Login النشرة البريدية

سراييفو– ما الذي يحدث لمدينة تفقد أهلها بالإبادة الجماعية ثم تضع الحرب أوزارها؟ هل تعود الحياة لتدب في أوصالها، أم تنزوي بهدوء كأنها جرح عميق ذهب ألمه، لكنه لم يندمل؟

كانت سربرنيتسا، المدينة الواقعة في شمال شرق البوسنة والهرسك، في منتصف عام 1995 مسرحا لإحدى أفظع الجرائم في تاريخ أوروبا الحديث. شهدت المدينة، وفقا للسجلات الرسمية، مقتل أكثر من 8 آلاف شخص، في عملية تطهير عرقي منهجي جسّدت وحشية الإبادة الجماعية التي عادت لتطل بوجهها بعد الحرب العالمية الثانية.

ضباب سبرينيتسا

واليوم، بعد حلول السلام ومرور 3 عقود على تلك المجازر، تسير المدينة بخطى ثابتة نحو التلاشي. هذا المصير المأساوي وثّقه المؤلف والمخرج دافورين سيكوليتش في فيلمه الوثائقي “العائلة”، الذي عرض للمرة الأولى في قاعة ممتلئة عن آخرها بمهرجان الجزيرة بلقان السابع للأفلام الوثائقية في العاصمة البوسنية.

ومثل عديد من الأفلام المميزة في المهرجان السينمائي لم يستطع كاتب هذه السطور أن يجلس على كرسي في القاعة الكبيرة الممتلئة فافترش السلالم، محاولا ألا يفوته الجزء السفلي من شاشة السينما ليقرأ الترجمة الإنجليزية، رغم أن تعبيرات وجوه أفراد العائلة تروي بذاتها الكثير، وأخبرني حمزة وهو أحد الشباب البوسنيين المتطوعين لتنظيم المهرجان أنه توقع امتلاء القاعة في هذا العرض، “فالناس هنا يحبون النوستالجيا ولا يملون القصص القديمة أبدا، رغم أني شخصيا أعتقد أن زمن الإبادة قد ولى بلا رجعة”.

بطلا الفيلم هما نرميانا البوشناقية وزوجها مارينكو الصربي، وهما زوجان عاشا معا 39 عاما. بعد انتهاء الحرب، قررا العودة إلى سربرنيتسا في محاولة لإحياء حياتهما كما كانت قبل النزاع، والسعي لتربية أبنائهما الخمسة الذين غادروا المدينة واحدا تلو الآخر، بل إن بعضهم غادر البلاد بأكملها.

من خلال الألبومات العائلية واللقطات الشخصية والأرشيفية، وكذلك الحوارات مع الأبناء والأصدقاء، يرسم الفيلم صورة مزدوجة للحنين والألم. يتطلع الزوجان إلى استعادة ماضي المدينة المزدهر، حين كانت مليئة بالحياة والنشاط الاقتصادي. لكن الواقع المفجع هو مدينة مهجورة، وأشباح الماضي تطارد كل زاوية فيها، حتى إن أبسط الاحتياجات تتطلب السفر إلى القرى المجاورة.

نهج مختلف

يتحدث دافورين سيكوليتش عن الدافع وراء الفيلم، موضحا أن مسيرته الصحفية التي تمتد لأكثر من 13 عاما جعلت قصة والديه دائما مثيرة للاهتمام بالنسبة له، لكنه احتاج وقتا طويلا لتحويلها إلى فيلم وثائقي.

“رغم إدراكي أن قصة والديّ كانت تستحق السرد، فإنها بقيت مجرد فكرة. ربما لأنهما والديّ، شعرت بصعوبة في الاقتراب منها كموضوع عمل. أردت أن يكون هذا الفيلم ذكرى لنا نحن الأبناء، لكنه تطور ليصبح شيئا أكبر”

الفكرة ظلت تتخمر في ذهنه على مدار سنوات دون أن تتحول إلى خطوات عملية حتى قبل عامين. خلال مشاركته في تدريب لصناعة الأفلام الوثائقية باستخدام الهواتف الذكية، طُلب منه كتابة ملخص لفيلم يرغب في تنفيذه.

