بيرات، ألبانيا – تعد مدينة بيرات جنوب ألبانيا، بمثابة حاضنة لكنوز التراث الثقافي الألباني بتنوعه الفريد والواسع.. فأعلى التل المرتفع تقبع قلعتها التاريخية مثل التاج منذ 24 قرنا، كأرشيف حجري يحكي لنا قصة تطور فنون العمارة الإنسانية عبر العصور.
وفي وسط قلعتها يقع أقدم جوامع ألبانيا الأثرية والذي تم بناؤه قبل حضور العثمانيين إلى المنطقة، بينما على صخرة شديد الانحدار في الجزء الجنوبي من القلعة تطل أجمل كنائس ألبانيا الأثرية بسمتها البيزنطية.
وإذا ما نزلت من القلعة إلى المدينة القديمة التي توسعت خلال الحقبة العثمانية، في الأسفل على ضفتي نهر أوسوم، الذي يتدفق من الشرق باتجاه الغرب، ستجد كنوزا معمارية رائعة استثنائية في المجمع الإسلامي التاريخي الذي يضم أكبر وأجمل جوامع ألبانيا الأثرية، ويحتضن كذلك أجمل تكية للصوفية في البلقان.
فإذا ما التفت باتجاه النهر فإنك ستشاهد أكبر وأجمل جسر حجري تم بناؤه في منطقة الجنوب الألباني قبل 5 قرون، وهو من الجسور القليلة التي ما زالت تستخدم حتى يومنا هذا بعد إعادة ترميمه عدة مرات في فترات زمنية مختلفة.
وإذا صوبت نظرك تجاه الحي الذي يقع أسفل قلعتها، على الضفة الشمالية لنهر أوسوم، ستنبهر بروعة الطراز العثماني لمبانيها القديمة، وستقف مندهشا من جمال مشهد نوافذها المستطيلة الكثيرة التي تصطف جنبا إلى جنب في كل جدار، ويعلو بعضها فوق بعض مع كل طابق في مشهد نادر وكأن المباني ما هي إلا “نوافذ فوق النوافذ”!
لكنك ستنبهر أكثر حينما تعلم أن كل ما سبق ذكره من كنوز التراث الثقافي المعماري لمدينة بيرات يأتي ضمن 210 معالم أثرية، منها 150 معلما، ما زال بحالة جيدة، من بينها 60 معلما من الفئة الأولى، والبقية من الفئة الثانية.
في هذه اللحظات المثيرة ستشعر بأن كل ما حولك من معالم أثرية يرجع بك للوراء أزمنة عديدة.. وقتها ستدرك بأن زيارتك لمدينة بيرات، والتي كانت نقطة اتصال بين إمبراطوريات وحضارات الغرب والشرق على مدى أكثر من ألفي عام..
وتقع في جنوب العاصمة الألبانية تيرانا بنحو 70 كيلومترا، زيارة “تاريخية، غير مسبوقة.. واستثنائية، فريدة من نوعها”.
لكن ذهولك لن يتوقف، بل سيستمر وأنت تعايش بنفسك على مدار ساعات تراثا إنسانيا إضافيا غير ملموس، يتمثل في عادات وتقاليد راسخة لدى سكان هذه المنطقة، يأتي في مقدمتها روح التعايش في أبهى صوره بين أبناء المجتمعات الدينية في المدينة، وهو ما ساهم بشكل كبير في الحفاظ على هذا الإرث الإنساني المتنوع وعدم محوه أو تلاشيه حتى اليوم.
وكل هذا دفع بالحكومة الألبانية عام 1961 إلى إعلان بيرات “مدينة متحفية” محمية من الدولة، كما أضيفت لاحقا إلى قائمة اليونسكو للتراث العالمي المحمي عام 2008 لاعتبارين، أولهما: كونها مثالا نادرا لمدينة عثمانية الطراز ما زالت محفوظة بحالة جيدة حتى اليوم، أما الاعتبار الثاني: فكونها نموذجا فريدا من نوعه في التعايش بين أتباع الديانات السماوية، مما ساهم بشكل كبير في لفت أنظار العالم إلى هذه البقعة الحضارية الثرية بتراثها المادي والمعنوي، أسفر عن إقبال متزايد من قبل السائحين من مختلف دول العالم على زيارتها والتعرف على تراثها.
