طنجة – يتحوّل فضاء الكورنيش إلى ما تشبه ساحة حرب يسمع فيها أزيز المسيّرات الذي لا ينقطع، وتهوي القذائف على رؤوس المدنيين الأبرياء، في حرب إبادة وحشية.
لا يفرق جيش الاحتلال بين طفل يلعب في الشارع، أو امرأة تبحث عن لقمة عيش، أو رجل يحاول حماية أسرته، يمزق الصراخ الحناجر وتغرق الدماء الشوارع، في وقت تستمر فيه الآلة العسكرية في طحن البشر والشجر والجماد.
هي مشاهد من مسرحية برع في تمثيل مشاهدها أطفال في مقتبل العمر بمدينة طنجة المغربية، وأبدع في إخراجها هواة مسرح، تضامنا مع أهالي غزة والضفة الغربية الذين يواجهون شتى أنواع الجرائم الإسرائيلية على مرأى ومسمع العالم بأجمعه.
يقول الناشط المدني عبد الباري بوتغراصا للجزيرة نت وهو يظهر حماسة كبيرة، “لن نمل من التضامن مع أهالينا في غزة، إنها فرصة جديدة لإحياء هذه القضية في نفوس الناشئة إلى حين تحقيق النصر وعودة الحق إلى أهله”، قبل أن يضيف “كل الفئات العمرية في المدينة تبدي تضامنا غير مشروط، وتقدم النموذج في مبادرات نوعية، مدفوعين بواجب إنساني وأخلاقي”.
استغلال المناسبات
في أعقاب طوفان الأقصى وما تبعه من حرب مدمرة على قطاع غزة، لم تتوقف مدن مغربية عن التضامن مع الشعب الفلسطيني، لكن مدينة طنجة شمالي المغرب تحولت الى أيقونة هذا التضامن.
في كل مناسبة، يخرج بوتغراصا، وهو عضو في المبادرة المغربية للدعم والنصرة، من بيته حاملا معه إيمانا راسخا بعدالة القضية الفلسطينية، ويشهد تحول الوقفات التضامنية إلى مسيرات تجوب أهم شوارع المدينة لكثافة حضور المتضامنين، وتتفاعل معها السلطات المحلية والأمنية بشكل إيجابي.
وابتكر أهالي المدينة وسائل جديدة حوّلتها من مكان للحياة اليومية إلى رمز للتضامن والإصرار، حيث يستغل مواطنون كل مناسبة شخصية أو دينية (أعياد وعقيقة وغيرهما) ليجعلوها فرصة للتضامن سواء داخل المدينة أو تحويل تبرعاتها إلى قطاع غزة، ومنهم من سافر إلى الضحايا لتقديمها مباشرة وتقاسم معهم لحظات من حياتهم اليومية.
ومما يسجل في المدينة، نجاح مقاطعة المنتجات الداعمة لإسرائيل، إذ إن بعض المحلات المعنية تبدو شبه فارغة من الزبائن، كما تدنت مبيعات مشروبات معروفة بدعمها للاحتلال، ويُلاحظ أيضا حضور الأعلام والأزياء الفلسطينية على شرفات المنازل وفي المحلات التجارية وفي خلفيات السيارات والمركبات.
يقول الأكاديمي محمد حامي الدين للجزيرة نت إن تاريخ وحضارة طنجة بصفتها ملتقى للثقافات ساهما في تشكيل وعي وطني قوي لدى أهلها، جعلهم يتضامنون مع القضايا العربية والإسلامية وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
إخفاء الفرح
هل أفرح وأهالينا في غزة يُقتلون ويجوعون؟ ذلك هو السؤال الذي يطرحه كل مغربي في طنجة وهو يمر بمناسبة سعيدة في حياته أو حياة أقربائه ومعارفه.
لكن المواطن بلال العاقل لم يكتفِ فقط بذلك الشعور الحي الراسخ في ذهنه وقلبه، بل حوّل عقيقة ابنه أحمد إلى أطفال القطاع و”احتفل” معهم بهذه الشعيرة، ووزع عليهم ما جاد عليه ربه، كما يعبر عن ذلك بنبرة صوتية خافتة.
