معضلة الرد وخطورة المجازفة
قبل أشهر، كانت إيران قد ردت على استهداف إسرائيل لقنصليتها في دمشق في أول أبريل/نيسان ومقتل عدد من ضباط الحرس الثوري، فأطلقت بعد نحو أسبوعين أكثر من 300 صاروخ ومسيّرة على إسرائيل، لكن ذلك الرد -على أهميته- اعتبر محدودا ومحسوبا عسكريا وسياسيا، ولم تعد “هيبة إيران” بعد اغتيال هنية على أراضيها تسمح أن يكون أي رد آخر محسوبا بالطريقة نفسها.
وإثر اغتيال إسماعيل هنية في طهران، بات الرد -الذي فات أوانه وتأخر أكثر من اللازم وفق محللين- معضلة إيرانية كبيرة، وأصبحت تبحث عن “معادلة صعبة وشائكة” تجمع بين ضربة انتقامية لا تكون رمزية، وليست قوية لتتسبب في حرب شاملة، وتكون في الوقت نفسه مقنعة للرأي العام الإيراني الداخلي و”محور المقاومة” ورادعة لإسرائيل.
وتشير تحليلات وتقديرات إلى غياب إجماع في إيران على ضرورة الرد، فهناك أطراف تخشى أن يجرها أي هجوم إلى حرب شاملة مع إسرائيل، وربما حتى مع الولايات المتحدة، وهناك أصوات -إصلاحية في معظمها- تدعو إلى البحث عن أسس لعلاقات أفضل مع الغرب والولايات المتحدة وجيرانها في المنطقة.
ومع المرحلة الانتقالية التي تعيشها إيران بعد وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي في سقوط طائرة ملتبس، وانتخاب الرئيس الجديد مسعود بزشكيان وتشكيل حكومة جديدة، ما زالت تتحسس ملفاتها، ويصعب عليها اتخاذ قرار كبير بحجم شن حرب لا تعرف مآلاتها، لذلك تسعى طهران لتفويت الفرصة على نتنياهو.
وفي هذا السياق، جاء تصريح المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي عن “كون التراجع التكتيكي أمام العدو لا ضير فيه”، إذ تعتقد إيران أن بنيامين نتنياهو يحاول جرها إلى حرب ستكون لها “تداعيات خطيرة”، باستهداف منشآتها العسكرية والاقتصادية والنووية، خصوصا إذا كانت على “أعتاب امتلاك القنبلة النووية”، قد تشكل رادعا نهائيا لإسرائيل.
وفي هذا السياق، قال محسن رضائي، رئيس الحرس الثوري الإيراني السابق، لشبكة سي إن إن، “لقد حققنا في العواقب المحتملة، ولن نسمح لنتنياهو، الذي يغرق في المستنقع، بإنقاذ نفسه. ستكون الإجراءات الإيرانية محسوبة للغاية”. وبعكس الإستراتيجية الإيرانية، لم يردع ذلك بنيامين نتنياهو الذي قرأ غياب الرد أو تأجيله على أنه عامل ضعف.
وليست الأوضاع الاقتصادية والسياسية الإيرانية في أحسن أحوالها في ظل العقوبات الاقتصادية الأميركية والغربية، ومع زيادة حدة التضخم وتراجع قيمة العملة الإيرانية، ومن شأن حرب مع إسرائيل أن تضغط أكثر على النواة المجتمعية، بما قد يؤدي إلى انفجارها.
وترى صحيفة “اعتماد” الإيرانية -ذات الميول الإصلاحية- (عدد 11 أغسطس/آب 2024) أن إيران لا ينبغي أن تتورط في حرب مباشرة مع إسرائيل، وأن السيناريوهات الممكنة يمكن أن تشمل “العودة إلى سياسة الصبر الإستراتيجي”، أو الحصول على امتيازات محورية من الغرب من خلال تغيير طريقة “الانتقام”.
وتذهب تحليلات إسرائيلية أيضا في هذا الاتجاه أيضا، ففي مقال بصحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية (عدد 22 سبتمبر/أيلول 2024) يرى الكاتب والمحلل السياسي راز تسيمت أن “القيادة الإيرانية تراجعت -على الأقل في الوقت الراهن- عن نيتها تكرار الهجوم الذي نفذته ضد إسرائيل في أبريل/نيسان الماضي، وذلك رغم أن كبار المسؤولين الإيرانيين واصلوا تأكيد التزامهم بالرد على اغتيال هنية”.
وحسب الصحيفة، يرجع ذلك القرار خصوصا إلى “دخول إدارة جديدة في طهران تسعى إلى استئناف المحادثات النووية وحل الأزمة الاقتصادية وكذلك تعزيز القوات الأميركية في المنطقة”، ويمثل هذا الوجود العسكري الأميركي الكثيف عامل ضغط على إيران يدفعها إلى تفضيل المناورة بمسألة الرد.
وأمام الحسابات الكثيرة والمعقدة، من المرجح -وفق المحللين- أن تلقي إيران بأعباء الرد أو مساندة حزب الله على أطراف “محور المقاومة” الأخرى -على محدودية التأثير العسكري- لكنها تدرك أن حجم الضرر الذي قد يلحق بالحزب في هذه الحرب سينعكس تلقائيا على المحور وعلى نفوذها ودورها.