وقد زارت “الجزيرة نت” بيرات الملقبة بمدينة “النوافذ فوق النوافذ” وقامت على مدى يومين بالتجول في دروبها الجميلة وأزقتها الضيقة وتصوير معالمها الثقافية والأثرية العديدة والكثيرة.
وفي هذا التقرير المعلوماتي المصور نصحبكم معنا للتعرف على أسرار هذه المدينة العتيقة.. وسنرسم لكم مسار برنامج نموذجي لزيارة غير مسبوقة إلى حاضنة كنوز التراث الثقافي الألبانية “بيرات”.
القلعة.. أرشيف حجري
نبدأ مغامرتنا المثيرة في مدينة بيرات من أقدم بقعة فيها وهي قلعتها التاريخية المبنية على تل صخري مرتفع شديد الانحدار، وتأخذ القلعة شكل مثلث، رأسه نحو الشرق وقاعدته باتجاه الغرب. ويبلغ محيط سورها 1440 مترا، وفيها 24 برجا وبوابتان تقع في الجهة الشمالية الشرقية. وتم وضع أسس القلعة الأولى في عهد الدولة الإليرية (أجداد الألبان) بنحو 4 قرون قبل الميلاد.
وأعيد بناء القلعة عدة مرات وعلى فترات زمنية متباعدة، وذلك في القرن السادس ثم الـ13 ثم الـ15 ثم الـ19، لذا أهميتها اليوم لا تنحصر فقط في كونها واحدة من أكبر القلاع في ألبانيا المأهولة بالسكان، بل في كونها بمثابة أرشيف حجري يحكي لنا قصة تطور فنون العمارة عبر القرون، بدءا من الحقبة الإليرية، ومرورا بالعصر الروماني ثم العصر البيزنطي بسمته الأرثوذكسية، وانتهاء بالعصر العثماني بسمته الإسلامية.
حينما تدخل من بوابتها الأولى فالثانية ترى أمامك فناء واسعا، وأمامك طرق قديمة مرصوفة بالحصى، وعلى أطرافها أسوار وأبراج القلعة، تسير وتتجول في دروبها الضيقة وتصعد على بعض أسوارها وتشعر بأنك ما زلت تسمع أقدام الجنود الرومان وهم يقاتلون نظراءهم الإليريين في نهاية القرن الثاني قبل الميلاد ليسطروا على هذه القلاع لمئات السنين.
وتشمل منطقة القلعة أطلال قصر قديم، بجانب كنائس بيزنطية عديدة، يعود معظمها إلى القرنين الثاني والـ13، ويحوي عدد منها رسوما جدارية وأيقونات غاية في الأهمية القيمة، كما عثر مؤخرا على مخطوطات إنجيلية نادرة.
تسير وتسير باتجاه الجنوب، فتبدأ معالم أثرية إسلامية في الظهور، فالقلعة تضم أطلالا لمسجدين أثريين مهدمين.. وهنا تتذكر كيف سيطر العثمانيون على هذه القلعة بسرعة عجيبة في نهاية العقد الثاني من القرن الـ15، وكعادتهم يعيدون بناء أسوارها وتجديد مبانيها من جديد.
دروب تزينت وبيوت تحولت لفنادق
واليوم، وبعد مرور سنوات على ضم اليونيسكو لمدينة بيرات إلى قائمة التراث العالمي المحمي عام 2008، أسفر ذلك عن طفرة هائلة في أعداد السياح الزائرين للمدينة التاريخية، مما دفع بسكان القلعة الذين يقدر عددهم بنحو 300 شخص يعيشون في عشرات من البيوت القديمة الأثرية التي تم بناؤها خلال القرنين الـ18 والـ19 الميلادي..