ولم يرد بلال أن يعطي أهمية كبيرة لما قام به عندما تحدث إلى الجزيرة نت بعد تردد، لكن أظهر شعورا بالرضا وأداء أقل الواجب.
يشير عبد الباري بوتغراصا إلى أن المدينة عُرفت بهذه المبادرات سواء تعلق الأمر بزواج أو عقيقة أو فرح بنجاح مهني أو دراسي، وهي مبادرات باتت تمر دون أن تصل إلى وسائل الإعلام لأن أصحابها يعتبرونها من البديهيات في حياتهم العادية، يعبرون من خلالها عن انتمائهم لقضية فلسطين، التي تشكل جزءا من عقيدتهم وهويتهم.
وذكّر باللافتات المعبرة التي يرفعها الجمهور الرياضي وما يبديه الأطباء من استعداد للذهاب إلى أرض المعركة وتقديم المساعدة اللازمة، علاوة على محامين انخرطوا في مبادرات حقوقية وقانونية.
كوفية وأعلام
أينما توجّه الزائر في أسواق طنجة تصادفه الكوفية والأعلام الفلسطينية، التي بات الطلب عليها متزايدا مع زخم المبادرات التضامنية.
ويؤكد الشاب عماد، الذي يعمل في تسويق هذه المنتجات علاوة على ملابس بها رموز وشعارات المقاومة، أنه جعل لها ثمنا رمزيا يغطي بعض خسارته من ماله الخاص الذي يجنيه من تجارة ملابس أخرى.
وفي مدن أخرى في الشمال المغربي، يجد الزائر مظاهر أخرى للتضامن، ففي تطوان التي توصف بأنها القدس الصغرى لمعالمها الهندسية، يخرج كل أسبوع آلاف المواطنين تلبية لنداء الجبهة المغربية لدعم فلسطين وضد التطبيع، وهي مجموعة تضم قوى سياسية ونقابية وحقوقية من مختلف الأطياف الفكرية، مما تنوع يمثل مصدر قوة لها، في رأي عضو السكرتارية المحلية للجبهة أشرف ميمون حيث يتيح لها بناء توافق حول القضية الفلسطينية.
وفي مارتيل، تحوّل حي شعبي إلى متحف إيكولوجي (بيئي) طبيعي، حيث زُيّن بنباتات نادرة وأصبح مزارا لا يمكن تجاهله خلال زيارة المنطقة، لكن اللافت فيه أن المنظمين زينوا مداخل الحي بالأعلام الفلسطينية، والنقاش كله تحوّل إلى القضية الفلسطينية وتطوراتها. أما في أصيلة، مدينة الفنون والجمال، فلا يخلو شارع من تعبيرات أو لوحات أو كتابات عن فلسطين.
وجوابا على سؤال سر الزخم التضامني في مدن الشمال وخاصة طنجة، يبرز الأكاديمي محمد حامي الدين دور العلماء والفقهاء وإرث مقاومة الاستعمار الإسباني في نشر الوعي الديني والوطني بين الناس، مؤكدا ارتباط تاريخ طنجة الوثيق بفلسطين سواء بجهادهم المعروف في حرب التحرير، أو باستقبال لاجئين هربا من الحرب والاحتلال.
ويشير المتحدث إلى أن شوارع وأزقة طنجة ودروبها لا تزال شاهدة على معارك وعمليات ضد الاستعمار الدولي، ولا تزال خطابات القادة فيها من أمثال العالم والفقيه المغربي رئيس رابطة علماء المغرب بعد الاستقلال عبد الله كنون يتردد صداها في محافل المدينة.
ويوضح عبد الباري بوتغراصا أن استمرار التظاهر يعود إلى الجاهزية الكبيرة للتنظيمات وصمودها وصبرها، وكذلك التفاعل والتجاوب الكبير للسكان وتعاطفهم الكبير، علاوة عن الوعي بطبيعة هذه المعركة التي تختلف عما سبقها باعتبارها معركة فاصلة ومصيرية في تاريخ القضية الفلسطينية لا سيما بعد “الإنجاز العظيم للمقاومة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وكذلك لحجم الإجرام الصهيوني وحرب الإبادة المتواصلة، بالإضافة إلى المطالبة المستمرة بإسقاط التطبيع”.