أمام هول ما يقع في فلسطين من إبادة جماعية ومجازر بمباركة الأنظمة الغربية الرسمية، وعجز المجتمع الدولي والنظام العربي الإسلامي، تتوالد الأسئلة وتتكاثر في عقول ونفوس العرب والمسلمين. تتراوح هذه الأسئلة بين ما هو عام يتعلّق بتاريخ الصراع بين العالم العربي الإسلامي والعالم الغربي، وما هو وجودي يتعلّق بالعلاقات بين الذات والغير، وما هو سياسيّ يتعلق بما يجب فعله أو تركه في هذه اللحظات الحرجة من التاريخ.
من بين الأسئلة التي تفرض نفسها في هذه اللحظات العصيبة السؤال الذي طالما أرّق المفكرين والباحثين على امتداد القرن العشرين: كيف يمكننا كسر طوق الغرب المضروب حولنا؟ قد يبدو هذا السؤال أقرب إلى التجريد الفكري المنفصل عن الواقع، منه إلى الأسئلة العملية التي تتطلب تعيين سبل الفعل والعمل لمواجهة معاناة الأطفال الذين يتضوّرون جوعًا جراء الحصار.
يرى البعض أنّ مثل هذه الأسئلة الفكرية قد تعطل المقاومة على الأرض. وهذا قد يصحّ من بعض الوجوه، حيث إن الأسئلة الفكرية بطبيعتها متعلقة بالماضي والمستقبل، بمسببات الأحداث ومآلاتها، أكثر من تعلقها بتدبير الواقع السياسي واللحظة التاريخية الراهنة.
فالسؤال الفكري يستوضح الأسباب التي أفضت إلى تشكيل الواقع، ثم الأسباب التي قد تفضي إلى تغييره مستقبلًا. ولعل القاسم المشترك بين من ينشغلون بالإجابة عن هذا السؤال، هو أنّهم ينقلون الصراع من العالم الحقيقي المنظور، عالم الأعيان، إلى عالم الأذهان. وكثيرٌ من الناس يعجزون عن ربط عالم الأشياء بعالم الأفكار، ومن ثم يصعب عليهم ربط السؤال الفكري بالأسئلة المتعلقة بالواقع المرئي.
ومع ذلك، يظل السؤال الفكري مشروعًا وذا صلة بما يحدث. صحيح أن التقارير الإخبارية والتحليلات الصحفية تساهم في نقل ما يقع وتقريب حقيقته، لكن هذه التقارير لا ترقى إلى مستوى الإجابة عن الأسئلة الجوهرية التي تتطلب أخْذَ مسافة نقدية ونَفَس تحليلي وعمق فكري. هذه التقارير تظلّ مشدودة إلى الزمن السياسي وتقلباته، مما قد يصرف المتلقي عن الالتفات إلى أبعاد الصراع الوجودية والنفسية والعقدية والتاريخية والحضارية والثقافية.
حين نعمّق النظر في السؤال الفكري المتعلق بكيفية كسر طوق الغرب، نجد أنّ النخب التي عنيت بالإجابة عنه على امتداد القرن العشرين، قد انقسمت إلى فئتين متباينتين: فئة تنشد الالتزام بمقتضيات العقل والعقلانية الغربية وسيلةً لمناهضة الغرب ومجابهته؛ وفئة أخرى تنشد العودة إلى التراث العربي الإسلامي والأخذ بمنظومته التفسيرية وسيلةً لاستئناف دورة الحضارة الإسلامية استئنافًا يُمكّن من إثبات الذات في عالم تحكمه القوة. وكلتا الفئتين، كما نرى، تربط تحقق المبتغى، أي التخلص من قبضة الغرب، بشيء غير قائم في الواقع.
السؤال الفكري يستوضح الأسباب التي أفضت إلى تشكيل الواقع ثم الأسباب التي قد تفضي إلى تغييره مستقبلًا، مما يجعله ذا صلة بما يحدث
عند النظر في الموقفين الفكريَين نجد أن كليهما، على اختلاف منطلقاتهما الأيديولوجية، يؤجل الحسم في الصراع مع الغرب إلى المستقبل، إلى زمن تكتمل فيه الشروط اللازمة لتحصيل القوة الضرورية والأسباب الموضوعية لتحقيق الانتصار.