ويغلب عليها سمت الطراز العثماني، للإسراع بتجديد بيوتهم على طرازها القديم وتزيين الأزقة والدروب في أبهى وأجمل صورة، مما يحفز الزوار على أخذ استراحة في مقهى أو تناول الغداء في مطعم بجوار أسوار القلعة ليطل على المدينة من أعلى.
وهو ما يشعر الزائرين بسعادة عجيبة تلامس قلوبهم وتنشط عقولهم في التفكير كيف كانت الحياة بهذه القلعة على مدى كل هذه القرون المتعاقبة في وسط هذه الطبيعة الخلابة المحيطة بها من تلال خضراء تخترقها الأنهار وتصنع منها جنات حقيقية على هذه الأراضي.
التراث المسيحي.. متحف القلعة وأهم كنائسها
تواصل سيرك في دروب القلعة، وبين أزقتها الضيقة ترى متحفا يحتضن التراث المسيحي الألباني بسمته البيزنطي، بينما في كل اتجاه تتحرك فيها وتنظر إليه تشاهد الكنائس الأثرية التي ما زالت حاضرة، فلم تمس بسوء خلال الحقبة العثمانية الإسلامية.
والتراث المسيحي في مدينة بيرات يعد جزءا من التراث الألباني والعالمي، لذا نشير هنا إلى أهم معالم هذا التراث المتمثل في المتحف والكنائس الأقدم والأجمل.
متحف أونوفري الوطني للأيقونات
يقع متحف أونوفري الوطني الأيقوني، الذي تم افتتاحه في عام 1986، داخل كاتدرائية “رقاد القديسة مريم”، التي تعود إلى القرن الـ18، وتتميز هذه الكنيسة ذات الطراز ما بعد البيزنطي بحاجز أيقونسطاسي خشبي رائع مطلي بالذهب.
يحتوي المتحف كذلك على مجموعة قيمة من الأيقونات الدينية التي يعود تاريخها إلى القرن الـ14 وحتى القرن الـ19، وتتضمن أيضا أعمالا دينية مهمة للفنان الكبير أونوفري، الذي عاش في القرن الـ16 ويُعد أحد أعظم الفنانين الألبانيين في مجال الفن الديني.
يُعتبر المتحف مركزا مهاما لدراسة وتوثيق الفن الأيقوني في ألبانيا، وله دور بارز في الحفاظ على التراث الثقافي والديني المسيحي الألباني.
وقد عثر تحت أرضية هذه الكنيسة في 12 أغسطس/آب 1968، على مخطوطتين مهمتين للغاية منسوبة لمدينة بيرات، وهما: مخطوطة (Codex Purpureus Beratinus) من القرن السادس الميلادي، و”المخطوطة الذهبية (Anthimi) من القرن التاسع الميلادي، وهما مسجلتان في قائمة أهم الأعمال الإنسانية المعروفة باسم “مذكرات العالم” تحت حماية اليونسكو. وتعد هذه المخطوطات كنزا من كنوز التراث الألباني والتراث البيزنطي.
- مخطوطة “Codex Purpureus Beratinus”: هي واحدة من أقدم المخطوطات المسيحية الموجودة في ألبانيا وتعتبر ذات أهمية كبيرة في تاريخ المسيحية، ومكتوبة باللغة اليونانية، وما يميز هذه المخطوطة هو أنها مكتوبة على رقوق مصبوغة باللون الأرجواني، وهو لون كان يُعتبر مخصصا للنبلاء والملوك في تلك الفترة. والنص مكتوب بحبر فضي وذهبي، مما يضفي على المخطوطة جمالا وروعة خاصة.
- بينما المخطوطة الثانية والمعروفة باسم “Codex Aureus Anthimi”: تعود إلى القرن التاسع الميلادي. وتحتوي على نصوص دينية مكتوبة باليونانية القديمة بحبر ذهبي، وهو ما يفسر تسميتها بـ”Aureus” التي تعني “الذهبي” في اللاتينية. وكان استخدام الحبر الذهبي رمزا للاحتفاء بالأناجيل والنصوص المقدسة في التقليد البيزنطي. وهو ما يُعتبر علامة على الفخامة والقدسية في النصوص الدينية.
