في ظل عدم توفر البيانات الدقيقة عن الأوضاع التمويلية في سوريا، تفرض المرحلة الجديدة، بعد نجاح الثورة السورية في إسقاط نظام بشار الأسد، كثيرا من الأعباء التمويلية، خاصة أن فترة الـ13عاما الماضية شهدت حالة من تدهور الخدمات العامة، فضلا عن غياب الدولة في العديد من المناطق السورية، من حيث الالتزامات الاجتماعية والاقتصادية.
وتظهر الأزمة التمويلية بعد سقوط الأسد من خلال تصريحات رئيس حكومة تصريف الأعمال محمد البشير، حيث أشار إلى أن سوريا حاليا ليس لديها نقد أجنبي، ويتوفر لديها فقط العملة المحلية، التي لا تساوي شيئا، وأن الأسد ترك خلفه إرثا سيئا من الفساد الإداري، وأن الوضع المالي للبلاد سيئ للغاية.
فيمكن أن يستشف من تصريحات رئيس الوزراء أن البلاد في حالة انكشاف مالي. فلم يكن الأسد ليدير الأوضاع الاقتصادية والمالية للبلاد في ضوء موارده المتراجعة بشكل كبير على مدى السنوات الماضية، سواء على مستوى حركة التجارة السلعية، أو السياحة.
فالأسد كان يعتمد بشكل رئيس على المعونات الخارجية، ويدلل على دور المساعدات والمعونات الخارجية لنظام الأسد البائد، ما نشر مؤخرا من أن سفينة كانت تحمل نفطا إيرانيا عادت أدراجها عبر البحر الأحمر، بعد الإعلان عن سقوط نظام الأسد.
الاقتصاد السوري بين مرحلتين
يبلغ عدد السكان في سوريا أكثر من 23 مليون نسمة، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا العدد يتضمن من هاجروا خارج البلاد بعد ممارسات الأسد ضد شعبه من تعذيب وقتل، كما تبلغ المساحة الجغرافية لسورية نحو 185 ألف كيلومتر مربع.
ويتميز الاقتصاد السوري بتنوعه، كالزراعة والصناعة والخدمات، وكانت سوريا قبل اندلاع الثورة خلال عام 2011 تتميز بالاكتفاء الذاتي في كثير من السلع، وإن حرمت من مظاهر التكنولوجيا الحديثة، بسبب العقوبات الاقتصادية بعد ذلك.
وأدت سياسة نظام الأسد ضد المناطق الثائرة عليه إلى تأثيرات سلبية على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، وخاصة بعدما استخدم العنف والقتل تجاه المتظاهرين، ففي حين كان الناتج المحلي الإجمالي لسوريا 61.3 مليار دولار في عام 2010 تراجع إلى 7.4 مليارات دولار في عام 2023، وهو ما أدى إلى تراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ليصل إلى 300 دولار، في حين كان 2748 دولارا في 2010، وذلك حسب أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي.
وإذا تمكنت الإدارة الجديدة للدولة السورية من تثبيت الأمن والعودة للإنتاجية خلال 2025، وتيسير عمل الأنشطة الاقتصادية المختلفة، والسعي لتشغيل المرافق العامة، والبنية الأساسية، فسيؤدي ذلك إلى تحسين واقع الناتج المحلي الإجمالي، بشكل ملحوظ، ليرتفع وفق بعض التقديرات إلى 20 مليار دولار أو أكثر.
أعباء الدعم
من الصعب تخلي حكومة ما بعد الثورة في سوريا عن الدعم الاجتماعي على الأقل، والذي يتمثل في عدة بنود كانت تشملها الموازنة العامة للبلاد. فالبند الرابع من قانون الموازنة العامة للدولة السورية لعام 2021 (آخر بيانات متاحة على موقع وزارة المالية السورية) يتضمن عدة أمور مهمة في جانب الدعم الاجتماعي، منها: تثبيت الأسعار عن طريق دعم الإنتاج الزراعي، وتقديم المعونات الاجتماعية، ودعم دقيق التموين، ودعم الطاقة، ودعم الأسمدة الزراعية.
وقد تبين أن الموازنة السورية تشمل هيئات ذات طابع إداري وأخرى ذات طابع اقتصادي، ولكن علاقتها بالموازنة العامة للدولة في إطار العجز الذي تعانيه بنهاية السنة المالية، أو الفائض الذي تحققه بنهاية العام أيضا.
وكانت موازنة عام 2021 تقدر بنحو 8500 مليار ليرة سورية (3.3 مليارات دولار)، وفق سعر الصرف الرسمي في ذلك الحين عند 2512 ليرة للدولار الواحد.
لا شك في أن الميزانية الجديدة ستكون أعلى بكثير لاعتبارات منها أن الثورة تستهدف وحدة الأراضي السورية، وبسط الأمن على جميع ربوع البلاد، وهو ما يتطلب التزامات مالية.
ومن هنا يحسن بحكومة تصريف الأعمال أن تعد موازنة مرنة لفترة عملها فقط، والمقدر لها أن تنتهي في مارس/آذار 2025، بحيث تضم النفقات الحتمية من رواتب وأجور في كافة قطاعات الدولة، بالإضافة إلى دعم اجتماعي، والسعي لوحدة الإيرادات والمصروفات خلال هذه الفترة، لتسخر كافة موارد الدولة لسد الاحتياجات الأساسية، من طعام وشراب، وفرض الأمن، وضمان تسيير مختلف جوانب النشاط الاقتصادي.
وثمة أمر مهم سيكون من أولويات الحكومة، وهو ما يتعلق بعودة المهجرين والنازحين، إلى بيوتهم المهدمة، والتي تتطلب إعادة ترميم أو بناء بالكلية، وهو ما يستلزم لجان تقويم لتحديد الدعم المطلوب.
ومن أجل أداء تمويلي أفضل للدولة السورية بعد الثورة، ينبغي أن تأخذ حكومة تصريف الأعمال في حسبانها، ما يلي:
-دمج جميع المؤسسات العامة التي أنشئت خارج مناطق سيطرة النظام السابق، وخاصة تلك التي تتعلق بالجوانب المالية والاقتصادية، بحيث تكون هناك منظومة واحدة داخل الدولة للإيرادات والنفقات، وعمل موازنة موحدة، وخاصة في الفترة الأولى التي تستغرق عدة سنوات.
-عدم ترك برامج المساعدات الدولية أو الأهلية، وينبغي أن يتوفر لحكومة تصريف الأعمال خريطة احتياجات تصرف فيها المساعدات ليتحقق قدر كبير من العدالة في الوفاء بالاحتياجات الأساسية للمجتمع.
فإن تعذر على الحكومة الإشراف على توزيع المساعدات، فليكن ذلك من خلال مؤسسات المجتمع الأهلي وتحت رعاية الدولة، فالوضع الراهن، يحتم عدم وجود حالة من الفوضى في عمل المساعدات الخارجية.
-العمل على سرعة تنقية الأجهزة المعنية بتحصيل الرسوم والإيرادات العامة من المسؤولين الفاسدين والمرتشين، سواء كانت هذه المؤسسات خدمية، أو في مؤسسات القطاع العام، بحيث يمكن ترشيد الإنفاق بشكل كبير، وزيادة معدلات الإيرادات العامة، وينبغي سرعة تحصيل الرسوم، ووجود شبكة معلومات مركزية إلكترونية ترصد تدفقات هذه المؤسسات.
-أن يكون هناك إعفاءات جمركية ملموسة بخصوص الاحتياجات الضرورية لمؤسسات الدولة أو الأفراد، ولكن يراعى أن تزيد التعريفات الجمركية على السلع الترفيهية وغير الضرورية، لتكون أحد موارد موازنة الدولة.
-سوف تسمح الفترة القادمة، إذا ما اتسمت بالاستقرار، أن تجعل من سوريا مقصدا سياحيا بامتياز، وخاصة أن البلاد بها مقومات سياحية كثيرة، فضلا عما أضافته الثورة من مقومات جديدة، من مزارات متوقعة لقصور الأسد وأسرته وأركان نظامه أو ما يمكن أن نسميه “سياحة الثورة”.
وهو ما يعني إعادة الروح للعديد من الأنشطة الاقتصادية بسورية، ولكن ينبغي من الآن التخطيط، لأن تكون كافة متطلبات السائح منذ وصوله إلى أن يغادر من موارد ومنتجات محلية.
فقطاع السياحة يرتبط به أكثر من 90 نشاطا اقتصاديا، وهو ما يعمل على إنعاش الناتج المحلي، ويوفر فرص عمل، ويجلب عملات أجنبية.
التحدي الأبرز
من العسير أن ننتظر أن تنهض سوريا من أزمتها متعددة الجوانب في وقت قصير، وخاصة أن الدمار نال الإنسان والشجر والحجر، ولذلك وجدنا قائد الثورة أحمد الشرع يبعث رسائل طمأنة للمجتمع المحلي والخارجي بأن اهتمامات إداراته هو الانكفاء على إعادة بناء البلاد، وليس من أولوياتها الدخول في حروب.
وهنا لا بد أن نذكر أن الاستقرار السياسي والأمني يعد المهمة الأولى التي سينبني عليها نجاح باقي الخطوات في مختلف الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية، ولذلك لا بد أن يحتل هذا الأمر أولوية عمل حكومة تصريف الأعمال وما بعدها.
ولا يزال المجتمع الدولي يتعامل مع الثورة السورية بحالة من الضبابية، وسيجد الثوار في سوريا أنهم أمام مطامع ومحاولات فرض نفوذ، لتحقيق أجندات خارجية، أو إضعاف مشروع النهوض السوري.
وفي الوقت الذي تحرص فيه سوريا الجديدة للعودة للمجتمع الدولي سياسيا واقتصاديا، ورفع العقوبات الاقتصادية عنها، يجب أن يراعوا أن لديهم خصوصية دولة خرجت من حرب استمرت 13 عاما، وتحتاج إلى إعادة بناء.