باريس- أثار اقتحام القوات الإسرائيلية -أمس الأحد- مكتب قناة الجزيرة في رام الله وإغلاقه لمدة 45 يوما بقرار عسكري، قدمه جنود مسلحون وملثمون في ورقة باهتة للصحفيين بالمكتب ونُفذ على عجل في منطقة تقع “نظريا” خارج سلطة الاحتلال، عدة تساؤلات ومخاوف من دوافعه.
ومع استمرار تنديد المنظمات الدولية المدافعة عن حرية الصحافة واستنكار خبراء القانون التجاوزات التي ترتكبها إسرائيل، يتزامن هذا القرار مع موجة تحريض سياسي غير مسبوق ضد شبكة الجزيرة داخل حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اليمينية، وهجمات عنيفة يشنها الاحتلال على الضفة الغربية المحتلة، وحملة إبادة على أهالي غزة تقترب من عامها الأول.
إعدام الصوت والصورة
وفي مشهد يشبه العرض العسكري وحال فلسطين بشكل مصغر، يخرج الصحفيون من مكتبهم ليبقى المحتلون في الداخل يتجولون كالأشباح ويعبثون ويصادرون ممتلكات الشبكة، حتى إن صورة الصحفية الراحلة شيرين أبو عاقلة أزعجتهم، فلم يجدوا وسيلة لردع نظراتها التي تلاحقهم في المكان إلا بتمزيقها.
من جانبها، ترى رئيسة الاتحاد الدولي للصحفيين دومينيك برادالي أن “المحتل يحاول بكل وسيلة ممكنة القضاء على جميع الشهود والصحفيين الذي يمكن أن يشهدوا على جرائم الجنود والمستوطنين”. وأضافت -للجزيرة نت- أن إسرائيل لا تحترم حرية العمل الصحفي في الأراضي الفلسطينية التي تحتلها وفي قطاع غزة أيضا، وأنه من حسن الحظ استمر الصحفيون الفلسطينيون في غزة في تزويد العالم بالمعلومات والصور الجادة والصادقة لكشف حقيقة الأوضاع هناك.
وعن مدى خطورة الاستيلاء على أرشيف المكتب ومعداته، وصفت برادالي ذلك بأنه “عمل من أعمال الحرب”، مشيرة إلى أن طرد الصحفيين وسرقة جميع بياناتهم الموجودة في أجهزة الكمبيوتر وغيرها يمثل أمرا خطيرا للغاية على جميع اتصالاتهم لأنهم لم يعودوا قادرين على حماية مصادرهم.
في السياق ذاته، أكد نائب الأمين العام للاتحاد الدولي للصحفيين تيم داوسون ضرورة بقاء الملفات التي يعمل عليها الصحفيون في سرية تامة لأنهم ملتزمون بحماية هويات مصادرهم. وبالتالي، فإن قيام حكومة معادية بالبحث في أجهزة الكمبيوتر أمر غير مقبول على الإطلاق، وهو جزء صغير من سلسلة طويلة من الجرائم المروعة التي ارتكبتها الحكومة الإسرائيلية ضد وسائل الإعلام الحر، على حد تعبيره.
وفي حديث للجزيرة نت، يتوقع داوسون تعرض الصحفيين الإسرائيليين للمصير ذاته، لأن “الطغاة لا يميلون إلى ممارسة الاستبداد بمجرد أن يفلتوا من العقاب، بل يستمرون في ممارسة مزيد منه”. وتابع “لقد شهدنا هجمات على صحف إسرائيلية مثل هآرتس التي وُصفت بأنها عدوة للدولة، مما يعني أن الحكومة لا تسامح وجهات النظر التي تخرج عن سرب آرائها وتعطي لنفسها الحق في إسكات الناس عندما ينتقدونها”.
وباعتقاده، ستستخدم إسرائيل التكنولوجيا التي تمتلكها أو تقنيات الذكاء الاصطناعي لنسخ وتحميل وتحليل كل الملفات التي أخذتها من مكتب الجزيرة لفحصها بسرعة أكبر، “وهو احتمال مرعب يقوض المبادئ الأساسية للصحافة الحرة”، وفق المتحدث.
ترهيب غياب للقانون
من جانبه، يزعم الجيش الإسرائيلي أن أمر الإغلاق جاء بسبب “استخدام المكاتب للتحريض على الإرهاب وتعريض بث القناة للأمن والنظام العام في المنطقة وإسرائيل بأكملها للخطر”.
وتعليقا على ذلك، يؤكد المحامي الفرنسي جيل دوفير أن القوة العسكرية المحتلة لا تمتلك الحق في إغلاق المكتب ولو لمدة 15 دقيقة ولا إدارة شؤون رام الله، وفقا لرأي محكمة العدل الدولية لعام 2014 الذي ينص بوضوح على “أن أي احتلال هو غير قانوني ويجب إنهاؤه على الفور”.