أقدم وأجمل كنائس بيرات
ومما يعكس روح التسامح الديني والتعايش الإنساني الذي صبغ هذه المنطقة على مدى فترات تاريخها الطويل، علمك بأن القلعة التي بات غالبية سكانها من المسلمين، وكان فيها مسجدان اثنان فقط، فإنها ظلت تحتضن 10 كنائس بيزنطية أثرية تم الحفاظ عليها ولم يفكر العثمانيون بتحويل واحدة منها لمسجد، بل تم تجديد بعضها خلال الحقبة الإسلامية في العصر العثماني، مما جعل من بيرات نموذجا رائدا في التعايش بين أبناء المجتمعات الدينية المختلفة.
وتعود أقدم كنائس بيرات إلى القرنين الـ12 والـ13، ومن أقدمها وأجملها وأهمها 3:
- 1- كنيسة القديس ميخائيل.. أجمل الكنائس في ألبانيا:
من المعالم الأثرية المعمارية ذات الأهمية الاستثنائية كنيسة القديس ميخائيل التي تعود إلى القرن الـ14 الميلادي، والمبنية على صخرة شديد الانحدار في الجزء الجنوبي من القلعة “أعلى حي مانجلام”، لتطل على منظر رائع على نهر أوسوم وحي جوريتسا والتلال المرتفعة في 3 اتجاهات معا غربا وجنوبا وشرقا.
وتعد هذه الكنيسة بمثابة شهادة على إتقان تقنية “الكلوسوناغ” (Clusonage)، وهي تقنية بناء بيزنطية تجمع بين الحجارة والطوب. وتمثل هذه الكنيسة قيمة تاريخية كبيرة، عدا عن كونها تعتبر أجمل كنائس ألبانيا.
- 2- كنيسة القديسة مريم فلاهيرنا.. أقدم كنائس بيرات:
تعد كنيسة القديسة مريم فلاهيرنا أقدم كنائس بيرات، ومن أهم معالمها التاريخية والمعمارية، وأكبر عوامل الجذب السياحي الرئيسية لمدينة بيرات وألبانيا. وقد تم إعادة بناء وترميم الكنيسة في القرن الـ16، خلال الحقبة العثمانية، مما يعكس من جديد روح التسامح والتعايش بين أتباع الديانات التي صبغت تلك الفتر.
وتحتوي كنيسة القديسة مريم فلاهيرنا على لوحات جدارية على كامل السطح الداخلي، كان قد رسمها الفنان الألباني الشهير “نيكولا أونوفري” في عام 1578، والتي لحسن الحظ تم الحفاظ عليها جيدا في هذه الكنيسة، لذلك تعتبر هذه الكنيسة من كنوز التراث المعماري والرسم الجداري في بيرات.
- 3- كنيسة “القديس ترياد”.. مثال لمهارة استخدام سمات العمارة البيزنطية
تعتبر كنيسة “القديس ترياد” أحد أكثر المعالم الأثرية إثارة للاهتمام والخلابة في قلعة بيرات. حيث تم استخدام العديد من سمات العمارة البيزنطية في الكنيسة بمهارة، وبها رسوم جدارية غاية في روعة الأداء الفني، لكنها تعرضت للتلف، ويتم منذ سنوات إعادة ترميمها من قبل الحكومة الألبانية.
بنيت الكنيسة في عهد أندرونيكوس الثاني باليولوج (1282-1328)، على صخرة حجرية، بجوار الجدار الجنوبي لقلعة بيرات، وعام 1948 أُعلنت كنيسة “القديسة تريادا” معلما ثقافيا.
