Login النشرة البريدية

بين هاتين الأديبتين مشتركات يمكن إيجازها في نقطتين: زاوية الميل والاهتمام، وسلطان “الجذب العام”، فكلتاهما كان لها -بلغة عصرنا- “بريد مراسلات” مفعل، وحساب تفاعلي مثقل بـ “طلبات الصداقة” المجابة على سجل الصالون، المغلق دونها باب القلب، وكلتاهما كانت صاحبة مثابة أدبية، تهوي إليها أفئدة أدباء عصرها.

اتخذت الأميرة الأندلسية ولادة بنت المستكفي من صحن بيتها مركزا ثقافيا مزدوجا، فأقامت به “صالونا أدبيا”، وأسست فيه معهدا نسويا للآداب وفنون العود.

أما الآنسة الفلسطينية اللبنانية مي زيادة فقد كان لها صالون أدبي مشهور، ينظر إلى صالون ولادة ويضارعه في النخبوية، مع فارق ألقاب بسيط، فرواد “صالون” ولادة كانوا وزراء ذوي سلطة سياسية، ورواد صالون مي كانوا أمراء بيان أدبي.

تأملات- شاعرة غرناطة التي برعت في كل أدب

ولم يك ينقص الفريقين -ولا أميرتيهما- النبوغ البياني ولا الإنتاج الأدبي، فهم في ذلك سواء، كما أن القاسم المشترك لم يقف عند هذا الحد، بل بدا أن فتاة قرطبة ونظيرتها الشامية قد نصبتا صالونيهما ليكونا -مصادفة أو ترصدا- ميدان تنافس على عرش قلبيهما، لـ”يلهب” -في معركة الاستئثار- من ألهب عن هوى، و”يلهم” من ألهم عن جوى.

وما علينا من قصة الأول من شيء، فحدود “مردوديتها” حنايا أضلعه المستعرة، بل حسبنا من قصة الثاني ما أثمرت من ناضر الإنتاج الخالد ومزهر الأدب المحفوظ، فقد كان للمكتبة العربية والساحة الأدبية من ذلك مخرج عطاء، أمارته -في نسخة ولادة- المشجاة الشعرية السائرة (نونية ابن زيدون)، وآيته -في نسخة مي زيادة- بوح خاطر ووحي قريحة وصل فيهما شاحن الإعراب بكهرباء الإلهام، ليتفرق مداد الإنشاء والإنشاد بين رجال صالونها الأدبي، ثم لتكون -للقارئ- من وحي ذلك البعد الموجع قصيدة ابن زيدون المعجبة: “أضحى التنائي..”، وثلاثية الرافعي المعجزة: “رسائل الأحزان” و”أوراق الورد” و”السحاب الأحمر”.

على أن نقاط الاتفاق وملامح التطابق بين نسختي صراع الأدباء على قلبي الأديبتين الأثيرتين مضت على وجهها إلى نهاية حياتيهما اللتين ختمتا بالمفارقة الحرى ذاتها: انفراط عقد الصالون الأدبي السامر -الذي افتتحته فراشة قرطبة وفراشة الناصرة- دون أن يسفر التنافس عن ترجمة الحب إلى زواج، مع اختلاف في مستوى الفجيعة، حيث غالبت ولادة فراغ ابن زيدون ولم تشأ أن تسده، حتى توفيت على فراش الكبر في قرطبة.

أما مي زيادة فقد فجعت بأحظى المتنافسين على قلبها بعد طول مراسلة، لتموت على فراش الذبول، بعد مقاساة عاشتها بين محبس الحجر الأهلي وسرير المرض النفسي، في مأساة شفت “جمهورها”، وأرق لها ذوو ودها، واختصرتها هي -في مذكراتها- بعبارة أقرب إلى “التدوينة الشارحة” ونفثة المودع، حين كتبت:

“باسم الحياة ألقاني الأقارب في دار المجانين.. أحتضر على مهل، وأموت شيئا فشيئا”.

لترتسم على شاهد قبرها -بالقاهرة- شهادة عصرها في حقها أن: “هنا ترقد نابغة الشرق، زعيمة أديبات العرب، المثل الأعلى للأدب والاجتماع”.

على حين نقش على “نصب حب” ولادة -بساحة “مارتيليه” في قرطبة- بيتان ينسبان لها اتخذا تذكارا شعريا للارتباط الذهني بين اسمي ولادة وابن زيدون:
“أغار عليك من عيني ومني
ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أني خبأتك في عيوني
إلى يوم القيامة ما كفاني”.

ربكم أعلم هل هما من شعرها أم منتحلان عليها، ليكونا نصا يخدم التمثال المنتصب ليدين متناجيتين ترمزان لعلاقة الحب المعلق، التي اجتمعا عليها قبل أن “ينوب عن طيب لقياهما تجافيهما”، ولئن كان طرفا العلاقة -في آخر حياتهما الجامعة- بعيدين على قرب، لقد ظل “جبران مي” قريبا على بعد، لكن “المسافة الجغرافية” ملغاة في الحالين، وهنا يكمن الاتفاق، رغم اختلاف شكل التجاوب النهائي.

ومع أن انطفاء حظ الاقتران بين جبران ومي جاء بعدما ضاقت دائرة التنافس الأدبية، ولم تكن وراءه خلفية تدبير كيدي، فإن خيوط التنافس على قلب ولادة تشابكت واستحكمت، لينتهي المطاف بابن زيدون مقصى مبعدا، وما أبرئ السياسة من تكدير صفو علاقتهما.

وللتاريخ حكمته حين يجعل ما كان أقرب توقعا منذ البداية أبعد ما يكون تحققا في النهاية.

شاركها.
Exit mobile version