الرباط– في أواخر عقده الثالث، ركب المغربي يحي بولمان أمواج المتوسط حاملا معه أحلامه وطموحاته ليزرعها في أرض أخرى بعدما ضاقت به حياة الفقر والبطالة والهشاشة في قريته.
تحالَف الفقر وفقدان البصر على هذا الشاب فعاش الحرمان طيلة حياته، حُرم من حقه في التعليم مثل أقرانه لأنه مكفوف ولا توجد في قريته فصول دراسية لهذه الفئة، وحُرم من فرصة عمل تحفظ له كرامته وتقيه ذل السؤال والحاجة.
حكى يحيى، للجزيرة نت، فيما يقرب من ساعة، تفاصيل عن حياة بدأت في إحدى قرى إقليم الراشيدية في الجنوب الشرقي للمملكة، وعن التحديات التي واجهها بحثا عن نسيم يحرك حياته القروية الراكدة.
مُنع في طفولته من دخول المدرسة، فكان يجلس قرب نافذة الفصل يستمع لشروحات المدرسين، وفي عقده الثالث رحل إلى الدار البيضاء ليلتحق بجمعية تعلم فيها لغة “برايل” مما ساعده على الحصول على شهادتي استكمال السلك الابتدائي والإعدادي ضمن فئة الأحرار.
وحاول إيجاد عمل لكن محاولاته كانت تصطدم كل مرة بطريق مسدود ووعود لم تفعل في الواقع. حتى الحلم في إجراء عملية تعيد له بصره لا يمكن أن يتحقق إلا بالسفر إلى فرنسا.
ولم يجد هذا الشاب أمامه من طريق غير الهجرة غير النظامية سيرا على طريق الكثير من أبناء منطقته الذين ركبوا البحر ووصلوا إلى الضفة الأخرى ونجحوا في تغيير ظروفهم وحال عائلاتهم.
ركوب المخاطر
يقول يحيى للجزيرة نت “الشباب والرجال في قرى الراشيدية يعيشون في بطالة بسبب توالي سنوات الجفاف، وعندما يهاجر أحد أفراد العائلة يتحول إلى طوق نجاة ينقذ العائلة من الفقر وحتى جيرانهم ينالهم من الخير نصيب”.
لم تمنع العيون المنطفئة يحيى من عزمه على خوض مغامرة الهجرة السرية، فحاول 3 مرات الوصول إلى الضفة المقابلة لبلاده، لكن هذه المحاولات باءت بالفشل.
وظل مصرا على قراره إلى أن ربط الاتصال مع أحد المهربين الذي وافق على تهجيره، وذهب مع بعض أبناء قريته إلى الجزائر عبر تونس ومنها ركب قاربا في رحلة استمرت 5 ساعات ليطأ أرض ألميريا الإسبانية.
ويتذكر تلك اللحظة برهبة ويقول “عندما تركب القارب تحس أنك تضع قدما في الحياة وأخرى في الموت، لكن رغبتي في الهجرة كانت أقوى من المخاطر”.
وبعد وصوله إلى إسبانيا، انتقل إلى فرنسا حيث استقر هناك واستفاد من الخدمات الاجتماعية بالنظر لكونه كفيفا.
يتعلم حاليا الفرنسية وطموحه الحصول على فرصة عمل مستقرة تغير حياته وحياة عائلته، وانبعثت من جديد رغبته في إجراء عملية تعيد له بصره وبدأ بزيارة الأطباء في فرنسا لتحقيقها.
يحيى واحد من ملايين الشباب المغاربة الذين يعيشون حالة بطالة بسبب الأزمة الاقتصادية التي نتجت عن توالي سنوات الجفاف وضياع فرص العمل بالقطاع الفلاحي.
وربط تصريح لعبد اللطيف الجواهري والي بنك المغرب (المركزي) –في ندوة صحفية أعقبت اجتماع مجلس بنك المغرب هذا الأسبوع- إقبال الشباب على الهجرة السرية (مثلما حدث مؤخرا في محاولة الاقتحام الجماعي لمدينة سبتة) بارتفاع البطالة التي مست 48.8% من الشباب.
الهجرة السرية العلنية
كانت المشاهد صادمة داخل الأوساط المغربية لقاصرين وشباب في مقتبل العمر، تداولتها وسائل إعلام محلية وصفحات على مواقع التواصل، وهم يحاولون الهجرة بطريقة غير نظامية عبر الحدود التي تربط مدينة الفنيدق شمال المملكة وسبتة التي تخضع للسيادة الإسبانية.
ولم يحل الإنزال الأمني الكبير الذي شهدته المدينة أيام -قبل 15 سبتمبر/أيلول الماضي (اليوم الموعود)- دون قدوم مئات الأطفال والشباب إلى المدينة راغبين في اقتحام سبتة برا أو بحرا.
وقد ترك معظم هؤلاء القاصرين، ومن في مقتبل مرحلة الشباب، مقاعد الدراسة ولم يجدوا فرص عمل حسب ما كتبت تقارير إعلامية.
ونقل تقرير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي -قدمه في مايو/أيار الماضي- مؤشرات عن المندوبية السامية للتخطيط تفيد بأن حوالي 1.5 مليون شاب تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة لا يعملون ولا يدرسون ولا يزاولون أي تدريب مهني، أي أن واحدا من بين كل 4 شباب يوجدون بهذه الوضعية، ويطلق على هذه الفئة “شباب النيت”.
وبلغ معدل البطالة 13.7% للأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و44 سنة، و3.8% للأشخاص البالغين 45 سنة أو أكثر.