التراث الإسلامي.. جوامع القلعة الأثرية
اليوم، تضم أسوار قلعة بيرات أطلالا لمسجدين أثريين مهدمين، أحدهما بني قبل الحقبة العثمانية التي بدأت في عام 1417م، في حين المسجد الثاني تم بناؤه بعد فترة طويلة من سيطرة العثمانيين على قلعة المدينة، وهما:
- الجامع الأحمر.. أقدم مساجد ألبانيا الأثرية
يعد “الجامع الأحمر” أقدم المساجد الأثرية في بيرات وألبانيا، ووفق مؤرخين فقد تم بناؤه قبل حضور العثمانيين للمنطقة، وهو دليل على تعرف المنطقة على الإسلام بشكل محدود عبر تجار عرب مروا عليها كانوا قد أتوا من جهة الغرب عبر حوض البحر المتوسط.
ويستدل هؤلاء المؤرخون على كون الجامع الأحمر قد بنى قبل حضور العثمانيين بتقنيات ومواد البناء للجامع الأحمر، فإنها تختلف كليا عن جميع الجوامع التي تم بناؤها في ألبانيا بعد حضور العثمانيين، ومن ذلك أيضا أن المنارة بنيت على الجانب الأيسر للجامع وليس الأيمن مثل جميع الجوامع الأخرى. وتم إعلانه نصبا تذكاريا ثقافيا محميا من الدولة عام 1961.
- الجامع الأبيض.. لخدمة الجيش العثماني
كذلك يوجد داخل القلعة أطلال الجامع الأبيض، الذي بني بعد عام 1481 في عهد السلطان بايزيد الثاني 1481-1512 لخدمة الجيش العثماني لذلك كان بجوار خنادقهم مباشرة بجوار أسوار القلعة الغربية.
ويسمى بالأبيض بسبب المئذنة والجوانب التي استخدم فيها الحجر الأبيض والمنحوت بشكل أساسي. وهو أكبر من المسجد الأحمر. وتعرض للتدمير خلال الصراعات المسلحة بين المعارضة الألبانية للهيمنة العثمانية على الألبانية ومهاجمتها للحاميات العثمانية في العديد من القلاع بالمدن الألبانية ومن بينها قلعة بيرات. بدايات القرن الـ20.
قبل أن نترك القلعة للنزول للمدينة للتعرف على معالمها الأثرية والثقافية لا يفوتنا أخذ إطلالة بانورامية من برجها الجنوبي الذي يطل على حي جوريتسا المقابل على الضفة الجنوبية لنهر أوسوم، ومن جهة الشرق يطل على امتداد حي مانجلام الإسلامي ومعالمه العديدة الأثرية.
والآن نترك القلعة وننزل للمدينة القديمة ونرصد أهم المعالم في الطريق بين القلعة وحي مانجلام.
المتحف الإثنوغرافي.. حي مانجلام
خلال نزولنا للمدينة من الطريق الطويل الموصل إليها من القلعة أعلى يقابلنا بدايات حي مانجلام، وتبدأ بيوت الأثرياء القديمة في الظهور وقد تم تجديد العديد منها وتحويلها إلى فنادق لاستقبال الأعداد الكبيرة المتزايدة عاما بعد عام من السائحين من مختلف دول العالم لمشاهدة المدينة التي تقع على قائمة اليونسكو للتراث العالمي المحمي.
أول مبنى يلفت نظرنا على يسارنا وجدير بالتوقف على الرغم من كونه مغلقا حاليا للتجديد، هو مبنى المتحف الإثنوغرافي الوطني، الذي تأسس منذ عام 1979، داخل منزل عثماني يعود للقرن الـ18، بالقرب من قلعة بيرات. ويحتوي المتحف الإثنوغرافي على مجموعة غنية من 1300 قطعة، مما يعد بمثابة شهادة مهمة على الثقافة والتقاليد المثيرة للاهتمام والغنية لمنطقة بيرات.
