القدس المحتلة- في الذكرى 24 لاندلاع انتفاضة الأقصى تشهد فلسطين أطول حرب في تاريخها منذ بدء الصراع انطلاقا من بوابة الدفاع عن المسجد الأقصى أيضا، لكن ما زالت تفاصيل صباح يوم 28 سبتمبر/أيلول 2000 عالقة في ذاكرة المقدسيين عندما اقتحم زعيم المعارضة الإسرائيلية آنذاك أرييل شارون ساحات الأقصى المبارك بحماية ألفي جندي إسرائيلي.
وفي اليوم التالي للاقتحام والذي وافق يوم الجمعة، اندلعت مواجهات بين المصلين في حرم الأقصى الشريف وقوات الاحتلال التي فتحت نيران أسلحتها نحوهم، فاستشهد 7 فلسطينيين خلال ساعات، وأصيب العشرات بجراح، وسرعان ما امتدت المواجهات بالحجارة من القدس إلى كافة نقاط التماس بالأراضي الفلسطينية.
وقد استشهد خلال سنوات الانتفاضة الخمس 4412 مواطنا، وجرح نحو 49 ألفا، بينما قُتل 1100 إسرائيلي بينهم 300 جندي، وجرح نحو 4500 آخرين.
وفي الذكرى الـ24 لاندلاع انتفاضة الأقصى، حاورت الجزيرة نت الباحث في شؤون القدس زياد ابحيص عبر الهاتف من العاصمة الأردنية، والذي أكد أن الاحتلال الإسرائيلي يسعى للسيطرة على هذا المقدس وصولا للإحلال الديني فيه، وأن قوى اليمين القومي والديني ستستغل موسم الأعياد اليهودية الوشيك لتجديد عدوانها على الأقصى المبارك.
وفيما يلي نص الحوار:
-
هل كان شارون يدرك عند اقتحامه للأقصى جوهرَ الخلاف بين المشروع الصهيوني وإرادة الفلسطينيين؟
نعم، كان يدرك أن المسجد الأقصى يجسد جوهر الخلاف بين المشروع الصهيوني بطبيعته الاستعمارية الإلغائية، وبين إرادة الشعب الفلسطيني بالبقاء والمقاومة انطلاقا من هوية راسخة وامتداد إقليمي وعالمي واسع، فأراد أن يقول إن الأقصى ليس من القضايا التي يمكن تسويتها، وإنه بات أرضا إسرائيلية خالصة بعد احتلاله، كمقدمة لمجموعة من مقولاته التي آمن بها حول شطب حق العودة وفرض التسوية المناسبة لإسرائيل من طرف واحد.
وقد مهد ذلك بالفعل لتوليه رئاسة الوزراء لاحقا، وتسلمه مسؤولية خوض المواجهة التي أطلقها بيديه عن سابق تقدير لما يمكن أن يحمله اقتحامه من تداعيات.
-
كيف أُفرزت الصهيونية الدينية وما مآربها بالمسجد الأقصى؟
المشروع الصهيوني بدأ تحت قيادة نخبة أرادت للصهيونية أن تكون النسخة اليهودية من القومية العلمانية الغربية بما تحمله من نزعة استعمار وإلغاء، وأن تنتج نفسها على أرض فلسطين على هذا النمط لتحافظ على الرعاية الغربية لها عبر تماهيها مع النخبة الغربية وفكرها، وهذه القوى التي تسمي نفسها زورا “اليسار الصهيوني” وواقع الأمر أنها قوى صهيونية علمانية ليبرالية.
ومع بدء الهجرة الاستيطانية الصهيونية، أفرزت التجربة نسخة أخرى أكثر تشددا، تحتفظ ببعدها القومي العلماني ظاهرا لكنها تستمد تعريف القومية اليهودية من النص التوراتي باعتباره النص المؤسس للشعب اليهودي، وهذه النخبة جسدها تيار فلادومير جابوتنسكي في المنظمة الصهيونية ثم مناحيم بيغن في حزب “حيروت” أي “الحرية” بعد نشأة الكيان الصهيوني.
وجاء شارون لاحقا ليجمع حوله كتلة أوسع من الطيف السياسي فحوّله إلى حزب “الليكود” أي “التجمع” ويتواصل اليوم هذا التحول الصهيوني المستمر نحو اليمين ونحو المزيد من التمسك بالعناصر الدينية اليهودية ليفرز تيارا آخرا هو “الصهيونية الدينية”.
ويرى هذا التيار أن الصهيونية حركة قومية ودينية في الوقت عينه، ويجب أن تؤسس وطنا للشعب اليهودي وأن تحقق فيه إرادة الرب لشعبه، عبر فرض الروح اليهودية الخالصة وإلغاء كل من هو غير يهودي على هذه الأرض، وعبر تأسيس الهيكل في مكان المسجد الأقصى، وفرض التشريعات التوراتية، وهذا التيار هو التيار القائد في المجتمع الصهيوني اليوم.
-
كيف تغيرت النظرة تجاه المسجد الأقصى مع تحول القوى من صهيونية علمانية إلى قومية ثم دينية؟
كما كان شارون حلقة الوصل التي حولت أقلية بيغن إلى أكثرية، فقد كان حلقة الوصل كذلك في ملف المسجد الأقصى، فقاد تحول القوى القومية الصهيونية العلمانية الليبرالية إلى قوى قومية يمينية وصولا إلى الصهيونية الدينية التي خلفته.
