلف التشكيلات بما فيها الدنيا. حيث يمكن لجندي صف بدرجة رقيب استدعاء سلاح الجو لتقديم مساعدة أو مساندة ميدانية له. وهذا يعلم، دون شك، الفرد في الجيش الإسرائيلي، مهما صغرت درجته أو رتبته، الثقة في اتخاذ القرار، وتوقع الاستجابة، ما ينعكس على أدائه بعد تسريحه من الخدمة العسكرية، وإقامته مشروعه الخاص.
وعلى وجه العموم، نجد أن هذا الدور الاقتصادي ـ الاجتماعي للجيش الإسرائيلي يقوم على ثلاثة اعتبارات أساسية، هي:
- إقامة مجتمع عسكري، لتعويض إسرائيل عن نقص القوة البشرية، الذي يحول دون تكوينها جيشًا عاملًا كبيرًا، وتعليم الجندي أن الهدف من خدمته ليس أكثر من الدفاع عن المجتمع، ما يعني إعداد مجتمع الاحتلال إعدادًا عسكريًا ظاهرًا، وجعل الجيش في نهاية المطاف، أداة أساسية في يد الدولة.
- تطوير السكان كقوة قومية واجتماعية تستطيع أن تتكفل بنفسها اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا وعسكريًا، وخلق تكتل قادر على زيادة طاقته البشرية والإنتاجية، ثم إخضاع كل الحياة في دولة الاحتلال لحاجات الحرب، ومن هنا كان على السكان والاقتصاد والسياسة أن تصبح جزءًا من إستراتيجية حرب طويلة المدى. لذا يتم دمج المجتمع كله في المجهود الحربي على اختلاف مكوناته من حيث التعليم والطبقة ومكان القدوم والآمال التي يعلقها على الدولة.
- مثَّل الجيش الإسرائيلي قاطرة التقدم التقني في المجتمع، وهذا يتماشى مع الوظيفة التي يريدها الغرب لإسرائيل كقوة رادعة، هي العليا إنفاقًا على التسلح في دول حوض البحر المتوسط، حيث زاد على مائتي مليار دولار في السنوات العشر بين 2010 و2020.
ولهذا الجيش ميزانية معلنة ضمن الموازنة العامة للدولة، يقرها الكنيست، وأخرى سرية تسمى “ميزانية التعاقدات”، لا يعلم أحد خارج الجيش عنها شيئًا، وهي مسألة قابلة للمراجعة بعد أن تضع الحرب على غزة أوزارها.
وقد عبّر شمعون بيريز رئيس وزراء إسرائيل السابق عن دور الجيش في تحديث المجتمع الإسرائيلي بقوله: “كل تكنولوجيا تصل إلى إسرائيل من أميركا، تجيء إلى الجيش، وفي ظرف خمس دقائق يغيرونها”.
فكل مدد جاء لإسرائيل المعسكرة، كان على القائمين بأمورها أن يستفيدوا من هذا المدد في تقوية الدولة، كي تحتفظ بقدر من استقلاليتها عن الغرب نفسه بمرور الوقت، أي لا تكون في كل حين رهينة لسياساته ومصالحه، إنما يكون ولاؤها الأساسي لمصلحتها هي، متعدية، على قدر الاستطاعة، دور الدولة الوظيفية.
بمرور الوقت بدأت ثقافة السوق القائمة على السيطرة الاقتصادية، تحل محل الحالة التقليدية لـ “المواطن ـ الجندي” المشدود إلى سيطرة سياسية. فقد خضع الجيش لتنافس السوق، وتم تسليع الخدمة العسكرية، وهذا معناه ببساطة انخفاض مستوى مشاركة المؤسسات السياسية في تشكيل قرار السلم والحرب، قياسًا إلى ما كانت عليه الحال في الماضي.
بات الجيش الإسرائيلي ذا توجه سوقي يقوم على التمييز بين التضحية بالمال مقابل التضحية بالجسد. ويتم هذا في جو تنافسي، يحكم فيه قانون السوق الممارسات العسكرية، ويجبر الجيش على تسويق خدماته، بما يسمح باختراقه إعلاميًا، وإقامة حوار مع الشعب؛ بغية الترويج لما ينتجه، وبالتالي يتحول الجنرالات إلى شخصيات عامة.
أصبحت آليات السوق هي الأكثر فاعلية والتي يمكنها تحدي تفوّق الفكر العسكري عن طريق تقييد المؤسسة ماديًا، لا سيما عندما تصبح كلفة الحرب مرتفعة نسبة إلى المكاسب السياسية والاقتصادية غير المباشرة.
هذا التوجه يجعل تكلفة الحرب تؤخذ في الحسبان حين تقرر الحكومة شنها، أو حين يطول أمد الحرب، فتزيد هذه التكلفة، وبذا يوجد الذين يبدون ضجرًا أو تبرمًا من هذا سواء كانوا عسكريين أم منخرطين في الحياة المدنية، لا سيما بعد الاضطرار إلى استدعاء عدد كبير من الاحتياطيين، والإبقاء عليهم طويلًا في ميدان المعركة.
وتأتي الحرب لتؤثر بشكل عميق على المعادلة القائمة بين الجيش والاقتصاد والمجتمع في إسرائيل. فمثلًا، أدت حرب 2006 إلى تسريع طريقة الإشراف المدني على الجيش، أي سيطرة السوق.
فنموذج الجندي الذي بواسطته كان المجتمع السياسي يشرف على الجيش عبر الشبكات الاجتماعية التي تخدم فيه، حل محله الجندي الواقع تحت سيطرة السوق، حيث المراقبة ذات التوجه التجاري لنشاطه، والناشئة من التغيير في تركيبته الاجتماعية، وتأثير الجو التنافسي على غرار السوق الذي يجبر الجيش على تسويق خدماته عن طريق السماح بالاختراق الإعلامي والحوار مع الشعب مباشرة، وتسليع الخدمة العسكرية كجزء من عملية الاحتراف.
وهنا يرى الجنرال جيورا إيلاند وهو من ترأس شعبة التخطيط في الجيش ومجلس الأمن القومي أن حرب 2006 شهدت انحرافًا عن “النموذج الريادي”، ووقعت في أربعة إخفاقات للجيش هي: سوء أداء الوحدات المقاتلة خصوصًا في البر، وضعف القيادة العليا، ورداءة عملية القيادة والسيطرة، وفشل القيم التقليدية التي اعتادها الجيش حيث كان من النادر تجاوز الأفكار المسبقة والمسلم بها، وامتلاك ذهنية منفتحة على أفكار جديدة.
وطغيان آليات السوق على الجيش الإسرائيلي في ظل تبادل المنافع، عبر تغذية مرتدة بين المجتمع والجيش، ساهم في جعل الاقتصاد أكثر حساسية للحالة التي يكون عليها الجيش، في السلم أو في الحرب، وفي الأخيرة ما إن كان ينتصر أو يتعثر أو ينهزم، وما إذا كان يشن حربًا خاطفة، أم تورط وتوعك في حرب طويلة.
وارتدت الحرب ضد غزة سلبًا على الاقتصاد الإسرائيلي من باب المشروعات الصغيرة، الأكثر هشاشة فيه، والتي كان وجودها أحد وجوه التعبير عن القيم الثقافية التي يصنعها التجنيد في المجتمع من حيث المبادرة والقدرة على اتخاذ القرار والابتكار، وفق تصور بعض الباحثين الاقتصاديين الغربيين. فمن بين 46 ألف شركة أغلقت أبوابها منذ اندلاع طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، هناك 35 ألف شركة صغيرة بنسبة تصل إلى 77%. ويتوقع وصول عدد الشركات المغلقة إلى 60 ألف شركة بنهاية عام 2024.
وتعرضت قطاعات اقتصادية مهمة لأضرار، مثل البناء والتشييد، وقطاع التجارة والسياحة، والزراعة وبعض الصناعات. وبلغت نسبة الضرر في قطاع البناء والتشييد نحو 27%، وقطاع الخدمات نحو 19%، فيما تضرر قطاع الصناعة والزراعة بحوالي 17%، وقطاع التجارة بنحو 12%.. أما صناعة التكنولوجيا الفائقة (هايتك) والتقنيات المتقدمة فبنحو 11%، وصناعة الأغذية والمشروبات بنحو 6%.
ويتوقع أن تتعمق الآثار السلبية على الاقتصاد الإسرائيلي مع تراجع نسبة المهاجرين الجدد، والذين كانوا على الدوام يشكلون مصدرًا رئيسيًا لحيوية الاقتصاد. وهذا التوقع يُبنى على خبرة سابقة تظهر أن الهجرة إلى إسرائيل تزيد وقت انتصار جيشها، وتتراجع وقت تعثره أو هزيمته. فمثلًا نجد أنه بين عامي 1972 و1973 هاجر إلى إسرائيل نحو مائة ألف شخص جديد، لكن العدد تراجع إلى أربعة عشر ألفًا عام 1974، واقترب من الصفر عام 1975.
ومع تراجع هجرة اليهود إلى إسرائيل، التي صنعت قوة دافعة في شرايين اقتصادها، هناك الآن هجرة عكسية، يقدرها البعض بأنها وصلت إلى نحو نصف مليون شخص منذ اندلاع “طوفان الأقصى”.
ويؤدي هذا إلى خلق عاملين ضاغطين على هذا الاقتصاد، أولهما: هجرة الأدمغة، حيث يفضل اليهود المتميزون، ومن بينهم الذين اكتسبوا مهارات تقنية فائقة من انخراطهم في الجيش، مغادرة البلاد، عائدين إلى بلدان أخرى لا يزالون يحملون جنسياتها، وجوازات سفرها.
والعامل الثاني يتمثل في ضعف قوة العمل، حيث يشارك النصف تقريبًا في الإنتاج، وكانت تل أبيب تعوض هذا من العمالة الفلسطينية القادمة من غزة والضفة الغربية والتي توقفت بسبب الحرب.
ما يزيد الطين بلة أن الاقتصاد الإسرائيلي بطبعه أكثر حساسية تجاه أي تهديدات أمنية تؤدي إلى عزوف المؤهلين في الذكاء والمهارات ورأس المال عن الاستثمار في الدولة العبرية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.