ويتابع سيكوليتش “نظرا لانشغالي الشديد، استرجعت فكرة كنت أفكر فيها مسبقا – فيلما عن عائلتي. أرسلت الملخص، ونال إعجاب نيرا كوزاريتش (منتجة المهرجان) وسياد كريشيفلاكوفيتش (عضو لجنة البرنامج). دعوني للاجتماع، وسألوني إذا كنت أرغب في تحويل الفكرة إلى فيلم. كان دعم شركتي الأم كليكس (Klix) والجزيرة بلقان كمنتج مشارك خطوة حاسمة في تحقيق المشروع”.

على الرغم من أن الفيلم يُعد عمليا مشروعا عائلياـ إذ إن “أبطاله ونجومه” نرميانا ومارينكو، فإن دافورين سيكوليتش يوضح أن والديه لم يكن لديهما علم بتفاصيل ما يجري داخل الفيلم.

بطلا الفيلم نرميانا البوشناقية وزوجها مارينكو الصربي يودعان ابنهما المغادر (لقطة من الفيلم)

يقول سيكوليتش للجزيرة بلقان “كانا يعلمان أنه فيلم عن العائلة، لكنهما لم يشاهدا أي جزء من الفيلم بعد. الشخص الوحيد من العائلة الذي شارك في تطوير الفيلم هي أختي تاتيانا، التي كتبت سيناريو الفيلم ومن منظورها رويت القصة كاملة عن عائلتنا. حتى هذه التفاصيل لم يعرفها والداي، لأن فكرتي كانت أنه بهذه الطريقة فقط يمكن الحفاظ على أصالة القصة التي أردت أن أحكيها. سيشاهدان الفيلم لأول مرة في العرض الأول، مثل الجميع، وبعدها سنرى إن كانا راضيين أم لا”.

عند الحديث عن سربرنيتسا، عادة ما تُروى القصص عن أحداث صيف 1995 أو تُعرض في سياق مسيرة السلام السنوية، التي تجمع الآلاف لتكريم الضحايا وحفظ ذكراهم عبر مسيرة تستمر 3 أيام.

المخرج تبنى نهجا مختلفا؛ فقد أراد توضيح كيف تبدو المدينة في باقي أيام السنة عندما يغادر المشاركون في مسيرة السلام، ويعود الصمت ليغلف المكان ولا يؤنس ليالي الشتاء الطويلة زوار المدينة

لكن سيكوليتش تبنى نهجا مختلفا؛ فقد أراد توضيح كيف تبدو المدينة في باقي أيام السنة عندما يغادر المشاركون في مسيرة السلام، ويعود الصمت ليغلف المكان ولا يؤنس ليالي الشتاء الطويلة زوار المدينة.

يوضح المخرج “هدفي من الفيلم كان تقديم قصة مدينة تختفي، من خلال قصة عائلة واحدة. كيف كانت المدينة والعائلة تعيشان قبل الحرب، وكيف تعيشان اليوم مع التحديات التي تواجههما. لم أرد التركيز على الحرب أو القصص التي سُردت مرارا، بل أردت أن أروي القصة غير المروية– الحياة اليومية في سربرنيتسا اليوم، حيث يضطر السكان للسفر إلى القرى المجاورة للحصول على أبسط الضروريات”.