وكان في الوقت ذاته حلقة الوصل بين سياسة “السيطرة على المسجد الأقصى” التي تبنتها القوى القومية العلمانية التي قصرت هدفها في الأقصى على وضعه تحت سيطرة شرطة الاحتلال، ليقدم هو في مكانها فكرة “السيادة على المسجد الأقصى” باعتبارها رؤية اليمين القومي العلماني تجاه المسجد، ولتنتهي في المحصلة إلى فكرة “الإحلال الديني في المسجد الأقصى” بتحويله إلى هيكل، والتي تقدمها الصهيونية الدينية اليوم.
-
أدى هذا التحول إلى اشتعال المواجهة من بوابة المسجد الأقصى فلو نُعرّج على أبرز محطات المواجهة؟
الانزياح الصهيوني المتتالي نحو تبني المقولات الأكثر تشددا والأقرب إلى توظيف النص التوراتي في المشروع الاستعماري كان يعني بالضرورة تصاعد الخطر والعدوان على المسجد الأقصى، وتصاعد جهود الدفاع عنه والتي لم تتأخر بدورها، فتُرجمت في هبّات وانتفاضات وحروب وفي تجربة الرباط المنظم من الأراضي المحتلة عام 1948.
وإذا كانت انتفاضة الأقصى عام 2000 ثالثة محطات المواجهة على الأقصى من بعد مجزرة الأقصى 1990 وهبة النفق 1996، فقد تلتها 7 محطات لاحقة بدءا من تجربة الحراك الشبابي بالقدس والاعتكافات التي خاضها عام 2013، وهبّة السكاكين (القدس) عام 2015 وهبّة باب الأسباط عام 2017 وهبّة باب الرحمة عام 2019.
وبالإضافة للهبّات المتتالية ومعركة سيف القدس عام 2021 ومعركة الاعتكاف في رمضان 1444 هـ/2023 ثم حرب طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتخلل كل ذلك تجربة الرباط المنظم ما بين 1996 وحتى حظر الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني عام 2015.
وباختصار كما تصاعد العدوان على المسجد الأقصى تصاعدت جهود الدفاع عنه وحماية هويته، وقدم فيها الشعب الفلسطيني الغالي والنفيس، باعتبارها معركة وجود.
-
بالتركيز على معركة طوفان الأقصى في أي سياق تأتي على وجه التحديد؟
يأتي طوفان الأقصى ليواجه ذروة فكرة الإلغاء والإحلال الديني في المسجد، فالاحتلال بدءا من عام 2017 -الذي اعترف فيه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل بشطريها- كان واضحا أنه ذاهب باتجاه حسم جميع الجبهات والحسم الديني في الأقصى أحدها.
وكان يريد أن يفرض تحويل الأقصى إلى مقدس مشترك بأي شكل من الأشكال تمهيدا لتحويله لاحقا إلى مقدس يهودي، فمسألة الاشتراك مؤقتة في العقل الصهيوني الحالي.
وجاء هذا الطوفان ليتوج فكرة رفض ومواجهة هذا الحسم من بوابة المسجد الأقصى، وليقول إن هذا الحسم لن يمر لأن هناك مقاومة وشعبا يقف في وجهه، فموضوع طوفان الأقصى لم يأتِ لأن الأقصى مقدس فقط رغم أهمية ذلك، ولكن ليقول إن تهويده لن يمر كما لن يمر إلغاء حق العودة وشطبنا من أرضنا وتهجيرنا، كما لن تمر محاولة يهودية الدولة وإنهاء أي وجود (فلسطيني) عربي إسلامي، ولن يمر التطبيع مع الخارج على أساس إلحاق العرب (الفلسطينيين) بالكيان الصهيوني باعتباره هو السيد والقائد في هذه المنطقة.
وجاء هذا الطوفان ليقول أيضا إننا نخوض حربا وجودية وإن بوابة معركة الطوفان هي الأقصى الشريف، وبالمقابل رد الكيان الصهيوني بكامل قواه ومنها تيار الصهيونية الدينية والليكود بالتمسك بفكرة الحسم على كل الجبهات.
فأعاد ترجمة الحسم على شكل إبادة في غزة وتهجير في الضفة الغربية وحسم في الأقصى المبارك وإنهاء لوجود الأونروا وحق العودة.
وتمسك الاحتلال بفكرة الحسم باعتبارها نظرية الحرب الحالية وبأنها يجب أن تنسحب على جميع الجبهات، وهذا ما يجعله يذهب إلى لبنان الآن والضفة الغربية ومختلف الأماكن، والأقصى يجسد فكرة هذا الحسم ويجسد عدم إمكانيته أيضا، لأنه في كل مرة كان يستطيع أن يستدعي قوى جديدة ومقاومة جديدة تمنعه، وأظن أنه سيبقى كذلك رغم كل هذا وسيتمكن من منع الحسم مرة أخرى.
-
نحن مقبلون على موسم الأعياد اليهودية الأطول والذي سيحلّ للمرة الأولى في ظل الحرب فكيف تقرأ المشهد؟
نعم، في الذكرى الـ24 للانتفاضة يتجدد موسم العدوان، فكثير من محطات الهبّات السابقة كانت تنطلق في سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول من العام الميلادي لتزامنها مع موسم الأعياد اليهودية الطويل الذي يتكون من 4 أعياد تشمل “رأس السنة العبرية والغفران والعُرش وختمة التوراة”.
وقد حولت قوى اليمين القومي الصهيوني وقوى الصهيونية الدينية هذه الأعياد إلى موسم العدوان الأشد على المسجد الأقصى، فتحول في المحصلة مع حضور إرادة المقاومة والتصدي إلى موسم “ثورات الأقصى” وهي ثورات مرشحة للتجدد اليوم مع استمرار المسار الصاعد للخطر الوجودي المحدق بالأقصى.