ويرى الخبير الاقتصادي المهدي فقير أن هذه الفئة من الشباب والتي يطلق عليها “شباب النيت ” أي not in education, employment, or training (NEET) يمثلون “قنبلة موقوتة” تهدد النظام العام.
وأوضح -في حديث مع الجزيرة نت- أن هذه الظاهرة لا تتعلق بسياسة الدولة والحكومة فقط لكنها تهم المجتمع برمته.
ولفت إلى أن الدعوات المتكررة للشباب والقاصرين من هذه الفئة إلى تنظيم “هجرة جماعية” عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى سبتة تحيل إلى فقدان الثقة في البلد وتراجع القيم في المجتمع.
وأضاف “يتحمل المسؤولية المجتمع الذي لا يربي على قيم المواطنة والأسرة التي تقتل الطموح في أولادها، وهناك مشكل في منظومة القيم وهذه مسؤولية الجميع”.
ولفت المتحدث إلى أن المسألة لا تتعلق بحالة العديد من القاصرين والشباب بقلة فرص الشغل بل عدم توفرهم على مهارات وعدم رغبتهم في التعلم، وقال “عدد كبير من الشركات تقدم فرص عمل للشباب لكنها لا تجد يدا عاملة مؤهلة لتلك المناصب”.
بين مد وجزر
“الهجرة جزء من الثقافة المغربية الممتدة والمترسخة بالوعي الجمعي، إذ تعتبرها بعض أنماط التنشئة الاجتماعية خيارا أساسيا في مسار الفرد” كما يقول الباحث في علم الاجتماع زكرياء أكضيض -للجزيرة نت- لذلك يرى أن ما وقع بمدينة الفنيدق من دعوات لهجرة جماعية علنية ليس مستغربا ما دامت هذه الثقافة حاضرة وقوية ومحمية.
ولفهم ما جرى ويجري في الآونة الأخيرة من تداعي قاصرين إلى الهجرة الجماعية سباحة أو عبر تسلق الأسلاك والحواجز للوصول إلى سبتة، يستند الباحث إلى بعدين:
- الأول يتعلق بما جرى على مستوى الحقل الرقمي من تعبئة غير مسبوقة في يوم معين ومكان محدد.
ويرى أن هذا النوع من التعبئة الإلكترونية التي حركت هذا العدد الهائل من القاصرين يصعب اعتبارها عفوية وبريئة بل تخترقها رهانات سياسية وأيديولوجية واقتصادية، مشيرا إلى غياب أجوبة حول المحركات التي تقع وراء هذه التعبئة الرقمية.
- والبعد الثاني يتعلق بالظرفية الاقتصادية التي تتحكم في مد وجزر ثقافة الهجرة.
وأشار أكضيض إلى أن الأزمات الاقتصادية -التي توالت على المغرب بسبب تداعيات كورونا ثم توالي سنوات الجفاف- انعكست على فرص الشغل المتاحة أمام الشباب.
وقال “عندما تشتد الوضعية الاقتصادية فطبيعي جدا أن يحظى خيار الهجرة بالأولوية لدى الشباب، وهذا ما لاحظناه في أحداث الفنيدق، إذ تحول إلى خيار إستراتيجي إلى حد المغامرة بحياتهم من أجل تحقيقه”.
غياب عرض سياسي واقتصادي
بالنسبة لخالد السطي البرلماني بمجلس المستشارين، فإن مشاهد الهجرة الجماعية للشباب ليست مجرد تعبير عن أزمة اجتماعية واقتصادية مرتبطة بسوق الشغل، لكنها في نظره أزمة مرتبطة بفقدان الأمل الذي يجعل شباب البلاد مستعدا لاتباع أصوات تبيع له أحلاما جديدة، ويفقد القدرة على التمييز بين الأصوات التي تعبر عن العقل والمنطق وتلك الأصوات التي تستغل الأوضاع التي يمر منها الشباب لخدمة أجندات سياسية مشبوهة.
وأوضح السطي -للجزيرة نت- أن هذه الأحداث تعكس الواقع الذي وصلته العديد من الفئات الاجتماعية التي لم تجد في العرض السياسي والاقتصادي والاجتماعي ما يشفي غليلها وما يعزز ثقتها في بلادها.
وأشار إلى أن العديد من التقارير والمواقف التي صدرت عن مؤسسات رسمية وتنظيمات حزبية ونقابية ومدنية مغربية دقت جرس الإنذار المرتبط بتراكم أجيال من شباب الهدر المدرسي وأجيال من “البدون” (لا مدرسة ولا مهنة ولا شيء) ناهيك عن ارتفاع نسبة البطالة مما يشير في نظره إلى أن السياسات العمومية ظلت قاصرة في الإجابة عن حاجات هذا المستوى الأدنى من المجتمع.
التجنيد الإجباري
يدعو البرلماني السطي إلى الإنصات إلى الفئات المهمشة التي لا تنتمي إلى تنظيمات مدنية سياسية أو نقابية توصل صوتها، مؤكدا أهمية العمل الجماعي لتفعيل نموذج تنموي دامج لكل الفئات.
أما الخبير الاقتصادي المهدي فقير، فيرى أن حل هذه الإشكالية ليس بيد الحكومة وحدها بل بيد المجتمع بكافة مؤسساته وعناصره.
ويقترح تعميم التجنيد الإجباري في مراكز التكوين التابعة للمؤسسات العسكرية وشبه العسكرية.
ويضيف “هذه المراكز قادرة على تأهيل الشباب وتكوينهم وتعليمهم القيم والانضباط وصقل شخصياتهم ليكونوا قادرين على الاختيار الصحيح لمسار حياتهم، وألا يقعوا فريسة للتغرير أو أي دعوات مجهولة تدفعهم لرمي أنفسهم للتهلكة”.