Login النشرة البريدية

شهدت الأيام القليلة الماضية زيادة في زخم الحراك السياسي الإقليمي والدولي بشأن الوضع في سوريا، وذلك بعد هروب بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وسقوط النظام الأسدي، حيث وصلت عدة وفود دولية إلى دمشق من أجل نسج علاقات مع الإدارة الجديدة للبلاد، والبحث في العديد من الملفات المتعلقة بشكل الحكم وتركيبته، والعلاقة مع دول الجوار، ومع باقي دول العالم، وكيفية تحقيق الأمن والاستقرار وسوى ذلك.

الموقف التركي

كانت تركيا أولى الدول التي تواصلت بشكل مباشر مع السلطات الجديدة، فأرسلت إلى العاصمة دمشق وفدًا يضم كلًا من وزير الخارجية هاكان فيدان ورئيس جهاز استخباراتها إبراهيم كالن، والتقيا بالقائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، الذي قاد سيارة برفقة كالن إلى الجامع الأموي.

وسبق أن وعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سبتمبر/ أيلول من عام 2012 بالصلاة في هذا الجامع، وأن يقرأ سورة الفاتحة فوق قبر صلاح الدين الأيوبي. ويمكن القول إن الطريق بات ممهدًا له كي يحقق وعده في أحد الأيام المقبلة.

ليس خافيًا أن الوضع في سوريا تعتبره الطبقة السياسية في تركيا مسألة وطنية، بالنظر إلى تشارك الدولتين بحوالي 950 كيلومترًا من الحدود بينهما، إلى جانب العلاقات التاريخية والثقافية بين البلدين الجارين، والقلق التركي من إمكانية قيام كيان انفصالي في مناطق شرقي نهر الفرات التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، ومخرجاته المدنية ممثلة بمجلس سوريا الديمقراطي (مسد)، والعسكرية ممثلة بوحدات حماية الشعب الكردية التي تشكل عماد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، حيث تعتبر تركيا أن هذه المكونات هي الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني الذي تخوض ضده حربًا منذ ثمانينيات القرن العشرين الماضي.

تتمحور مواقف تركيا وأولوياتها، في علاقتها مع السلطات السورية الجديدة، حول مطالبتها بتشكيل حكومة جامعة، بما يعني عدم استبعاد الهيئات السياسية المقربة منها، وفصائل ما يسمى “الجيش الوطني” المدعومة من طرفها، ومكافحة الإرهاب، والمقصود به عدم السماح باستمرار سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ومخرجاته على مناطق في شرقي الفرات، إضافة إلى استعداد أنقرة للمساهمة في إعادة إعمار ما تهدم في سوريا خلال السنوات السابقة.

وقد وعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بمساعدة الشعب السوري في تحقيق الاستقرار، واعتبر أن بلاده تتطلع بصدق إلى بناء سوريا خالية من الإرهاب، يعيش فيها جميع الأديان والمذاهب والإثنيات بسلام جنبًا إلى جنب.

الحراك الإقليمي والدولي

سارعت لجنة الاتصال الوزارية العربية، التي تضم الأردن، والسعودية، والعراق، ولبنان، ومصر، وأمين عام جامعة الدول العربية، إلى عقد اجتماعات في مدينة العقبة الأردنية في 14 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وبحضور وزراء خارجية قطر، والإمارات، والبحرين، وتركيا، وشارك فيها ممثلون عن ألمانيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، بالإضافة إلى الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، والمبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون.

وأصدرت اللجنة بيانًا شددت فيه على الحاجة إلى انتقالٍ سياسي جامع وموثوق بقيادة السوريين، ويقرره السوريون، ومبنيٍّ على المبادئ الواردة في قرار مجلس الأمن رقم 2254.

المؤسف أن ما جاء في بيان العقبة هو أقرب إلى الاشتراطات على السلطة الجديدة، مع تشكيك ضمني حيالها، في حين أن المطلوب من الدول العربية على وجه الخصوص الالتفات إلى ما عاناه السوريون خلال أكثر من 13 عامًا خلت من نظام الأسد، وفتح المجال سريعًا لإيصال المعونات الإنسانية للسوريين، ومساعدتهم في تحقيق انتقال سلس للسلطة، وإعادة إعمار ما هدمه نظام الأسد، إضافة إلى أن البيان لم يقل كلمة واحدة عن محاسبة الذين ارتكبوا المجازر والجرائم بحق السوريين، وضرورة تسليمهم للعدالة.

من جهتهم، ركز معظم قادة الدول الغربية، منذ الأيام الأولى لفرار بشار الأسد، على ضرورة إجراء عملية انتقالية سياسية جامعة، وتمثل جميع المكونات، إضافة لحماية الأقليات وضمان حقوق المرأة، ومكافحة الإرهاب.

وهناك إجماع لدى معظم ساسة الدول الغربية، وأيضًا في الأوساط الأكاديمية والإعلامية، على أن علاقات الغرب مع سوريا بعد سقوط نظام الأسد تحددها مجموعة عوامل.

وأسهم سقوط هذا النظام في إنهاء مرحلة ساد فيها ستاتيكو، نهض على إضعاف النظام وعزله وفرض عقوبات عليه، كي يذعن للانخراط في حل سياسي. وساهم إسقاط النظام في تلقي إيران وحلفائها في المنطقة ضربة قوية تضاف إلى الضربات الكبيرة الأخرى، حيث أفضى إلى تغيير توازن القوى وقواعد اللعبة في منطقة الشرق الأوسط، وإعادة ترتيب خارطتها بما يتناسب من زيادة نفوذ الولايات المتحدة الأميركية، وتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية فيها.

