غزة- مستندًا إلى جدّه، يقف الطفل فارس الجاسر (13 عاما) على قدم واحدة رافعًا قدمه الأخرى التي تخترقها أسياخ البلاتين، على قارعة الطريق تحت شمس الظهيرة، ينتظران مرور عربة تقلّهما إلى المستشفى الإندونيسي، لتغيير ضمادات جروح الفتى ومراجعة الطبيب المختص.
وفارس هو الناجي الوحيد من مجزرة قضت على والديه وإخوته قبل شهرين في جباليا شمالي قطاع غزة، وبقي وحيدًا يكتوي بنار فراقهم أولًا، وبالحروق التي أكلت فيها النار لحم ساقه اليمنى ثانيًا.
قابلت الجزيرة نت فارس في المنزل الذي نزح إليه مع جديه بعد تدمير منزلهم، حيث تفضح عيناه وجعه، ويقول “أتألم جدا، البلاتين ثقيل ولا أستطيع التعايش معه أو تقبله خلال قيامي ونومي وتبديل ملابسي”.
لا يبرح الفتى غرفة نزوحه إلا إلى المستشفى، ويصف خروجه إليه بأنه “مشوار قاس جدا” حيث يقف مدة طويلة لإيجاد وسيلة مواصلات تقلّه، أو يستلف كرسيا بعجلات من أحد الجيران يقطع فيه طريقًا وعرًا لمدة تزيد على نصف ساعة حتى الوصول إلى المستشفى.
جراحة من دون تخدير
في المستشفى الأهلي العربي “المعمداني” تجولت الجزيرة نت في أروقة قسم جراحة العظام، لرصد معاناة جرحى البلاتين، قادنا صوت صراخ أحدهم إلى قصته؛ إنه مصاب يتفقد الممرضون وضعه الصحي بعد العملية الجراحية العاشرة التي أُجريت له في ساقيه.
“من دون تخدير” تقوم الكوادر الطبية بتغيير الضمادات على جروح محمد عاشور، وبإزالة الصديد الناتج عن مضاعفات العمليات المتكررة، فأدوية التخدير لم تعد متوفرة كما المسكنات التي لم يتبقّ منها إلا القليل، بسبب العدوان والحصار المستمر منذ قرابة عام.
“لم يعد يحتمل أي وجع، وحين يلمسه الممرضون يصرخ كالأطفال”، هكذا تقول سوزان زوجة محمد الذي لم يغادر أسرّة المشافي منذ 7 أشهر.
تقلّب الزوجة صور هاتفها لتطلعنا على التسلخات التي سبّبها استلقاء محمد على ظهره مدة طويلة. وتقول “حالته تتدهور، لم يعد جسمه يستجيب للمضادات الحيوية، أو يتقبّل وجود مسامير البلاتين فيه”.
حوصر محمد في مجمع الشفاء الطبي أكثر من أسبوعين، فسبّب له ذلك انتكاسة صحية وتعفنًا والتهابات حادة في ساقيه، وما زال حتى اليوم يعاني ويلاتها دون جدوى. يُخبرها الأطباء أن جهاز البلاتين سيستغرق عامًا في ساقه على الأقل، تبكي وتقول “لقد ذبتُ بين نار عدم قدرتي على ترك زوجي وحده داخل المستشفى، ونار بعدي عن أبنائي الأربعة وتشتتهم منذ شهور عند الأقارب”.
مجاعة و”كسر العظم”
يبدو محمد كهيكل عظمي، يمنعه عجزه عن الاعتدال لتناول الطعام، كما أن غلاء الأسعار يحول دون شراء الطعام المناسب له؛ تقول سوزان “ليست لدي القدرة على شراء دجاجة بـ80 دولارا، محمد يقتات على الخيار والجرجير والمحاليل”.
هو السبب ذاته الذي أفقد راني دغمش نصف كتلته بعد أن كان وزنه يتجاوز 100 كيلوغرام قبل المجاعة. وقال للجزيرة نت وهو يكشف عن ظهره “قفصي الصدري أصبح ظاهرا”. وتحدث عن الانتكاسة وحالات الإغماء التي يتعرض لها بشكل متكرر مع تفاقم سوء التغذية، ويضيف “الكسور تحتاج فترات مضاعفة للالتئام لأننا لا نتناول إلا المعلبات منذ أشهر”.