ويعرض البيت في الطابق الأول، مقتنيات المنزل التقليدي المحلي القديم، من الملابس والأدوات المستخدمة، من قبل الحرفيين للفضة والنسيج، التي كانت تُمارس في المنزل لتلبية احتياجات الأسرة. بينما في الطابق العلوي، فإنه يضم غرف الشقة بأثاثها كما كانت قديما، المطبخ وغرف النوم والضيوف، حيث يتم عرض نمط الحياة والتنظيم والتقاليد والعادات لعائلة ألبانية ثرية في أواخر العصور الوسطى.
الجالية اليهودية في بيرات- حي مانجلام
نواصل سيرنا نحو الأسفل فيلفت نظرنا صالة من حجرة واحدة تحت أحد المباني وقد كتب عليها المتحف اليهودي.
وعلمنا أنه قبل سنوات قليلة افتتح أحد اليهود المقيمين في مدينة بيرات، في الطريق الموصل بين المدينة القديمة والقلعة، متحفا صغيرا عبارة عن حجرة واحدة لإحياء التراث اليهودي في مدينة بيرات. وركز المتحف على محنة اليهود خلال الاضطهاد النازي لهم ودور الألبان في حمايتهم من الألمان.
تاريخيا، اليهود كانوا جزءا من المجتمع المتعدد الثقافات في المدينة، حيث عاشوا جنبا إلى جنب مع المسلمين والمسيحيين. فقد تأسست الجالية اليهودية في بيرات في القرن الـ15، حينما أرسلهم السلطان العثماني إلى ألبانيا وتم توزيعهم على عدد من المدن الألبانية للعيش والإقامة بها ومن بينها بيرات.
في الوقت الحاضر، لا يوجد مجتمع يهودي كبير في بيرات، ولكن المدينة تظل شاهدة على تاريخ تعايش ديني وثقافي متعدد الجوانب، يشمل الإسلام والمسيحية واليهودية.
بوابة الباشا ـ حي مانجلام
في نهاية الطريق على يمينك باتجاه الغرب، ترى مبنى معماريا بديعا، وأمامه لافتة مكتوب عليها “بوابة الباشا”، فتدخل منها وترى تمثالا لصاحب هذا المكان وأسفله تاريخ مولده وحياته في هذا البيت الذي يعد مجموعة من القصور الفاخرة وأمامها فناء واسع حيث اشتهر بكرمه وعقد موائد إكرام كبيرة لضيوفه والمجتمع المحيط به.
“بوابة الباشا”، تعد نصبا ثقافيا بارزا من الفئة الأولى، وهو عبارة عن مبنى ذي قيمة معمارية وفنية عالية، يقع في وسط حي مانجلام وله دور تاريخي في إثراء التراث الثقافي لمدينة بيرات.
ويعود تاريخ بناء “بوابة الباشا” إلى النصف الثاني من القرن الـ18، في عهد أحمد كورت باشا. وتمثل هذه الفترة مرحلة مهمة من التطور الحضري والمعماري في مدينة بيرات، ويعتبر بناء هذه البوابة مثالا ممتازا لهذه الفترة من الفن والهندسة المعمارية. ويعد جزءا من الثروة الثقافية لألبانيا. ووجهة مثيرة للمهتمين بفنون الهندسة المعمارية والتاريخ.
المجمع الإسلامي التاريخي- حي مانجلام
على امتداد حي مانجلام باتجاه الشرق وبمحاذاة نهر أوسم تم بناء المركز التاريخي للمدينة “العثمانية”، وفي هذا المركز التاريخي انتشرت الأوقاف وتم بناء عدد من المساجد الأثرية المهمة خلال الفترة العثمانية، وتزايدت أعدادها على مدى قرون متتالية، وعكست وفق تواريخها الزمنية المتعاقبة التطور التدريجي لفنون العمارة الإسلامية بطابعها العثماني وسمتها الألبانية معا، والذي وصل لأوج قمته وروعته في القرن الـ18 الميلادي.