ومع ذلك فإن المرحلة المقبلة في الشرق الأوسط لن تكون سلسة وطيّعة، لذلك لجأت الإدارة الأميركية إلى إجراء اتصالات مباشرة مع “هيئة تحرير الشام”، على الرغم من أنها ما تزال تصنفها منظمة إرهابية، وهو أمر تحتاجه هيئة تحرير الشام بالنظر إلى سعيها للحصول على اعتراف دولي، يمنحها شرعية خارجية لحكم سوريا في المرحلة المقبلة.

أما الحراك الأوروبي، فلم يتأخر بدوره، إذ أرسلت كل من فرنسا، وبريطانيا، والاتحاد الأوروبي، وفودًا إلى دمشق، وتم رفع العلم الفرنسي على السفارة الفرنسية بدمشق للمرة الأولى منذ 12 عامًا.

الضغوط والاشتراطات

ركّز المسؤولون الغربيون على مطالب، أو بالأحرى شروط، تتمحور حول ضرورة إشراك كل مكونات المجتمع السوري في مفاصل الحكم، الذي يتوجب عليه ألا يستثني أحدًا، مع احترام حقوق الأقليات، وضمان عدم تحول سوريا إلى ساحة للتنظيمات الإرهابية، وجرى ربط الرفع التدريجي للعقوبات الغربية المفروضة على سوريا، ورفع اسم هيئة تحرير الشام من قائمة المنظمات الإرهابية، بمدى التقدم الفعلي في تحقيق هذه الشروط.

كما رُبط ذلك أيضًا بمساهمة الدول الغربية بإعادة الإعمار. لكن الحضور الأميركي اللافت والتواصل المباشر، يعكس حرص الولايات المتحدة على عدم إضاعة الفرصة، التي تمكنها من حصد المكاسب والمنافع مما تحقق في سوريا، ورسم خارطة جديدة لمستقبل علاقات الولايات المتحدة مع سوريا بعد انتهاء مرحلة النفوذ الروسي.

يبقى أن مشهد علاقات الولايات المتحدة الأميركية مع سوريا تشوبه علاقتها مع القوى المسيطرة على مناطق شرقي الفرات، التي تتداخل مع عدم رغبتها في تسليم كل الملف السوري إلى تركيا، وميلها إلى تخفيف حدة الاندفاعة التركية، الساعية إلى تعزيز نفوذها في سوريا.

ولعل مستقبل علاقات الولايات المتحدة وسوريا الجديدة، مرتبط بمدى الرغبة الأميركية الحقيقية برؤية لوحدة التراب السوري وسيادة الدولة الجديدة، خاصة أن الإدارات السابقة لم تكترث بذلك، بل ساهمت في تفتيت سوريا، وفي الحفاظ على حالة التقسيم الفعلي إلى مناطق نفوذ لقوى أمر الواقع الداخلية المدعومة من قوى خارجية مختلفة.

تطلّع السوريين

يتطلع السوريون بعد خلاصهم من نظام الأسد إلى الخلاص أيضًا من قوى الوصاية الخارجية، كي يتمكنوا من بناء جمهورية جديدة، لا يكونون فيها خارج المعادلات السياسية، ولا تتحكم بهم القوى الإقليمية والدولية التي لا تنظر إلا إلى حساباتها ومصالحها.

وعلى السلطة الجديدة إدراك أنها باتت تسير في حقول إلغام، لذلك يتوجب عليها الحذر الشديد، والموازنة بين الاعتماد على الداخل بغية تقوية نفسها بالاستناد إلى بيتها الداخلي؛ لمواجهة اشتراطات الخارج ومطامع قواه، وذلك عبر تلبية كل ما له علاقة بإشراك المجتمع السوري واحترام حقوق ناسه.

المشكلة في الضغوط الغربية أنها تطالب السلطات الجديدة بما عجزت عن تحقيقه دول الغرب مع نظام الأسد طوال عقود عديدة، إضافة إلى أن اشتراطاتها تخفي تركيزها على أمن إسرائيل، وتأمين مصالحها على حساب الأرض السورية والسوريين.

فضلًا عن أنه لم يتحدث أحد من المسؤولين الغربيين عن المواطنة ودولة المواطنة والمساواة في سوريا، مقابل تركيزهم الفج على الأقليات وحقوقها، والتعامل مع سوريا وكأنها دولة أقليات، الأمر يكشف عن عقلية خاصة لديهم لا تفترق عن عقلية استعمارية لها تاريخ طويل، يمتد إلى المسألة الشرقية.

يتعامى المسؤولون الغربيون عن تطلعات السوريين حين يطرحون اشتراطاتهم، ولا يعيرون أي اهتمام إلى حالة سوريا المنهكة والمدمرة، وحاجتها إلى مدّ يد العون والمساعدة في بناء ما تهدم، وإلى بذل جهود كبيرة للعمل على تمتين النسيج الاجتماعي الداخلي المتهتك، وتوفير الأمن والخدمات للناس، والعمل على تطوير الاقتصاد.

ويعي السوريون أنهم بحاجة إلى كسب مزيد من الداعمين لبلادهم في العالم وفي منطقتهم، لذلك فالمطلوب من القادة الجدد ممارسة السياسة بدقة وحصافة، وإتاحة المجال أمام جميع القوى الحية في المجتمع السوري من أجل بناء الدولة، وفتح الفضاء العام أمامهم للنقاش وتدارس أوضاعهم؛ بغية التعاون لإيجاد الحلول المطلوبة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version