“هدفي من الفيلم كان تقديم قصة مدينة تختفي، من خلال قصة عائلة واحدة. كيف كانت المدينة والعائلة تعيشان قبل الحرب، وكيف تعيشان اليوم مع التحديات التي تواجههما. لم أرد التركيز على الحرب أو القصص التي سُردت مرارا، بل أردت أن أروي القصة غير المروية– الحياة اليومية في سربرنيتسا اليوم، حيث يضطر السكان للسفر إلى القرى المجاورة للحصول على أبسط الضروريات” المخرج

سيكوليتش: كان العمل على هذا المشروع رحلة عاطفية وتحديا شخصيا في الوقت نفسه (لقطة من الفيلم)

يعكس الفيلم الواقع الأوسع في البوسنة والهرسك، حيث تعاني المدن الصغيرة من الهجرة الجماعية للشباب. يُبرز الفيلم هذا التحدي من خلال قصة الأخ الأصغر في عائلة سيكوليتش، الذي غادر المدينة والبلاد أيضا، وككثيرين يلقي باللوم على السياسيين والنظام السياسي البائس الذي يحمله المسؤولية عن هذا الوضع.

يقول سيكوليتش “الحقيقة أن جميع المدن الصغيرة في البوسنة والهرسك تواجه المصير نفسه. يغادر الشباب بلا تردد، وأعتقد أن السياسيين ليست لديهم أي مصالح سوى تحقيق مكاسب شخصية. لا يترددون في فعل أي شيء لتحقيق أهدافهم. لذلك، رسالة الفيلم ليست أن المدن الأخرى ستعيش مصير سربرنيتسا ما بعد الحرب؛ لأنها تعيش هذا المصير بالفعل يوميا. أردت أن أسجل كيف استطاع السياسيون، بسبب مصالحهم الخاصة، تدمير مدينة جميلة أخرى بتاريخ غني وتحطيم عائلة أخرى، وما زالوا مستمرين في ذلك”.

أما العمل على الفيلم نفسه، فيقول سيكوليتش إن هذا كان أصعب مشروع عمل عليه حتى الآن، ويتابع: “كنت أعمل على معظم التفاصيل بنفسي: الإخراج، والتصوير، وتسجيل الصوت، وكل شيء آخر. لم يكن ذلك سهلا، لكنه كان الطريقة الوحيدة للحفاظ على أصالة القصة. استمر التصوير لمدة عامين، وكانت المهمة الأكثر صعوبة هي إقناع والدتي بالمشاركة في التصوير. لذا، تولت شقيقتي المفاوضات لتليين موقفها، وفي النهاية وافقت”.

استغرق الأمر وقتا طويلا لجعل عائلته تعتاد على وجود الكاميرا وتتصرف بطبيعتها.

ويضيف المخرج البوسني “كنت أصور لساعات طويلة، أحيانا بكاميرا مطفأة، حتى يصلوا إلى مرحلة يتجاهلون فيها الكاميرا تماما. منذ البداية، كنت أعلم ما أريد تحقيقه، وأعتقد أن معرفتي بهم كانت ميزة كبيرة. لو كنت قد عملت مع فريق كامل، لما احتوى الفيلم على المشاعر نفسها، ولذهبت القصة في اتجاه مختلف”.

كان العمل على هذا المشروع رحلة عاطفية وتحديا شخصيا في الوقت نفسه.

“مشاعر مختلفة غمرتني في أثناء العمل؛ من مشاهدة أشرطة فيديو لم أكن أعلم بوجودها، أظهرتني طفلا قبل 30 عاما، إلى وفاة جدتي فاطمة خلال التصوير، بالإضافة إلى مغادرة أخي الأصغر البلاد”

يوضح أن الفيلم لم يكن مجرد مشروع فني، بل كان انعكاسا شخصيا لتجارب وأحداث مؤثرة، وهو ما حاول نقله من خلال أدق التفاصيل في العمل. يقول: “من يشاهد بعناية، سيلاحظ ذلك”.

كان التحدي الأكبر هو اختيار اللحظات والجوانب التي ستظهر في الفيلم من بين المواد الكثيرة المتوفرة، مع ضرورة أن تعكس هذه الجوانب القصة التي تخيلها.

