Login النشرة البريدية

بعد مرور قرن على حفل الأولمبياد الذي نُظم في باريس عام 1924، شهد حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية في العاصمة الفرنسية في 2024 ابتكارات واضحة، أكثرها إثارة للإعجاب أنها لم تبقَ محصورة في مساحة محدودة من ملعب، بل امتدّت على طول نهر يعبر العاصمة، وهي مبادرة جديرة بالثّناء لم ينجح الطقس الممطر في تعطيلِها.

لكن هذا الحفل خُصص لموضوع آخر كانت طموحاته أقل نبلًا وأكثر غموضًا، وتستحق أن يتم فكّ رموزها. وللقيام بذلك، يجب أن نفهم المناخ السياسي الذي يسود فرنسا حاليًا، والإستراتيجية الانتخابية الخاصة جدًا التي يتبنّاها رئيسها للبقاء في السلطة.

لقد طلب الرئيس إيمانويل ماكرون من مصمم الرقصات توماس جولي تصميم عرض يروج لتنوع النسيج الوطني الفرنسي، ورغم أن هذا توجه يفترض أن يكون جديرًا بالثناء فإن طريقة تنفيذه كانت محلًا لكثير من النقد، حيث لاحظ عديد من المعلقين أنه تم ترجمة هذا التنوع بطريقة انتقائية للغاية.

لم يتغير شيء فيما يتعلق بتمثيل “الآخر الإسلامي” في الحفل، رغم أنّ هؤلاء هم الهدف الأول لحملات التعبئة التي يقودها تيار أقصى اليمين المعادي للأجانب. جاء التمثيل انتقائيًا كعادته؛ فقد كان وجود نجم كرة القدم زين الدين زيدان، والممثل الكوميدي جمال دبوز – وكلاهما من أصل شمال أفريقي – بمثابة تذكير أن “العرب الذين يسجلون الأهداف” – بالمعنى الحرفي والمجازي للكلمة – هم من يتم الاحتفاء بهم، تمامًا مثل المغنيات اللاتي يرتدين التنانير القصيرة من أفريقيا، وأبطال غوادلوب.. هؤلاء كلهم جزء لا يتجزأ من الأمّة.

وفي المقابل غاب عن الفعالية نجوم آخرون من المسلمين – مثل كريم بنزيمة، أو مغنية الراب السابقة (التي اعتنقت الإسلام) ديامز – وهم أولئك الذين رفضوا السكوت عن انتمائهم الديني أو حقوقهم المشروعة كالدفاع عن الضحايا الفلسطينيين على وجه الخصوص. ظلّ هؤلاء محرومين تمامًا، ومثلهم بقيت الرياضيات المسلمات اللائي يرتدين الحجاب – مثل نظيراتهنّ من الدول الأخرى – غائبات تمامًا عن هذا التمثيل “الشامل” المزعوم للأمّة.

ولم يُسمح أيضًا لأي من أعلام الدين الإسلامي بالجلوس على طاولة “الشمولية الفرنسية” في ذلك الحفل الذي عُهد بالإشراف عليه إلى نائبة حاكم فرنسية – إسرائيلية – كانت رئيسة لمنظمة مثيرة للجدل أسسها الحزب الاشتراكي تدعى “نداء من أجل العنصرية”، ويسخر البعض منها بأنها قامت لتحمي العنصرية لا لتواجهها.

“نائبة الحاكم المشار إليها هي سيندي ليوني، والمنظمة المشار إليها SOS Racisme كانت قد تشكلت في الثمانينيات بدعم الحزب الاشتراكي الحاكم وقتئذ، وقيل إن هدفها هو سحب البساط من تحت أقدام حركة مكافحة العنصرية التي كانت قد بدأت بالظهور، حيث استبعدت القيادات التقليديين لتلك الحركة وسعت لتصدر المشهد”.

الموضوع الرئيسي الثاني للحفل يرتبط بالمثلية الجنسية، حيث عبر عن مظاهر دمج مجتمع المثليين بعدوانية كانت صادمة للمؤمنين من جميع العقائد، حيث أعيد تجسيد ما اعتبره عديد من المتفرجين – صوابًا أو خطأ – أنه مشهد العشاء الأخير بين المسيح وحوارييه في العقيدة المسيحية، بطريقة ساخرة تضم أعدادًا من المثليين وبمشاركة طفل قاصر.

ولإلقاء الضوء على التكتيكات وراء الكواليس لهذا المشروع الذي كان من الواضح أن رئيس الدولة كان متورطًا فيه بشكل شخصي للغاية، يجب علينا أن نراجع بإيجاز إستراتيجيته الانتخابية وشخصيته.

فإذا كان هذا الحفل، كما كتب موقع ميديابارت، صُمم ليكون بمثابة “ازدراء كبير لأقصى اليمين”، فالمفارقة أن من يحاول القيام بذلك هو نفسه من دعم وصنع التشدد العنصري وكراهية الأجانب الذي يغذي أقصى اليمين!

اتسمت “الماكرونية” منذ ظهورها بهذا الطموح الوهمي للمصالحة بين الأضداد؛ اليمين واليسار، الأغنياء والفقراء، مغازلة الأسواق المالية وتحقيق الإنسانية الاجتماعية، والمحافظة الدينية والثورة الجنسية. لكن منذ خطابه الكارثي في منطقة “لي مورو” (شمال فرنسا) في سبتمبر/أيلول 2019 أصبح من الواضح أن هذا “الانفتاح” له حدود لا يمكن تجاوزها: في العلاقة المركزية للجمهورية الفرنسية بمواطنيها المسلمين، وهي أساس التوتر العنصري لدى أقصى اليمين، الذي اختار ماكرون معسكره بالفعل.

تحت راية “الجبهة الجمهورية” (الاتحاد المقدس ضد أقصى اليمين) التي أنشئت عام 2017، حشد ماكرون أصوات الناخبين من اليسار لانتخابه، ثم لإعادة انتخابه لدورة ثانية، لكنه لم يفعل شيئًا على الإطلاق لمواجهة التعبئة اليمينية المتطرفة – بل العكس هو ما حصل – حيث تم نبذ 90% من المسلمين في فرنسا الذين كان من المفترض أن يحميهم وفاء لمبادئ ناخبيه من اليسار “الذين يدعمون العدالة الاجتماعية وحقوق الأقليات”.

ولذلك، فإن الساحة “الثانوية” الوحيدة للقضايا المجتمعية، وخاصة كل ما يتعلق بالمثلية الجنسية والجنس، هي ما بقي لماكرون، إذا أراد الحفاظ على جزء من مصداقيته اليسارية.

حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024، بالشكل المثير للجدل الذي ظهر به، يمثّل محاولة ماكرون، الداعم والشريك للعنصريين المتطرفين، استعادةَ عذريته كـ “معارض لأقصى اليمين”، في معركة أراد قطفَ ثمار فوائدها الانتخابيّة دون أن تكون لديه شجاعة لخوضِها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version