وهنا نستعرض 3 معالم مهمة ضمن المجمع الإسلامي الأثري:
- أ ـ جامع الملك.. أكبر وأجمل جوامع ألبانيا الأثرية
يعد مسجد الملك أو مسجد السلطان بايزيد الثاني، أحد أقدم مساجد مدينة بيرات التاريخية.
ومن أكبر المساجد الأثرية في ألبانيا وأجملها على الإطلاق. وقد تم إعلانه معلما ثقافيا منذ عام 1948، والجامع مزخرف بشكل بديع من داخله وهنا يعكس سمة الفن الإسلامي الذي يكره الفراغ.
وقد بناه السلطان بايزيد الثاني في نهاية القرن الـ15 في الفترة وفق المصادر التاريخية المختلفة (1480-1492م). وتم عمل عدة تجديدات له استمرت حتى القرن الـ19. ويتكون المسجد من قاعة الصلاة والرواق والمئذنة.
- ب – التكية الخلوتية.. أحمل تكايا البلقان
تعد التكية الخلوتية الواقعة في المجمع الإسلامي التاريخي في قلب حي مانجلام بمدينة بيرات الألبانية أجمل تكايا منطقة البلقان. تم بناؤها في القرن الـ15، لكن أعاد حاكم بيرات أحمد كورت باشا في عام 1782، بناءها من جديد.
وتتميز التكية بسقف خشبي منحوت ومزخرف على الطراز الباروكي المتوافق مع الفن الإسلامي، مع لوحات توصف بأنها أحد أفضل الإنجازات المعمارية في المدينة.
- ج ـ مساكن الدراويش
تم بناء مساكن الدراويش عام 1782 على يد أحمد كورت باشا، بجوار تكية الخلوتية من الجهة الجنوبية، وكانت بمثابة بيوت سكن للدراويش وكذلك بيت ضيافة للحجاج الذين كانوا ينظمون احتفالات دينية خلال سفرهم للحج.
تم استخدام الطابق السفلي بشكل أساسي لرعاية الدواب والحيوانات، بينما في الطابق العلوي كانت هناك شرفة جميلة على شكل رواق مرتكزة على أعمدة خشبية أمام غرف السكن.
- مسجد العزاب- نموذج عال لتطور فنون العمارة الإسلامية
نواصل سيرنا لكن نرجع للوراء باتجاه الغرب حيث مركز حي مانجلام الأثري الإسلامي وفي مقدمته والقلب منها يقع أحد أجمل وأروع جوامع بيرات الأثرية، والذي يعكس التطور الكبير الذي وصلت إليها فنون العمارة الإسلامية في بدايات القرن الـ19 الميلادي.
يقع جامع “العزاب”، في قلب حي مانجلام الإسلامي في الشارع الرئيسي للمدينة على ضفاف نهر أوسوم الشهير الذي يشطر المدينة التاريخية لحيين اثنين. وتم بناؤه عام 1827 للحرفيين العزاب (غير المتزوجين) في مدينة بيرات. حيث كان يخدمهم ويقومون بدور الحراسة للأسواق المجاورة في الوقت ذاته.
يعتبر جامع “العزاب”، أو جامع “سليمان باشا”، نصبا تذكاريا من النوع “المعماري” من الفئة الأولى، وتم اعتباره أحد المعالم التراثية الثقافية في مدينة بيرات في الثاني من يونيو/حزيران 1961، ويعد ذا قيمة معمارية عديدة ويمثل إنجازا عاليا من ناحية طرازه المعماري على مستوى بناء المعالم الدينية في مدينة بيرات.
يتميز جامع “العزاب”، بزخارفه الجدارية التي تغطي قاعة الصلاة في صفين اثنين من الداخل، وفي صف واحد من الخارج في جميع الاتجاهات، بينما قاعة الرواق تقع في الجزء الشمالي، وهي أعرض من قاعة الصلاة، وتقع المنارة يمين مدخل مبنى الصلاة في منتصف المسافة بين الرواق والمبنى الصلاة. ويتكون المسجد من طابقين ليتناسب مع التضاريس المنحدرة.
