ترفيه

هوس الناس بالألقاب – الاتحاد للأخبار

الألقاب أجد أن مستوطنها ومرتعها في العالم العربي وبعض الدول مثل الهند ودول آسيا الوسطى والمنظومة الشرقية، فهي كأنها نشأت فيها، ومن أجل ناسها، تجد ألقاباً فخمة، وكبيرة الحجم، ومن العيار الثقيل، كثير منها وهمي، وقليل الفائدة، ونادر منها صادق، وفيه العافية، ويليق بمن يحمله، صناع الألقاب الوهمية من تلامذة «غوبلز» الألماني الذكر، فهم يحسنونها، ويرسلونها للناس لجس النبض، ثم يواظبون عليها، ويواظبون في بثها بطريقة متكررة ومتشعبة ومتعمقة، حتى تصبح حقيقة من تلقاء ذاتها، تذهب إلى العالم الغربي والمتمدن فلا تجد لقباً إلا من عهود داثرة، وتجد ألقاباً متوارثة في عائلات أرستقراطية حاربتها الحروب المتعددة، والثورة الصناعية، ونظريات الفلاسفة وعلماء الاجتماع، والقوانين المدنية، فلم يبق منها إلا ما هو أثناء لحظات التذكر للماضي البعيد أو أثناء الاكتتاب في ناد خاص يقدم وجبته المسائية عادة على فترات متباعدة، ومشروباته لا تتغير، لأن الناس الأعضاء لا يريدون أن يتغيروا، ولا يحبون أن يتغير الحال عليهم، أوروبا بلا ألقاب، وكل الذين يمكن أن تلتقي بهم من مثقفين وأساتذة جامعات، لا يكتبون حرف «الدال»؛ لأن أعمالهم وكتبهم وأبحاثهم وحدها الدالة عليهم، في أميركا يمكن أن يأتي الأستاذ الجامعي على دراجة هوائية، وببنطلون «جينز أو خاكي» لكن رأسه ثقيل بما فيه، ويمكن أن يتلاطف مع الطلبة مثل جيرانه في الحي، ويمكن أن يشرب معهم فنجان قهوة في المقهى الجامعي.
وأثناء الدراسة الجامعية الأولى في العالم العربي، كان الأستاذ العراقي لا يدخل علينا إلا وهو لابس بدلة صوفية مقلمة ورمادية من ثلاث قطع، وتفصيل عند «الترزي»، ومنديل في الجيب العلوي مع ربطة عنق معتنى بها، وقلم حبر محترم، وساعة ثقيلة مع خاتم كبير، لكن بصراحة ما يزيد هيبته عندنا غير تلك الأشياء، أنه فاهم ولديه ما يقوله ومتبحر في تخصصه، ويريدك أن تفهم، لأنك عربي، وكان الأستاذ الجامعي المصري أيضاً لا يقبل أن يتنازل عن هندام الباشا حين يدخل المدرج الجامعي، وبعضهم كان يدخن الغليون كجزء مكمل للأستاذ الجامعي في الصورة النمطية، كانوا لا يتنازلون عن مناداتهم بألقابهم أولاً، وألقابهم التي يحبونها، مثل: «الأستاذ الدكتور العميد أو الوكيل أو أستاذ كرسي»، لكن أثناء الدراسة الجامعية الثانية، فيما بعد في باريس مثلاً، كانت الأستاذة الجامعية التي لا نعرف بأي لقب يمكن أن نخاطبها، فنستعيض عن ذلك بصيغة الجمع لمخاطبة المفرد على الطريقة الفرنسية تأدباً، هذه المُدرسة التي تشبه عاصرة العنب في الريف الفرنسي حيناً، وحيناً تشبه عارضات «كوكو شانيل» بذلك «التايور»، كانت تشعرنا وكأننا زملاؤها المخلصون، وحين دعتنا لأول مرة إلى مشرب ومقهى للتعرف على الحضارة الفرنسية كمقرر من خلاله، وما يقدم من مشروبات فرنسية تقليدية، ومخبوزات وأجبان، ذهلت كيف يمكن لطالب مثلي ختم القرآن قبل أن ينهي الشهادة الابتدائية أن يدخل مع معلمته إلى مكان مشبوه في ثقافتنا، بغض النظر عن المعرفة والتعرف على تفاصيل الحضارة الفرنسية، وشرحها المسهب، لأن التفكير ساعتها بعيد جداً، وكدت يومها أن يغمى عليّ من الخجل والارتباك ونسف الثوابت في الثقافة العربية المتوارثة.
اليوم.. أكاد أضحك بقهقهة حين أتذكر ألقاباً كانت تطلق على الفنانين القدامى، وقد لا يستحقونها، مثل: «الراقصة اللهلوبة»، وهي كأنها فرس النهر، و«المونولوجيست الجامعي» وكانت شهادته أنه يبيع في الكافتيريا الجامعية، و«مطرب الإذاعة والتلفزيون»، وهذا بالذات مصيره تعاطٍ ثم حبس، ثم هزال حتى الموت، و«مطرب مصر والسودان»، أو «مطرب النيلين»، وهو لا يشبه موحد القطرين، و«نجم الفكاهة والنكت»، وهذا شكله «سيرك» أو «كومبارس» في السينما، و«مطرب المساء والسهرة»، وهذا لقب لا يمكن أن يترجم إلى أي لغة حيّة، وتحترم نفسها.
ألقاب أعمت عيوننا، وأخرست أفواهنا، وضيعت عقولنا، مثلما تضيعنا اليوم ألقاب جديدة مثل «سي. أي. أو. أو بي. آر.» أو «العضو المنتدب» أو «صانع محتوى» أو «مؤثر» أو «مدرب ومدلك في فنون الحياة»!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى