الفاشر- لا يعلم أحد عدد المرات التي هُوجِمت فيها مدينة الفاشر إلا من هم في ميدان معاركها، التي لا تكاد تهدأ إلا لتعود من جديد بشكل أكثر ضراوة وعنفا عن سابقتها، لكنَّ بيانا صحفيا للقوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح التي تقاتل قوات الدعم السريع على تخوم المدينة، كشف عن تصديها -أمس السبت- للهجوم رقم 137 على الفاشر.
ورغم اندلاع الحرب في السودان منذ أكثر من 17 شهرا، فإن مدينة الفاشر ظلت العاصمة الوحيدة من عواصم ولايات إقليم دارفور الخمس ومدنها الكبيرة بمنأى عن القتال لشهور طويلة، عقب سيطرة الدعم السريع على المدن الأخرى.
وأغرى الأمان النسبي بالفاشر أعدادا كبيرة من النازحين الباحثين عن ملاذ آمن للجوء إلى المدينة، التي أصبحت تشهد منذ أشهر اشتباكات شبه يومية بالأسلحة الثقيلة، في معارك “كسر العظم” بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، إذ تشير التقارير الميدانية لمقتل المئات يوميا من الجانبين على أسوار المدينة.
ومع استمرار هجوم قوات الدعم السريع وإصرارها على الاستيلاء على الفاشر، في مقابل الدفاع المستميت عن المدينة من جهة الجيش السوداني والقوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح الحليفة له، تبرز عديد من الأسئلة عن أهمية المدينة الإستراتيجية والسياسية والأمنية، وما تعنيه السيطرة عليها في الواقع.
لماذا الفاشر؟
يقول الحاكم الأسبق لإقليم دارفور تجاني سيسي للجزيرة نت إن الفاشر، التي يسكنها نحو 1.8 مليون نسمة، تعد حاضرة ولاية شمال دارفور وعاصمة إقليم دارفور التاريخية بما تحمله من رمزية لأهله، ولها موقع إستراتيجي في منطقة ارتبطت تاريخيا بكل من مصر وليبيا وتشاد، وتتوسط منطقة شهدت نزاعات إقليمية امتدت لفترة طويلة.
ويرى سيسي أن الأهمية الإستراتيجية والعسكرية للمدينة تكمن في أنها أصبحت خط الدفاع الأول عن باقي السودان، إذ إن استمرار القوات المسلحة والقوات المشتركة بالدفاع عن الفاشر يؤمِّن ظهر مدينة الأبيض، ويخفف العبء عن عاصمة الإقليم القومية، ويعوق محاولات الدعم السريع للتمدد إلى شمال السودان ويقطع إمدادها عن وسطه.
بدوره، يقول معتصم أحمد صالح، الأمين السياسي لحركة العدل والمساواة التي تقاتل ضمن القوة المشتركة الحليفة للجيش بدارفور، إن الفاشر الآن هي مقر قيادة القوة المشتركة، ومقر اللجنة العسكرية العليا لوقف إطلاق النار المنشأة بموجب بروتوكول الترتيبات الأمنية – مسار دارفور ضمن اتفاق جوبا لسلام السودان، كما أنها تعد المركز الرئيسي لتجمع قوات حركات الكفاح المسلح.
ويرى معتصم أن الفاشر مدينة إستراتيجية ومهمة جدا لقوات الدعم السريع، لأن سقوطها يعني إخضاع كل دارفور تحت سيطرتها، وتضمن بذلك حدودا دولية مع 4 دول هي ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان، بالإضافة إلى مطار دولي مؤهَّل لهبوط جميع أنواع الطائرات.
وأكد أنه في حال سيطرة الدعم السريع على الفاشر سيسهِّل عليها مهمة إعلان حكومة خاصة بها في غرب السودان، حدودها شرقا النيل الأبيض ونهر النيل، وهو ما يحقق مشروعها في تقسيم السودان وتكوين دولتها المنشودة بإكمال سيطرتها على دارفور بالكامل، وتكوين حكومة موازية للحكومة السودانية التي تمارس مهامها الآن من بورتسودان.
مقايضة الفاشر بالخرطوم
وكان رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان كشف يوم 24 أغسطس/آب الماضي عن رفضه لما تروج له قوات الدعم السريع بمقايضة انسحاب الجيش السوداني من الفاشر مقابل انسحاب قواتها من الخرطوم ومناطق أخرى.
وقال معتصم إن أهمية الفاشر لدارفور مثل أهمية الخرطوم لكل السودان، وإن “السيطرة عليها تمنح المليشيا وضعية جديدة، تستطيع بموجبها الادعاء أنها تسيطر على 80% من السودان، وتمكنها من تكوين حكومة موازية للحكومة القائمة، وسرعان ما ستجد التأييد من حلفائها” حسب وصفه.
وأضاف أن استيلاء الدعم السريع على الفاشر سيمكِّن من وصول الدعم اللوجستي لها بطريقة علنية من حلفائها أو من السوق العالمي، مما سيكسبها قوة عسكرية ودعما لوجستيا سيمكنها من السيطرة على عموم السودان.
من جهته، قلّل رئيس حزب الأمة مبارك الفاضل من الأهمية الإستراتيجية للفاشر، وقال للجزيرة نت إنه لا قيمة سياسية للسيطرة على المدينة، مشيرا إلى أن قوات الدعم السريع مسيطرة على نيالا وجميع مدن دارفور والخرطوم والخرطوم بحري، وكان في قبضتها قبل تحرير مدينة أم درمان 90% من العاصمة، ولكن ضعفها السياسي والتنظيمي منعها من تشكيل حكومة أو إدارة.
