نابلس– “كل الذين فقدتهم لم أودعهم ولم أدفنهم” عبارة يتناقلها الفلسطينيون منذ فجر اليوم الخميس عبر مواقع التواصل الاجتماعي، على لسان الأسير زكريا الزبيدي، بعد سماعهم خبر استشهاد نجله محمد.
وبحسب العبارة المتداولة، يقول الزبيدي “أبي توفي حين كنت في سجن جنين، وسمعت نعيه بسماعة المسجد، وأمي استشهدت بمعركة المخيم 2002 ودفنها الصليب الأحمر، وأخي طه دفنوه وأنا تحت حطام المخيم والبيوت المهدمة، ومن ثم استشهد شقيقي داود، ولم أستطع توديعهم جميعاً، ولم أتمكن من العزاء، لا أعرفه ولم أجربه ولم أمارسه بشكل شخصي”.
وكأن الفلسطينيين -بهذه العبارات- يخبرون الأسير الزبيدي داخل معتقله أنه أضيف لقائمة شهداء عائلته ابنه محمد، وأنه لن يراه أو يشارك بتشييعه أيضا كمن سبقه.
وفي قصف جوي عنيف تزامن وعملية اقتحام واسعة للجيش الإسرائيلي لمخيم الفارعة، استهدف طيران الاحتلال المسيَّر مجموعة من المقاومين في حي العقبة بمدينة طوباس شمال الضفة، مما أسفر عن استشهاد 5 مواطنين هم محمد الزبيدي ومحمد أبو زاغة (مخيم جنين) وأحمد أبو دواس وقصي عبد الرازق (مدينة طوباس) ومحمد أبو جمعة (30 عاما) من مخيم الفارعة جنوب طوباس.
معا وتحت اسم كتائب المقاومة (جنين وطوباس ومخيم الفارعة) استشهد المقاومون الخمسة وإن تفرقت مواقعهم الجغرافية، فقد التقوا بمدينة طوباس داخل منشأة من الصفيح (بركس) اتخذوها سترا لهم، لتمر عتمة الليل الدامس ومن ثم يواصلون مقاومتهم، لكن الاحتلال لم يمهلهم، فباغتهم بُعيد الثالثة فجرا بصواريخه القاتلة.
ويوصف المقاومون الخمسة بأنهم الأشرس في مقارعة الاحتلال الذي طاردهم عبر عمليات عسكرية كثيرة، كان آخرها “المخيمات الصيفية” التي أطلقها قبل 9 أيام ضد مدن طوباس وطولكرم وجنين.
الشهيد محمد نجل القائد الزبيدي
ينتمي الشهيد الزبيدي إلى عائلة مضحية ومناضلة، فهو نجل الأسير زكريا الزبيدي أحد مؤسسي كتائب شهداء الأقصى المحسوبة على حركة التحرير الوطني (فتح) وأحد أبطال “نفق الهروب” من سجن جلبوع الإسرائيلي مطلع سبتمبر/أيلول 2021.
وقد تزوج زكريا عام 2002 بعد مشاركته بمعركة “نيسان” إبان الاجتياح الإسرائيلي لمخيم جنين والتي وصف بأنه أحد أبطالها، وأنجب 3 أبناء: محمد وسميرة وحملا تيمنا اسميْ والديه، ومن ثم أنجب أصغرهم أيهم (12 عاما).
وفي حارة الفلوجة وسط مخيم جنين، ولد محمد عام 2003، وبالمدارس التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) تلقى تعليمه الأساسي، ثم انتقل لمدارس جنين الحكومية وبها أنهى الثانوية العامة، وعمل لاحقا في صيانة زجاج المركبات، وظل كذلك حتى طارده الاحتلال قبل بضعة أشهر.
وواصل محمد صعود سلم المقاومة أسوة بوالده وعائلته، فلاحقه الاحتلال وفشل في اعتقاله وحتى اغتياله مرات عدة، وقبل أيام “اقتحم الجنود الإسرائيليون منزل عائلته بالمخيم وعاثوا به دمارا وخرابا، وهددوا ذويه بقتله” كما يقول عمه جمال الزبيدي (أبو أنطون) للجزيرة نت.
وبالرغم من توقعهم استشهاد محمد، فإن الهم والحزن رافق العائلة منذ اللحظات الأولى لمطاردته. وعبر اتصال هاتفي من أحد أصدقائه تلقى أبو أنطون خبر استشهاده، ويقول “تلقينا أنا وعمه يحيى خبر استشهاد محمد عبر اتصالات هاتفية، ووالدته عرفت بذلك عبر صديقة ابنتها”.