مركز حي مانجلام.. النوافذ فوق النوافذ
هنا تأتي الروعة ولحظة السعادة والاستمتاع بمشاهدة حي أثري كامل ما زال محفوظا بحالة جيدة، وبمجرد دخولك لحي مانجلام الإسلامي أسفل قلعتها التاريخية تشعر بأنك رجعت قرنين للوراء.
حي مانجلام الإسلامي يمثل بمنازله الأثرية الجميلة مدينة ذات طابع عثماني ما زالت محفوظة بحالة جيدة، كما تقول اليونسكو، وبنوافذه الكثيرة المستطيلة، إذ اشتهر بحي النوافذ فوق النوافذ ومنه أخذت مدينة بيرات هذا اللقب المشهور. ولا تزال غالبية المباني تحتوي على ديكورات وأثاث عتيق من تلك الحقبة.
وبدروبه الجميلة وأزقة الحي الضيقة التي تزينت للزائرين يعيش زوار هذا الحي مغامرة رائعة لا يمكن أن تمحى من ذاكرتهم بعد عودتهم لبلادهم.
جسر جوريكا على نهر أوسوم
وهنا وعلى ضفاف نهر أوسوم توشك رحلتنا على الانتهاء، فلم يبق أمامنا سوى مرحلتين فقط، الأولى ستكون فوق النهر، والثانية بعد عبوره إلى الضفة الجنوبية، وغالبا ما سيكون الوقت قد اقترب من الغروب وبدأت أنوار المدينة تسطع، مما يضفي أجواء شاعرية دافئة تزيد من روعة الحركة في أحضان التراث والطبيعة.
ويعد جسر جوريكا أحد كنوز التراث التاريخي والثقافي في ألبانيا. وأحد أهم المعالم الثقافية والمعمارية في بيرات في الوقت نفسه. وقد تم الانتهاء من بنائه بالكامل من الحجر من قبل الحاكم المحلي أحمد كورت باشا، في الفترة: 1777-1778.
يبلغ طوله 127 مترا، بينما يصل ارتفاعه 10 أمتار فوق النهر، وعرضه نحو 5.3 أمتار، وله 7 أقواس كبيرة، مما يجعله أحد أكبر الجسور الحجربة التي تم بناؤها في هذه الفترة الزمنية، وكذلك أحد الجسور القليلة التي لا تزال مستخدمة من تلك الحقبة حتى يومنا الحالي. وأعيد بناؤه مرة أخرى ليأخذ المظهر الذي يحتفظ به اليوم، في عام 1922 من قبل مجلس المدينة.
حي جوريتسا المسيحي
في محطتنا الأخيرة من برنامج زيارتنا لمدينة “النوافذ فوق النوافذ”، وعلى الضفة الجنوبية من نهر أوسوم، نتجول في حي أثري آخر كذلك على الطراز العثماني القديم.
فقد تم بناء حي جوريتسا المسيحي، في بطن التل المرتفع المواجه للتل العالي الذي تقع عليه قلعة بيرات. وجميع سكانه من المسيحيين وكنائسهم كذلك تنشر في الحي، وطابع البناء كذلك اتسم بالطراز العثماني، وتشاهد في كثير من مداخل المباني الكتابة العربية حاضرة، وتشير لأصحاب المبنى وسنة البناء.
تنتهي هنا جولتنا ولم يسعفنا الوقت لمشاهدة كل المعالم الأثرية التي تزخر بها مدينة بيرات، ولكن يشدونا الأمل ويملؤنا الشوق لتكرار زيارتنا لإعادة اكتشاف أسرار هذه المدينة التاريخية العتيقة التي تنافست الإمبراطوريات الكبرى على السيطرة عليها، وخلفت وراءها تراثها المعماري الذي يترجم ما وصلت إليه من تقدم في تقنيات البناء وفنون العمارة ومهارات النقش على الحجر والرسم على الخشب في ظل تعايش فريد حافظ على كل هذا التراث الإنساني المتنوع والمتعاقب عبر الزمان.