لقد تحول كل موقف إلى مشروع نهوض، يقوم إما على نقد التراث والعقل العربيين الإسلاميّين، أو على نقد الحداثة والعقل الغربيّين. وكلا المشروعين يصدر عن نفس المُسَلّمة العقلية التي تفترض تجانس موضوع النقد، سواء كان التراث أو الحداثة. فمنتقد التراث يجمده في صورة تختزل ماهيته وكأنه شيء لا يتحرك، مثل منتقد الحداثة الذي يجمدها في صورة تختزل ماهيتها في شيء ثابت لا يتغير. ولكن الواقع أن التراث والحداثة على حد سواء يظلان معطيَين تاريخيين بالأساس، قبل أن يكونا مقولتين جامدتين يمكن حدهما عقلًا.
اليوم، يبدو أن أصحاب مشاريع النهوض القائمة على نقد التراث أو الحداثة لم يسلموا من الوقوع في آفة الشمولية العقلية التي أسّس لها فلاسفة اليونان الأوائل، وعلى رأسهم أرسطو. فهم يصدرون عن اعتقاد عقلي راسخ في إمكانية تجميد الواقع في الذهن، ثم تحديد ماهية الأشياء، ثم إعادة ترتيب العلاقة بينها، قبل أن يعيدوا تحريك هذا الواقع من جديد.
فصاحب مشروع النهوض التراثي، مثلًا، يصدر عن صورة جامدة للإنسان المسلم، يشترط فيه أن يكون على مواصفات متعالية عن التاريخ، حتى إذا تَم التسليم له بهذه المواصفات، انطلق ليؤسس لعالم تسود فيه قيم المسلمين. ولا يختلف صاحب مشروع النهوض الحداثي عن صاحب مشروع النهوض الإسلامي في جوهر الأمر. إذ يصدر عن تمثّل جامد لماهية الإنسان الحديث، ويتحكم في تصوره لحداثة عربية إسلامية ناجحة على أرض الواقع.
لعل كثيرًا من المشتغلين بمشاريع النهوض في العالم العربي والإسلامي فاتَهم إدراك ما أدركه مثقفو الغرب وفلاسفته الذين عملوا على تفكيك الحداثة العقلية، وهم يرومون الانعتاق من أسر عقلانية غربية طوباوية. لم يدركوا أن الواقع مثل اسمه يقع، وأن كل تأسيس عقلي للوجود ينتهي إلى عالم ذي بعد واحد، إلى حضارة إنسانية ذات مدة صلاحية محدودة.
قد يصحّ القول إن الكتابات التي ظلت، من داخل الغرب، تنشد الخروج من مضايق الغرب ومتاهاته الفكرية الفلسفية، من قبيل ما كتب ميشيل فوكو عن الفكر الخارجي أو التفكير من الخارج، أو ما كتب كينث وايت عن وجوه من الخارج، هي كتابات لم تتخلص من المركزية الأوروبية. هذا ما تسعى إلى إثباته الفيلسوفة الألمانية ميكائيلا أوت في كتابها المعنون “ما المقصود بالخروج من الفكر/ خارج الفكر”، إذ تعيب على أصحاب هذه الكتابات أنهم لم يبوِّئوا رموز الفكر الآخرين، من العالم الخارجي، المكانةَ التي يستحقونها.
من يطلب الانتصار على الغرب بوسائله، فهو بالضرورة عاجز عن الإبداع بعيدًا عن سقف العقلانية التي أنتجت الحضارة الغربية المهيمنة في عالمنا اليوم
إذا صحّ أن حديث الغربيين عن التوسل بالمغامرة وممارسة الجولان الفكري خارج حدود الغرب بقصد الانعتاق من أسْر المنظومة العقلانية الغربية يعكس تمركزًا حول الذات الغربية من بعض الوجوه، فهذا لا يعني أنّ الخروج من تاريخ العقل والعقلانية الغربية لا يجوز أن يكون مطلبًا عربيًا إسلاميًا. بل إن حاجة العرب والمسلمين إلى هذا الخروج أشد من حاجة هؤلاء المفكرين. ذلك لأنهم وهم يتوسّلون بوسائل الغرب العقلية إنما يزيدون انغماسًا في تاريخ هذا الغرب، وأقصى ما يمكن أن يطمحوا إليه هو أن يصيروا غربًا آخر.
توحي كتابات بعض المفكرين العرب والمسلمين أن هدف المقاومة في فلسطين اليوم هو بلوغ مركزية عربية إسلامية مكان المركزية الغربية. ولعل هذا مردّه إلى أنها كتابات تصدر عن عقلية لا تعي أنها تسعى للانتصار على الغرب بوسائله. من كان هذا حاله، أي يطلب الانتصار على الغرب بوسائله، فهو بالضرورة عاجز عن الإبداع بعيدًا عن سقف العقلانية التي أنتجت الحضارة الغربية المهيمنة في عالمنا اليوم.