ومنذ 11 شهرًا يعيش راني “20 عاما” طريح الفراش، لم يعدل ظهره، ولم يثنِ ركبته، ولا يتنقل إلا على حمّالة الجرحى إلى غرف العمليات في مشافي شمال القطاع.
وبينما تمتد أسياخ من البلاتين المزروعة في عظم فخذه حتى أسفل الركبة إلى خارج جسده، فقد تعرّض الشاب عيد لاستهداف داخل مسجد في حي تل الهوى غربي غزة، تفتت على إثره عظم ساقه، فدفع وضعه الأطباء إلى تركيب بلاتين لوصل العظم، وهو يحتاج فترة أخرى من العلاج ليتمكن من الوقوف على ساقيه. يقول “قدمي لا تلمس الأرض، هناك نقص في العظم طوله 5 سنتيمترات”.
أما راني فصمت برهة ثم ختم المقابلة “اتركوني أمشي يوما واحدا فقط مثل الإنسان الطبيعي ثم دعوني أجلس، تعبت كثيرا”.
مثل الكيّ
ككتل نار ملتهبة تمتد من داخل أجسادهم إلى خارجها، يصف الجرحى أعمدة البلاتين المثبتة على أطرافهم، فهو “مثل الكيّ بالنار، لا يوصف يا ابنتي” كما أجابتنا السيدة أم علي النمر، حين سألناها عن طبيعة الألم الذي يسببه البلاتين.
تقول أم علي كلمة وتصمت برهة، تلتقط الهواء من أنابيب الأكسجين المثبّتة في أنفها، ثم تذكر حادثة إصابتها “صاروخ نزل على قدميّ حين كنت أقف لإعداد الفطور لأسرتي، استشهد زوجي وابنتي وعمي، وبقيت بلا أي جزء سليم في جسدي”.
منذ أيام وهي كصنم مثبت على الفراش، لا تستطيع تحريك أي من أطرافها، وتعتمد على المحاليل فقط في طعامها، ولا تستطيع الذهاب لقضاء حاجتها ككل المصابين الذين قابلناهم.
هل تعبتِ؟ أجاب دمعها ولم تنبس ببنت شفة، ثم تمتمت “الله يصبرني على الوجع”.
يطوّعون البلاتين
قابلت الجزيرة نت استشاري طب وجراحه العظام والقائم بأعمال مدير المستشفى المعمداني الدكتور فضل نعيم الذي قال “إن الأطباء يلجؤون إلى استخدام جهاز البلاتين الخارجي لتثبيت كسور العظام مؤقتا إلى حين استقرار منطقة الكسر”.
وعزا نعيم صعوبة التئام الكسور واستغراقها وقتًا طويلًا للتعافي إلى “المجاعة وسوء التغذية الصحية، وانعدام المواد الغذائية ذات القيم البنّاءة للعظام”. وقال إن هذه الأجهزة تؤدي بالعموم إلى حدوث التهابات حول المسامير التي تدخل من الجلد إلى العظم، كما تؤدي إلى تيبّس في المفاصل وضعف في العضلات، عدا عن المعاناة اليومية مع النظافة الشخصية واللباس والنوم.
وتحدث نعيم عن شحّ كبير في مواد التخدير ومسكّنات الألم، كما أن عددًا من المرضى تولّدت لديهم حالات من الإدمان على بعض المسكنات مما اضطرهم إلى تقنين صرفها ومراقبتها.
ولفت نعيم إلى أن آلاف المرضى بحاجة ملحّة للتحويل إلى العلاج في الخارج، لعدم توفر الإمكانات ولتكدّس الحالات وطول مدة الانتظار على قوائم العمليات، عدا عن عدم وجود مختصين بما يكفي في منطقة شمال القطاع.
وأوضح أن استمرار إغلاق المعابر وتأخر تحويلهم قد يؤدي في بعض الحالات إلى بتر أطرافهم أو التئام الكسور بشكل غير سوي.
وأكد القائم بأعمال مدير المستشفى أن المنظومة الصحية في العالم تخصص لكل منطقة في عظام الإنسان نوعا وشكلا من البلاتين المناسب، لكن الأطباء في غزة يضطرون إلى استخدام البلاتين البسيط ويعدّلونه بما يتلاءم مع العظم المصاب، كما أنهم اضطروا أخيرا إلى إعادة استخدام الأجهزة والمسامير ونقلها من مريض إلى آخر بعد تعقيمها.