ويعتبر دوفير -في حديث للجزيرة نت- أن مفهوم الإرهاب في القانون الدولي ذو محتوى ضعيف للغاية ولا وجود له في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وكتابات العدل الدولية، لذا فإن اتهاماتهم تقتصر على “النجاح السياسي المجنون لهذا المصطلح لأن قيمته -قانونيا- هامشية وهشة”.
وغير مستبعد تجديد مدة الـ45 يوما التي فرضها الاحتلال، أوضح “ليس لدى القوة العسكرية أي حدود أو احترام للقوانين، وبعد أن تجاوزوا كل الأسس القانونية التي لا تسمح لهم بإغلاق مكتب الجزيرة، يمكنهم الذهاب إلى أبعد من ذلك واتهام مدير المكتب بالتحريض على الجريمة وما إلى ذلك”.
ويرى داوسون أن ما فعله جنود الاحتلال يشكل “محاولة دنيئة لترهيب صحفيي الجزيرة”، وأن تمزيق صور الراحلة شيرين أبو عاقلة “عمل حقير” يأتي ضمن الهجمات التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية ضد حرية الإعلام، بما في ذلك منع الصحفيين الأجانب من دخول غزة، واستهداف الصحفيين الفلسطينيين لقتلهم، ومضايقة وسائل الإعلام المحلية عندما تجرأت على انتقاد حكومتها.
من جانبها، لفتت برادالي إلى الصعوبة التي يواجهها الاتحاد الدولي للصحفيين لحماية الصحفيين، لأنه “عندما لا يطبق المحتل أي قانون دولي وتفشل السلطات الدولية في إسماع صوتها واحترامها، فمن الصعب علينا أن نفعل أكثر مما تستطيع هذه السلطات القيام به”.
اغتيال الديمقراطية وأوسلو
وعلى الرغم من سعي إسرائيل المستميت لإظهار نفسها بمثابة الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط وامتلاكها النظام القانوني الأكثر كفاءة، تأتي تصرفاتها لتثبت العكس وأن نظامها بعيد كل البعد عن الديمقراطية وأن سياستها الحكومية حصرت سيادة القانون في الظل وأصبحت مجرد ذكرى تحتضر.
وهو ما يتوافق مع تصريحات المتخصص في القانون الجنائي الدولي توبي كيدمان للجزيرة نت عندما قال إن “إسرائيل تمارس سياسة الفصل العنصري ولديها هدف واضح يتمثل في نزع الصفة الإنسانية عن الشعب الفلسطيني، واقتحام قواتها العسكرية لمكتب الجزيرة وإغلاقه يشكل دليلا واضحا على استبداديتها الصارخة”.
كما أكد كيدمان أنه “من الواضح أن شبكة الجزيرة صوت مستقل ومهم يوثق الجرائم في الوقت الحقيقي، وهو الصوت الذي تسعى الحكومة الإسرائيلية بشدة إلى إخفائه عن العالم الخارجي”، معتبرا أن “الحقيقة القاسية هي أننا نشهد انهيار النظام الدولي القائم على سيادة القانون -وكأنه أمر عادي- ولا بد أن يشعرنا صمتنا الجماعي بالخجل”.
وحسب المحامي جيل دوفير، تختفي اتفاقيات أوسلو تماما، لأنها كانت مبنية على فكرة الابتعاد عن القانون الدولي وإنشاء معاهدة ثنائية القومية، وهي طريقة كانت تهدف أساسا إلى إبعاد الشعب الفلسطيني عن القانون الدولي، ومن ثم حرمانه من كل سبل اللجوء الممكنة إليه.
وتابع “في الوقت الذي تحرز فيه القضية الفلسطينية تقدما، تنتهك إسرائيل سيادة الأراضي الفلسطينية والقانون الدولي، لأن الفلسطينيين تركوا اتفاقيات أوسلو جانبا وعادوا إلى محكمتي العدل والجنائية الدوليتين”.
بدوره، وصف تيم داوسون اقتحام المكتب ودخول قوات الاحتلال إلى المنطقة (أ) بـ”الانتهاك الصارخ لأوسلو”، مشيرا إلى أن “تحرك الجنود ببدلهم العسكرية وبحوزتهم بنادق هجومية وكأنهم مقبلون على معركة وتحطيمهم الأبواب ومصادرة المعدات وطرد الصحفيين من مكاتبهم، يثبت إعدام حرية الإعلام حيث تُغتال الديمقراطية في غيابها”.
وبينما قُتلت أوسلو وبقيت حرية الصحافة حبرا على ورق، أثبتت الأحداث الحالية أن للمنطقة حاكما عسكريا إسرائيليا يتسلح بما يسميها “صلاحيات” يقرر بموجبها ما يشاء، لتبقى علامات استفهام كثيرة معلقة حول نية الاحتلال الحقيقية في الضفة، ولعل من أهمها: ما الذي يريد فعله هناك بعيدا عن كاميرات الجزيرة؟