هذه الحضارة التي استنفدت أغراضها وصار سقوطها حتميًا، كما يدل على ذلك عجزُها عن صناعة السلم والسلام وتسويغُها للإبادة، واكتفاؤُها باقتراح توازن الرعب بين القوى الكبرى كأقصى ما يمكن اقتراحه.
إن الحضارة الغربية المهيمنة مشروع طوباوي بدأ بفرض العقل على الواقع، متوسلًا في البداية بهذا العقل أداةً لتثبيت حقيقة الأشياء، ثم بالفلسفة نظرةً للوجود، ثم بالتقنية والتكنولوجيا آلةً لصناعة الواقع والتحكم في مخرجاته. وهذه الحضارة، مثل سابقاتها التي أرادت العلو في الأرض، هي اليوم على مشارف الانهيار.
وما يدل على هذا الانهيار هو ترّهات المرشحين لتولي رئاسة أعظم قوة في العالم. لقد بلغت الانتخابات الأميركية درجة من العبث دفعت الكثيرين إلى إعادة النظر في معنى الديمقراطية، حتى إن أصواتًا كثيرة صارت تعلن معارضتها مسلسل الديمقراطية وترى فيه مهزلة ومضيعة للوقت، ومجلبة للمضرة أكثر من المنفعة. هذا ما يرشح من قراءة كتاب “ضد الديمقراطية” لصاحبه جيسون برينان.
أمام نهاية النموذج الحضاري الغربي، يجد الفكر الفلسفي في السياق العربي الإسلامي نفسه في مأزِق حقيقي يصعب الخروج منه. فهو من ناحية مطالب بالاشتغال بمقتضيات المقاومة لهذا النموذج؛ سعيًا للتحرر من قبضته ودفعًا لتسلطه؛ كما أنه من ناحية أخرى مطالب بالاشتغال بمقتضيات التخليق للواقع الكوني؛ طمعًا في بلوغ نموذج حضاري يكون أقل تسلطًا وأكثر عدلًا.
توحي كتابات بعض المفكرين العرب المسلمين أن هدف المقاومة في فلسطين اليوم هو بلوغ مركزية عربية إسلامية مكان المركزية الغربية، مما يعكس سعيًا للانتصار على الغرب بوسائله
حين يشتغل المفكر الفيلسوف في السياق العربي الإسلامي بمقتضيات المقاومة وتحت سقفها، يجد نفسه يتقمص دور الخليفة، فيقفز على تناقضات الواقع العربي الإسلامي الذي يطبعه التمزق وإكراهات الدولة القُطرية، كي يستدعي مفهومًا ذهنيًا للأمة كوحدة متجانسة، بعيدًا عن الصراعات السياسية القائمة بين مختلف مكوناتها. وهذا في وقت يجب أن يكون أكثر واقعية حتى يتمكن من بناء تصور واقعي عن طبيعة الصراع قد يسهم في تسديد فعل المقاومة ومده بأفق لا يراه المقاوم في الميدان.
كما أن هذا المفكر الفيلسوف، حين يتماهى مع المقاوم الذي يطلب التسلح بأسلحة الحضارة المتسلطة كي يضع الذات الطاهرة المتخيلة مكان ذات غير المدنسة، لا يبدع شيئًا جديدًا يُذكر أكثر مما أبدعه المقاوم في الميدان. فهو لا يقوى على توسيع مفهوم المقاومة توسيعًا يخاطب الطالبَ في الجامعة الأميركية والمناضلَ في الحزب الأوروبي، والإنسانَ ذا الفطرة السليمة في السياق الكوني.
يجد المفكر الفيلسوف في السياق العربي الإسلامي نفسه ممزقًا بين مقتضيات المقاومة من أجل إثبات الذات تحت سقف الحضارة المهيمنة الغاشمة الظالمة، وبين مقتضيات تخليق الحضارة، وهو التخليق الذي يقتضي بلاغةَ وعظ وإرشاد وتذكير، بدل الانغماس في صنع التصورات الفلسفية، الواحد تلو الآخر، لإحلال الذات مكان الغير، أو ابتكار وسائل التدمير التقنية والتكنولوجية.
فما أحوج الخطاب الفكري الفلسفي في السياق العربي الإسلامي إلى تمثل صحيح لدور الفكر وقيمته المضافة في زمن المقاومة. فالمفكر ليس مقاومًا يحمل بندقية، وإنما هو مفكر ينظر في مسببات الأشياء ومآلاتها، ويجتهد من أجل المساهمة في فتح العالم على إمكانات غير منظورة. إذا كان المقاوم يرى في المقاومة هدفًا في حد ذاته؛ فإن المفكر يرى فيها وسيلة لغاية أخلاقية مثلى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.