وكأبيه وجده وأعمامه، خاض محمد دروب النضال من صغره، فجده لأبيه (محمد) توفي متأثرا بمرضه بالسرطان بعد الإفراج عنه من سجون الاحتلال عام 1993، ثم استشهدت جدته سميرة قبيل اجتياح مخيم جنين عام 2002، ليتوالى بعدها استشهاد أعمامه طه (عام 2002) وجبريل وداود ومن ثم أبناء عمه نعيم ومحمد خلال الأعوام الثلاثة الماضية.
ومنهم من استشهد أو بقي على قيد الحياة، أفنى أبناء عائلة الزبيدي سنوات طويلة من أعمارهم في سجون الاحتلال، ولا يزال زكريا يعزل داخل سجن ريمون منذ هروبه من سجن جلبوع. ويقول أبو أنطون “منذ احتلال إسرائيل للضفة عام 1967 ونحن نضحي، هذا قدر الناس الأوفياء لهذا الوطن ولن نحيد عن الطريق”.
وعلى درب محمد الزبيدي سار صديقه وابن مخيمه الذي استشهد معه محمد نظمي أبو زاغة (23 عاما) الذي ولد في حارة السمران بمخيم جنين، وتعلم بمدارسه. وكغيره من أبناء المخيم وشبابه، تأثر بالمقاومة ورجالها الذين استشهدوا أمام ناظريه ومنهم ابن عمه.
المحرران المؤسسان
ولد أحمد فواز فايز أبو دواس (24 عاما) الملقب بـ”السرديني” بمدينة طوباس لعائلة مناضلة، فوالده أسير سابق وأحد قيادات العمل الوطني وانتفاضة الحجارة أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وتعلم في مدارسها، ولم يكمل دراسته الجامعية نتيجة اعتقاله من قبل الاحتلال، حيث قضى في سجونه عدة سنوات خلال أكثر من عملية اعتقال.
وطورد أبو دواس منذ نحو 3 سنوات من سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وذلك بعد ظهور كتيبة طوباس المقاومة التي عرف بأنه أحد أبرز مؤسسيها، وحاول الاحتلال عبر اقتحامات كثيرة لمنزله ولمدينة طوباس اعتقاله طوال تلك الفترة، لكنه لم ينجح.
وفي مقابلة صحفية، يقول أبو دواس “المقاومة لن تتوقف، ونحن في كتيبة طوباس لن يردعنا الخوف أو اغتيال الاحتلال لأي منا، وهدفنا الشهادة ومهما لاحقتنا إسرائيل لن تنال منا”.
ومثل أبو دواس، طاردت إسرائيل صديقه قصي مجدي عبد الله عبد الرازق (26 عاما) منذ عدة سنوات، حيث يتهمه الاحتلال بأنه أحد المؤسسين لكتيبة طوباس المقاومة.
وقد ولد قصي في طوباس بين 5 أشقاء وشقيقات، حيث يشتغل والده بالأعمال الحرة، وأنهى تعليمه المدرسي الأساسي والثانوي بها، ومن ثم تعرض للاعتقال في سجون الاحتلال مرات عدة، ومع ظهور المقاومة في المدينة التحق بصفوفها ولاحقه الاحتلال وحاول اعتقاله مرات كثيرة إلى أن تمكن من اغتياله فجر اليوم.
القائد المثقف
وغير بعيد من طوباس، ولد الشهيد الخامس محمد سالم أبو جمعة (30 عاما) الملقب بـ”الأحتي” في مخيم الفارعة للاجئين جنوب المدينة في حارة النادي، وقد ترعرع بين 6 أشقاء (3 ذكور ومثلهم إناث) وتلقى تعليمه الأساسي والثانوي بمدارس المخيم، ومن ثم واصل تعليمه الجامعي بالتربية الابتدائية وأنهى دراسته واشتغل في أحد محال السوبر ماركت، وعرف بعلاقاته الاجتماعية المميزة.
وبينما نفت عائلة الشهيد أبو جمعة للجزيرة نت أن يكون الاحتلال قد أخبرهم بأن نجلهم “ملاحق ومطلوب ” نقلت مواقع التواصل صورا للشهيد عنونتها بأنه “قائد كتيبة الفارعة” في وقت تداول ناشطون مقاطع مصورة له وهو يشتبك مع جيش الاحتلال بمواقع عدة شمال الضفة.
وبينما شيعت جثامين شهداء الفارعة وطوباس، لا تزال عائلة الزبيدي تنتظر -لتشييع جثمان نجلها محمد وكذلك عائلة صديقه أبو زاغة- انسحاب الاحتلال من مخيمي جنين.