وأفاد بأن الدعم السريع فقدت أي مسوِّغ أخلاقي، ولم تعُد لها فرصة لأي قبول سياسي، وذلك لإصرارها على احتلال الفاشر، معتبرا أن ذلك “لا يخرج إلا من جهل وتنافس قَبَلي وعرقي فارغ” على حد قوله.
تكرار “نموذج حفتر”
من جهته، يرى مصطفى تمبور رئيس حركة تحرير السودان، التي كانت من أوائل الحركات الدارفورية المسلحة المصطفة إلى جانب الجيش لقتال قوات الدعم السريع، أن سقوط الفاشر يعني “انهيار السودان بالكامل، لأن المليشيا وحلفاءها سيُعلنون حكومة على طريقة ليبيا وهذه بداية تقسيم السودان”.
وقال للجزيرة نت إن قوات “الدعم السريع تسعى لتكرار النموذج الليبي في السودان بلا أدنى شك، لأن الخطة (ب) بعد فشل الاستيلاء على السلطة في الخرطوم هي إعلان دولة في دارفور تكون عاصمتها الفاشر، ولكن نحن لن نسمح بذلك أبدا، وسنبذل قصارى جهدنا لقطع الطريق أمام هذا المخطط مهما كلفنا ذلك من ثمن”.
وأكد أنه في حال تقدم قوات الدعم السريع وتمددها في شمال دارفور، فمن المتوقع أن توسِّع رقعة الاستهداف وجرائم التطهير العرقي بحق المكونات الأصلية في الإقليم، مثل الفور والمساليت والزغاوة والبرتي والبرقد، وهو ما أكده الأمين السياسي لحركة العدل والمساواة بقوله إن “من الطبيعي أن يكون سقوط الفاشر مدخل إبادة لجميع المكونات غير العربية، وقد يمتد ذلك ليشمل كل السودان”.
بينما اعتبر الحاكم الأسبق لإقليم دارفور تجاني سيسي أن “سقوط الفاشر في أيدي المليشيا ليس بالضرورة أن يعني تكرار التجربة الحفترية، ولكن خطورة الأمر أن ذلك سيُشكل العتبة الأولى في إنفاذ مخطط إعادة تقسيم السودان” حسب وصفه.
لكنه أكد عدم قدرة قوات الدعم السريع -في حال سقوط الفاشر وإعلان قيام سلطة هناك- على بسط سيطرتها على دارفور، في ظل تزايد وتيرة الاستقطاب القبلي والإثني في الإقليم، ونتيجة لانتهاكاتها الواسعة بالمناطق التي تسيطر عليها في وسط وغرب وجنوب وشمال دارفور.
دعوات أممية واهتمام أميركي
دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” إلى “التصرف بمسؤولية وإصدار أمر فوري بوقف هجوم قواته على الفاشر”، وذكر بيان صادر عن المتحدث باسم الأمين العام أن وقف إطلاق النار يُعد ضرورة ملحة، سواء في الفاشر أو في جميع مناطق الصراع الأخرى في السودان.
وسبق أن طالب مجلس الأمن الدولي بتاريخ 13 يونيو/حزيران الماضي برفع الحصار الذي تفرضه قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، وبالوقف الفوري للقتال في المنطقة.
كما حثَّ البيت الأبيض يوم 15 سبتمبر/أيلول الجاري قوات الدعم السريع على وقف فوري لهجماتها على الفاشر، وأوضح أن حصارها المدينة المستمر منذ أشهر “يهدد حياة مئات آلاف السودانيين”، وأن هجماتها على مخيمات النازحين والمستشفيات هناك “مروِّعة”.
وبدوره، دعا الرئيس الأميركي جو بايدن القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع إلى سحب قواتهما من الفاشر، وقال في بيان، أصدره في 17 سبتمبر/أيلول الجاري، إن مدينة الفاشر في دارفور تعد موطنا لما يقرب من مليوني شخص ومئات الآلاف من النازحين، وتعيش تحت حصار طويل الأمد من قبل قوات الدعم السريع، لكنه تحوَّل في الأيام الأخيرة إلى هجوم شامل.
وأثار هذا الاهتمام الأميركي المُطالب بوقف أعمال العنف المتصاعدة في الفاشر علامات استفهام في الأوساط السودانية، إذ كشف الحاكم الأسبق لإقليم دارفور أن أحد دوافع الاهتمام الأميركي بالفاشر علاقتها بالأجندة التي تدعو إلى إعادة تقسيم السودان إلى 4 دول، بالإضافة إلى التنافس الدولي حول الموارد الكامنة في دارفور، خاصة اليورانيوم والذهب.
في حين يرى تمبور أن تحذيرات الإدارة الأميركية للدعم السريع “مناورة لا قيمة لها”، لأنها غير جادة في التعاطي مع الأزمة السودانية، و”تكتفي فقط بالإدانات والشعور بالقلق، بينما نجدها في أغلب الأحيان تقف بجانب الدعم السريع، لأنها تخدم مخططها الرامي إلى تقسيم السودان، ثم إنشاء قواعد أمنية وعسكرية تمكنها من السيطرة عليه ونهب ثرواته”، وفق رأيه.
بينما اعتبر الأمين السياسي لحركة العدل والمساواة الاهتمام الأميركي بما يدور في السودان ضعيفا، نظرا لانشغال الإدارة والرأي العام الأميركي بقضايا أخرى، مثل الحرب في أوكرانيا وغزة، إلا أن ضغوطات الكونغرس ولوبي الأميركان الأفارقة والانتخابات الأميركية رفعت نسبيا من مستوى الاهتمام الأميركي بالسودان، وبدارفور والفاشر بشكل خاص.