ربما لم يكن والدا سيكوليتش ليقبلا أن يصنع أي شخص آخر، بخلاف ابنهما، فيلما عنهما. لكنه واجه صعوبة في إقناعهما بالموافقة. فلعبت شقيقته دورا محوريا في هذا السياق (الجزيرة)

يضيف سيكوليتش أن فتح الجروح القديمة وكشف خصوصيات العائلة لم يكن بالأمر السهل، سواء عليه بوصفه مؤلفا أو على أفراد أسرته كونهم أبطال الفيلم.

“ربما لم يكن والداي ليوافقا على أن يصنع أي شخص آخر فيلما عنهما، وحتى بهذه الطريقة كان الأمر صعبا عليهما. حتى شقيقتي كان عليها التفاوض معهما لإقناعهما بالمشاركة في المشروع”.

العائلة والمدينة

رغم تركيز الفيلم على عائلة سيكوليتش، فإن المخرج يؤكد أن الهدف الأسمى كان إيصال رسالة أوسع:

“أردت أن يفهم الجمهور كم كانت سربرنيتسا مليئة بالحياة قبل الحرب، وكيف كان الناس يتواصلون بشكل جميل بغض النظر عن الدين أو القومية. كل ذلك اختفى، وبات يبدو كأنه حلم سيئ كان يمكن تجنبه لو استيقظنا قليلا قبل فوات الأوان”.

كما يقول دافورين سيكوليتش، ربما لم يوافق والداه على أن يقوم شخص آخر، غير ابنهما، بعمل الفيلم عنهما، وحتى بهذه الطريقة كان من الصعب عليهما الموافقة. وحتى أخته كان عليها أن تتفاوض معهما وتقنعهما بأن يكونا جزءا من هذا المشروع.

رغم أن عائلة سيكوليتش في طليعة الفيلم، فإن المؤلف يشير إلى أنه يرغب في “أن يتمكن الجمهور من فهم كم كانت مدينة سربرنيتسا مليئة بالحياة قبل الحرب المؤسفة، وكيف كان الناس يعيشون ويتواصلون بشكل جميل بغض النظر عن الدين والقومية، وكيف اختفى كل ذلك وأن كل شيء يبدو حلما سيئا كان يمكن تجنبه لو استيقظنا فقط قليلا أبكر”.

عندما يتعلق الأمر بالمستقبل، لا توجد حاليا خطط محددة لمشاريع سيكوليتش القادمة، على الرغم من أن بعض الأفكار تتردد في ذهنه بشكل مستمر؛ “كان هذا مشروعا صعبا للغاية وموضوعا جادا جدا يجب معالجته، لذلك أعتقد أنني سأترك كل شيء ليستقر قليلا وسأمنح نفسي بعض الوقت لتحليل كل ما تم إنجازه قبل أن أقبل بأي مشروع مشابه” يقول سيكوليتش.

يختتم الفيلم بأغنية، طلبت مساعدة مدير المهرجان في استخراج كلماتها وترجمتها، وتقول كلماتها:

هيه، هيه يا سريبرينيتسا، الحزن هنا شديد يا حزني
لم أعد موجودا فيكِ منذ وقت طويل

عندما أفكر فيكِ، أشعر وكأنني أطير في السماء

لا نهاية لسعادتي عندما أسمع اسمكِ
هل الأمور كما كانت من قبل؟ وهل يحبكِ الآخرون كما أحبك أنا؟
أفكاري تطير نحوكِ، يا له من مصير ثقيل

 

هيه، هيه يا سريبرينيتسا، الحزن هنا شديد يا حزني
لم أعد موجودا فيكِ منذ وقت طويل

الليالي ثقيلة جدا، والصباحات أكثر حزنا

الذكريات تأتي إليّ من تلقاء نفسها دائما بعد الفجر
هل تزينكِ نفس الشوارع، ونفس الأصدقاء، ونفس الفتيات؟
أي أغاني يغنون الآن؟ وبماذا يفرحون؟

شاركها.
Exit mobile version